توقعات أحوال الطقس اليوم الأحد    وضعية السوق العشوائي لبيع السمك بالجملة بالجديدة: تحديات صحية وبيئية تهدد المستهلك    منتدى الصحافيين والإعلاميين الشباب يجتمع بمندوب الصحة بإقليم الجديدة    تلميذ يرسل مدير مؤسسة تعليمية إلى المستشفى بأولاد افرج    معرض القاهرة الدولي للكتاب .. حضور وازن للشاعر والإعلامي المغربي سعيد كوبريت في أمسية شعرية دولية    لقاء ينبش في ذاكرة ابن الموقت    الولايات المتحدة.. طائرات عسكرية لنقل المهاجرين المرحلين    الخارجية الأمريكية تقرر حظر رفع علم المثليين في السفارات والمباني الحكومية    طنجة.. حفل توزيع الشواهد التقديرية بثانوية طارق بن زياد    إسرائيل تفرج عن محمد الطوس أقدم معتقل فلسطيني في سجونها ضمن صفقة التبادل مع حماس    بطولة إيطاليا لكرة القدم .. نابولي يفوز على ضيفه يوفنتوس (2-1)    تدشين وإطلاق عدة مشاريع للتنمية الفلاحية والقروية بإقليمي تطوان وشفشاون    الكشف عن شعار "كان المغرب 2025"    تفكيك شبكة تزوير.. توقيف شخصين وحجز أختام ووثائق مزورة بطنجة    الدفاع الحسني الجديدي يتعاقد مع المدرب البرتغالي روي ألميدا    ملفات التعليم العالقة.. لقاءات مكثفة بين النقابات ووزارة التربية الوطنية    أغنية "Mani Ngwa" للرابور الناظوري A-JEY تسلط الضوء على معاناة الشباب في ظل الأزمات المعاصرة    "الحُلم صار حقيقة".. هتافات وزغاريد وألعاب نارية تستقبل أسرى فلسطينيين    أوروبا تأمل اتفاقا جديدا مع المغرب    استمرار الأجواء الباردة واحتمال عودة الأمطار للمملكة الأسبوع المقبل    القنصلية العامة للمملكة بمدريد تحتفل برأس السنة الامازيغية    هوية بصرية جديدة و برنامج ثقافي و فني لشهر فبراير 2025    حصار بوحمرون: هذه حصيلة حملة مواجهة تفشي الوباء بإقليم الناظور    أيوب الحومي يعود بقوة ويغني للصحراء المغربية    هذه خلاصات لقاء النقابات مع وزارة التربية الوطنية    ملتقى الدراسة في إسبانيا 2025: وجهة تعليمية جديدة للطلبة المغاربة    الجمعية المغربية للإغاثة المدنية تزور قنصليتي السنغال وغينيا بيساو في الداخلة لتعزيز التعاون    إفران: استفادة أزيد من 4000 أسرة من عملية واسعة النطاق لمواجهة آثار موجة البرد    جبهة "لاسامير" تنتقد فشل مجلس المنافسة في ضبط سوق المحروقات وتجدد المطالبة بإلغاء التحرير    أداء الأسبوع سلبي ببورصة البيضاء    فريدجي: الجهود الملكية تخدم إفريقيا    وزارة الصحة تعلن عن الإجراءات الصحية الجديدة لأداء مناسك العمرة    كيف كان ملك المغرب الوحيد من بين القادة العالميين الذي قرر تكريم ترامب بأرفع وسام قبل مغادرته البيت الأبيض بيوم واحد    من العروي إلى مصر :كتاب "العناد" في معرض القاهرة الدولي    "مرض غامض" يثير القلق في الهند    الأميرة للا حسناء تترأس حفل عشاء خيري لدعم العمل الإنساني والتعاون الدبلوماسي    فعاليات فنية وثقافية في بني عمارت تحتفل بمناسبة السنة الأمازيغية 2975    وزارة الصحة تعلن أمرا هاما للراغبين في أداء مناسك العمرة    إطلاق أول مدرسة لكرة السلة (إن بي أي) في المغرب    السياحة الصينية المغربية على موعد مع دينامية غير مسبوقة    إس.رائ..يل تطلق سراح أقدم أسير فل.سط..يني    حماس تسلم الصليب الأحمر 4 محتجزات إسرائيليات    المغرب يفرض تلقيحاً إلزاميًا للمسافرين إلى السعودية لأداء العمرة    مونديال 2026: ملاعب المملكة تفتح أبوابها أمام منتخبات إفريقيا لإجراء لقاءات التصفيات    لقجع.. استيراد اللحوم غير كافي ولولا هذا الأمر لكانت الأسعار أغلى بكثير    تيرغالين: الوداد وبركان لم يفاوضاني    الربط المائي بين "وادي المخازن ودار خروفة" يصل إلى مرحلة التجريب    "حادث خلال تدريب" يسلب حياة رياضية شابة في إيطاليا    ريال مدريد أكثر فريق تم إلغاء أهدافه في الليغا بتقنية "الفار"    نوفاكو فاشن: احتجاجات العمال غير مبررة وتسببت في خسائر فادحة    اثنان بجهة طنجة.. وزارة السياحة تُخصص 188 مليون درهم لتثمين قرى سياحية    أرقام فظيعة .. لا تخيف أحدا!    بالصدى .. بايتاس .. وزارة الصحة .. والحصبة    غياب لقاح المينانجيت في الصيدليات يعرقل سفرالمغاربة لأداء العمرة    أرسلان: الاتفاقيات الدولية في مجال الأسرة مقبولة ما لم تخالف أصول الإسلام    المجلس العلمي المحلي لإقليم الناظور يواصل برامجه التكوينية للحجاج والمعتمرين    ثمود هوليود: أنطولوجيا النار والتطهير    الأمازيغية :اللغة الأم….«أسكاس امباركي»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإرث بالتعصيب…هل هو وحي من الله أم رأي من الفقهاء؟
نشر في هوية بريس يوم 27 - 03 - 2018

سبب كتابة هذا المقال هو ما روجه بعض الموقعين على ورقة النداء بإلغاء الإرث بالتعصيب، إذ زعموا أن الإرث بالتعصيب هو مسألة اجتهادية ورأي قابل للتغيير والتبديل، ومرادهم بهذا الكلام أن يهونوا من شناعة مطلب النداء وأن يعطوه جواز المرور، كما لو أنه ليس فيه مصادمة لكلام الله سبحانه، أو معارضة لكلام المعصوم عليه الصلاة والسلام، وإنما هو مطلب أو نداء في مقابل آراء الرجال وإن كانوا فقهاء.
ولهذا يحسن بنا أن نبين لعموم الناس ما معنى الإرث بالتعصيب أو الإرث بالعصبة بأسلوب ميسر، وهل مبناه كان على الاجتهاد والرأي أم على نصوص الوحيين.
التعصيب: هو الإرث بغير تقدير، والعصبة في المواريث هم الذكور الذين يرثون بلا تقدير، وهم كل من يأخذ جميع المال عند الانفراد، أو يأخذ الباقي بعد أخذ أصحاب الفروض فروضهم وحقوقهم، وقد لا يبقى له شيء. وجهات العصوبة بنوّة، ثم أبوة، ثم أخوة وبنوهم، ثم أعمام وبنوهم. والدليل على توريث العصبة مستمد من كتاب الله وسنة نبيه وإجماع الأمة.
1- الأدلة العامة التي دلت على التوريث بالتعصيب
* السنة النبوية المحكمة
روى الإمامان البخاري ومسلم وغيرهما عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا تَرَكَتِ الْفَرَائِضُ فَلأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ».
وفي رواية واللفظ لمسلم: «اقْسِمُوا الْمَالَ بَيْنَ أَهْلِ الْفَرَائِضِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ فَمَا تَرَكَتِ الْفَرَائِضُ فَلأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ».
يعدّ هذا الحديث جامعاً لقواعد علم الفرائض التي هي نصف العلم، وهو يبين بأسلوب شامل وواضح:
كيفية قسمة المواريث المذكورة في كتاب الله لمن يستحقها؛
كيفية قسمة ما فضل من المال عن تلك القسمة مما لم يصرح به في القرآن من أحوال أولئك الورثة، ومراتبهم؛
كيفية توريث بقية العصبات الذين لم يصرح بتسميتهم في القرآن.
وذلك بأن يعطى أصحاب الفروض المقدرة فروضهم في كتاب الله «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا». وهى: الثلثان، والثلث، والسدس، والنصف، والربع، والثمن.
فما بقى بعدها، فإنه يعطى إلى من هو أقرب إلى الميت من الرجال لأنهم الأصل في التعصيب «فَمَا تَرَكَتِ الْفَرَائِضُ فَلأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ»، وهو مقتضى عموم كلام النبي عليه الصلاة والسلام الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. فيتم تقديم العصبة على ترتيب منازلهم وقربهم من الميت.
وهذا الحكم محل إجماع بين أهل العلم، وقد نقل هذا الإجماع غير واحد من العلماء، من بينهم:
أبو الحسنابن بطال المالكي (ت449) في كتابه شرح صحيح البخاري،فقال: "وأجمعوا أن ما فضل من المال عن أصحاب الفرائض فهو للعصبة". اه
أبو الحسن ابن القطان الفاسي المالكي (ت 628) في الإقناع في مسائل الإجماع، فقال: "وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألحقوا الفرائض بأهلها، وما بقي فلأولى رجل ذكر»، وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل المال للعصبة.وأجمع أهل العلم على القول به".اه
أبو زكريا يحيىالنووي الشافعي (ت 676) في شرح مسلم، فقال: "وقد أجمع المسلمون على أن ما بقي بعد الفروض فهو للعصبات يقدم الأقرب فالأقرب،فلا يرث عاصب بعيد مع وجود قريب". اه
وبناء عليه، فحكم توريث بالتعصيب كان مبناه على أدلة نقلية عامة منالسنة والإجماع الذي كان مستنده النص، ولم يكن مبناهعلى الرأي والاستحسان كما يروجه الموقعون على نداء الإلغاء للتوريث بالتعصيب، وسيأتي تأكيد هذا الأمر بالأدلة التفصيلية.
2- الأدلة الخاصة التي دلت على التوريث بالتعصيب
* أب الميت يرث بالتعصيب وحيا من الله ورسوله وليس رأيا من الفقهاء.
قوله تعالى: ﴿وَلأَبَوَيْهِ لَكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ...﴾. الآية.
نصت الآية الكريمة على نصيب مفروض بالتساويلكل من الأبوين (الأب والأم) عند وجود أولاد الميت؛ وهو السدس: {وَلأَبَوَيْهِ لَكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ}.
وأما إذا لم يكن للميت أولاد، وله أبوان، فإن ثلث المال يكون من نصيب الأم بالفرض كما نصت الآية{فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ}، وباقي المال الذي هو الثلثان يكون من نصيب الأب بالتعصيب، ولا يتصور في الآية معنى آخر سوى ما ذُكر. وقد قرر جميع المفسرين هذا المعنى، ومنهم ابن جرير الطبري، قال في التفسير:
"فإن قال قائل: فمن الذي له الثلثان الآخران؟
قيل له: الأب.
فإن قال:بماذا؟
قلت: بأنه أقرب أهل الميت إليه،ولذلك ترك ذكر تسمية من له الثلثان الباقيان، إذ كان قد بيَّن على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم لعباده أن كل ميِّت فأقربُ عصبته بهأولى بميراثه، بعد إعطاء ذوي السهام المفروضة سهامهم من ميراثه". اه
– أخ الميت يرث بالتعصيب وحيا من الله ورسوله وليس رأيا من الفقهاء.
قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [جزء من آية النساء:11].
نصت الآية الكريمة على نصيب البنات عند عدم وجود الابن وهو الثلثان، وهن يشتركن فيه {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ}، ويبقى ثلث مال التركة، والذي قد يكون من نصيب الأخ بالتعصيب إما كاملا أو جزءا منه عند انعدام من يحجبه، وقد بينت السنة النبوية صورة كانت هي سبب نزول هذه الآية، ورث الأخ فيها بالتعصيب بعد أخذ أصحاب الفرائض حقوقهم، وكما هو مقرر في علم أصول الفقه أن سبب النزول قطعي في الدخول؛ أي تدل عليه الآية الكريمة دلالة قطعية لا يقبل التأويل.
روى أبو عيسى الترمذي وغيره عن جابر رضي الله عنه قال: جَاءَتِ امْرَأَةُ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِابْنَتَيْهَا مِنْ سَعْدٍ. فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَاتَانِ ابْنَتَا سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، قُتِلَ أَبُوهُمَا مَعَكَ فِي أُحُدٍ شَهِيداً، وَإِنَّ عَمَّهُمَا أَخَذَ مَالَهُمَا، فَلَمْ يَدَعْ لَهُمَا مَالاً، وَلاَ يُنْكَحَانِ إِلاَّ وَلَهُمَا مَالٌ.
قَالَ جابر: فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: «يَقْضِى اللَّهُ فِي ذَلِكَ».
قَالَ جابر رضي الله عنه: فَنَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ. فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى عَمِّهِمَا، فَقَالَ: «أَعْطِ ابْنَتَيْ سَعْدٍ الثُّلُثَيْنِ، وَأُمَّهُمَا الثُّمُنَ، وَمَا بَقِىَ فَهُوَ لَكَ».
فكان قضاء الله الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم هو توريث الأخ بالتعصيب بعد ما أخذ أصحاب الفروض حقوقهم. فلم يكن توريث الأخ رأيا رآه الفقهاء.
وحديث جابر صححه الحاكم في المستدرك، وفي سنده ابن عقيل وهو متكلم فيه، وقد قبِل جماعة من أهل العلم بالحديث حديثه واحتجوا به وخالفهم في ذلك آخرون، ولكن الشاهد منه محفوظ، فقد قال أبو عمر ابن عبد البر المالكي (ت 463) في الاستذكارعند حديث جابر: هذه سنة مجتمع عليها لا خلاف فيها والحمد لله.
– أخت الميت ترث بالتعصيب وحيا من الله ورسوله وليس رأيا من الفقهاء.
بداية، المرأة لا تكون عصبة، فالعصبة كل ذكر يدلي بنفسه بالقرابة ليس بينه وبين الميت أنثى، ولكن جرى على لسان الفقهاء تسمية الأخت مع بنت الميت عصبة، وقد بين القرطبي -نقلا من فتح الباري لابن حجر-سبب ذلك فقال رحمه الله: "وأما تسمية الفقهاء الأخت مع البنت عصبة فعلى سبيل التجوز؛ لأنها لما كانت في هذه المسألة تأخذ ما فضل عن البنت أشبهتالعاصب". اه.
رواه البخاري في الصحيح وغيره أنه سُئِلَ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عَنِ ابْنَةٍ وَابْنَةِ ابْنٍ وَأُخْتٍ؟ فَقَالَ: أَقْضِى فِيهَا بِمَا قَضَى النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- «لِلاِبْنَةِ النِّصْفُ، وَلاِبْنَةِ ابْنٍ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ، وَمَا بَقِىَ فَلِلأُخْتِ».
يدل هذا الحديث أن الأخت ورثت بالتعصيب قضاء من رسول الله كما شهد به ابن مسعود وأكده بقولهلأَقْضِيَنَّ فِيهَا بِقَضَاءِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم-. كما في صحيح البخاري.
وقد استقرالفقه الإسلامي على ما قضى بها النبي صلى الله عليه وسلمفي هذا الحديث، يقول الشوكاني في نيل الأوطار: وفيه دليل على أن الأخت مع البنت عصبة، تأخذ الباقي بعد فرضها إن لم يكن معها ابنة ابن، كما في حديث معاذ، وتأخذ الباقي بعد فرضها وفرض بنت الابن كما في حديث هزيل (أي حديث ابن مسعود)، وهذا مجمع عليه.
قلت: وحديث معاذ الذي ذكره الشوكاني ينقل صورة أخرى التي ترث فيها أخت الميت مع البنت وتصير الأخت عصبة، روى أبو دواد بسند صحيح عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ وَرَّثَ أُخْتًا وَابْنَةً فَجَعَلَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا النِّصْفَ وَهُوَ بِالْيَمَنِ وَنَبِىُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَئِذٍ حيّ.
ومما يجدر التنبيه عليه، أن ميراث أخت الميت بالتعصيب هو مثال واضح يبطل مزاعم الموقعين على النداء؛ وهي أن علة الإرث بالتعصيب هي الواجبات المالية التي أوجبها الله على العصبة -أي على الذكور من جهة عصبة الرجل-مثل ثمن الدية على عصبة القاتل أي على العاقلة، أو واجبات النفقة على الرجال من جهة العصبةللمرأة، وغيرها من الواجبات المالية التي هي على الرجال دون النساء، ولكن في هذين المثالين قد تخلفت تلك العلة المزعومة أو الدعوى المزعومة، وهذا يدل على أن ما عللوا به ليس صحيحا، وهو سبب كاف بإبطال مزاعم الموقعين على النداء.
وحري بنا كذلك أن نشير إشارة خفيفة أن لكل حكم من أحكام الشريعة حكمة وغاية، قد تظهر في بعض الأحكام جلية وقد تكون في أخرى خفية، والجلي منها لا ينضبط فضلا عن الخفي منها، وأمثل لكم بمثال واحد يتضمن حكمُه حكمةً جلية لتقريب المقصود:
الصلاة في السفر تصلى بالتقصير وهي رخصة من الله سبحانه، والحكمة من ذلك هو رفع المشقة على المسافر، وهي حكمة جلية لا يختلف فيها اثنان، ولو علقنا الحكم بحكمته وهي المشقة في هذا المثال لجاز أن نقصر الصلاة في الحضر حينمانشعربالمشقة، بل قد يتأتى لنا في بعض الأسفار راحة معينة تنفي عنا المشقة، ويكون إتمام الصلاة هو المطلوب في ذلك السفر، وبالتالي نقع في مخالفة مراد الله وحكمتهوسوء تطبيق لحكمه.
ولهذا أجمع العلماء على تعليق الحكم بالعلة التي هي وصف ظاهر منضبط، ولم يعلقوا الحكم على الحكمة لعدم انضباطها وإن كانت جلية. وفي المثال الذي ضربت كانت علة الحكم هي السفر، فالسفر وصف ظاهر منضبط، فحيث وجد السفر تكون رخصة التقصير وحيث غاب لم يشرع التقصير، كما أن السفر مظنة الحكمة التي هي المشقة؛ لأن غالب الأسفار فيها مشاق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "السفر قطعة من العذاب"، وبهذا تتحقق حكمة الشارع وانضباط أحكامه.
والغرض من هذا الكلام أن نصل إلى أنّ أقصى ما يتشبث به أصحاب نداء الإلغاء هو تعليق حكم التعصيب بالحكمة التي ظنوا أنها حكمة وهيهات هيهات؛ وهي أن الإرث بالتعصيب كان لحكمة في زمن التشريع وهي كثرة مسؤوليات المالية على الرجل دون المرأة، ولهذا استحق هذا التمييز، وبما أن المرأة أصبحت تعمل وتشتغل في وقتنا المعاصر فلابد أن نغير حكم الإرث بالتعصيب.
وهذه الحكمة التي زعموا أنها حكمة غير ظاهرة ولا منضبطة تماما، فقد كانت النساء في زمن الأول تشتغلن -وإن كنا قلة- ولهن أموال ترصد للتجارة أو الزراعة أو غيرهما، ولا تخفى على الجميع حال أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها صاحبة التجارة الكبيرة، ورغم ذلك شرع الله أحكام الإرث بالتعصيب، بل قدّم المرأة دون الرجل في حالة وجود بنت الميت وأخته وعمه، فأعطى للبنت النصف وللأخت النصف ولم يؤخذ العم شيئا، بل حتى أخ الميت غير الشقيق لا يؤخذ شيئا وتأخذ الأخت الشقيقة ما بقي من التركة، وهذا بيان واضح لعدم ظهور الحكمة المزعومة.
أما عدم انضباطها فلأن تعليق الحكم بهذه الحكمة المزعومة وهو المشاركة في العمل، والتي تقتضي أن نعطي المرأة العاملة ونمنع المرأة غير العاملة، فترث بنت لأنها كانت تساعد أباها في النفقة، ونمنع أختها لأنها لم تساعد أباها في النفقة، وهذا المقتضي يسري كذلك حتى على الرجال، فنعطي من يعمل ونمنع من لا يعمل، ونعيش في فوضى عدم انضباط الحكم كما مثلنا في المثال السابق بتقصير الصلاة وإن كانت الحكمة فيه جلية، فكيف بحكمة وهمية ليس لهاأساس ولا أزِمّة ولا خطام.
وما يصادفنا أحيانا من محاولة بعض العلماء أو الباحثين تلمس السر في التفرقة بين الذكر والأنثى في الميراث حينما تكون الأفضلية للذكر بسب التعصيب أو غيره،ما هي إلا محاولة منهم لمقاربة حكمة الحكم والباعث عليه،وليس لأجل تعليق الحكم به؛ لأن ما قيل من كلام في الموضوع غير ظاهر ولا منضبط ولا مؤثر في الحكم، والعاقل يجزم بكل اطمئنان وتسليم أن أنصبة الإرث من حيث هي نسب غير معقولة المعنى، ولا إمكانية لمعرفةعللها بالمعنى الأصولي، ولا مجال لتغييرها، فحقيقتها أمر تعبدي لا مجال للاجتهاد فيه... {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}.
وإذ كنا نقرر في هذا المقال أن الإرث بالتعصيب كان مبناه على القرآن الكريم والسنة النبوية والإجماع، وليس على مجرد الرأي والاجتهاد كما يدعيه أصحاب النداء، فإن الخلاف الحاصل في بعض مسائل الإرث بالتعصيب -وهي قليلة مرده إلى فهم النصوص الشرعية، وليس في أصل الدليل المتبع، كما أن اختلاف العلماء في مسألة ما ليس مسوغا للقفز على الأدلة الشرعية المحكمة أو على منظومة الإرث الثابتة بالأدلة القطعية،والذي جاء موضوع مقالنا ليبرهن عليها.
هذا المقال-الذي هو في حقيقة الأمر-موجه بالأساس إلى المغاربة المتشبثين بدينهم حتى يعلموا الأسس التي قامت عليها أحكام الإرث التي فرضها الله بعلمه وحكمته، والتي هي عدل كلها ومصلحة كلها، عَلِمها مَن علمها أو جهلها مَن جهلها.
أما أصحاب النداء بإلغاء الإرث بالتعصيب فنحن على يقين أنهم لا يتحاكمون معنا إلى مقتضى الأدلة الشرعية، بل عنها متنكبون مستهزئون، وخير دليل على ذلك الشعار الذي يرفعونه ويرمزون به إلى تخطئة الله سبحانه (1+1=3)، ولكنهميموهون بشبه لئيمة حتى تخفى على الناسمرجعيتهم العلمانية "الحداثية".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.