ونحن على أية حال، لم نرتح إلى ما تدندن حوله وزارة الأوقاف التي يقودها مؤرخ طرقي لا عالم؟ فيكون من حقنا -وهو على رأس تدبير الشأن الديني- أن نتساءل عما إذا كان هذا الرجل الذي لا يخفي هويته البودشيشية، يتوفر على الصفات الأربع الموروثة عن رسول الله، والتي هي مرة أخرى كل من: الصدق، والأمانة، والتبليغ، والفطانة؟ فإن كانت الإجابة جاهزة متوفرة لدى العامة والخاصة لعلمهم بالهوية الحقيقية لوزيرنا في الأوقاف، فليس لديهم الإجابة عما إذا كان المغاربة فعلا على فقه مالك في القديم والحديث، وعلى طريقة الجنيد، وعلى طريقة الأشعري، حسب الترتيب الزمني لهذا الثلاثي الذي جعله المغاربة قدوتهم في التدين. فمالك توفي عام 179ه. والجنيد توفي عام 297ه. والأشعري توفي عام 324ه. فإن قوي اعتقادنا في كون مالك بن أنس من كبار علماء المسلمين، بل ومن كبار أئمتهم المهتدين المهديين بدون ما تحفظ، نكون قد استجبنا لمضمون قوله تعالى: "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون". ومالك من أهل الذكر بدون ما شك. وإن نحن اقتدينا به في ديننا -وهذا ما حصل قبل ولادة كل من الجنيد والأشعري- فمعناه أننا كنا كمالكيين في الأحوال الآتية: 1 تمكنا من معرفة شاملة لمختلف عقائدنا. (أي أننا لا نحتاج إلى مصدر آخر لها). 2 تمكنا من معرفة الكيفيات التي علينا اعتمادها لأداء مختلف عباداتنا، من مفروضات ومن مسنونات. 3 تمكنا من معرفة كافة معاملاتنا الشرعية، من عائلية، واجتماعية، وقضائية، وسياسية، واقتصادية، ومالية. 4 وإذا لم نتمكن من معرفة هذا الثالوث المترابط في منظومة هي الدين كله باختصار، كان لا بد أن نجد أنفسنا أمام ثلاث احتمالات: أن يتقن الإمام مالك -كقدوتنا- الجانب التعبدي، والجانب المعاملاتي، لكنه لا يتقن الجانب العقائدي. وهذا الاحتمال الأخير إن صح، لزم البحث عن قدوة لنا أخرى في الدين، يتقن ممثلها الجانب الذي لم يتقنه مالك، مما يعطينا مبررا موضوعيا لتبني عقيدة الأشعري من خلال مؤلفاته الكلامية، وفي مقدمتها "الإبانة عن أصول الديانة". خاصة وأن هذا الكتاب، آخر مصنف له، وهو الذي أقام فيه الدليل القاطع على صحة مذهب السلف في العقائد. ومذهب السلف المقصود هنا، هو إثبات صفات الله الواردة في القرآن الكريم، كانت ذاتية، أو كانت فعلية، أو كانت خبرية، كاليدين والوجه، دون تأويل هذه الصفات الخبرية الأخيرة حيث يقول السلفيون: إنها "قد وردت في الشرع، فنسميها صفات خبرية. ولما كان المعتزلة ينفون الصفات، والسلف يثبتونها، سمي السلف صفاتية، والمعتزلة معطلة". يعني أن المالكيين تعلقوا -كباقي المتسنين- بقوله تعالى: "ليس كمثله شيء". فكان أن تجنبوا -بسبب هذه الآية- الخوض النظري في مجال يغلب عليه قياس الغائب على الشاهد. وهو مجال إيماني صرف، لا مجال فلسفي علمي. فصح أن الإمام الأشعري بعد أن انتهى إلى هذه الحقيقة، تخلى عن الفكر الاعتزالي، وانضم إلى أهل السنة، ودعم عقائدهم بالحجج العقلية الدامغة. وانضمامه إليهم معناه، اعترافه بأنهم على حق، وأن المعتزلة على باطل. فلزم القبول بأن أهل السنة والجماعة لم يكونوا في أمس الحاجة إلى من يعترف بأنهم مصيبون بخصوص رأيهم في العقائد الإيمانية؟ ثم لزم الاعتراف بأن المغاربة على عقيدة المتسنين، وأن هؤلاء برأيهم الموحد الصائب في الصفات، حملوا الأشعري على ضرورة الانضمام إلى صفوفهم، ما داموا عن الابتداع بعيدين. أما فضل الأشعري على المتسننين -إن كان لا بد من الاعتراف به- فيتمثل في الجهد العقلي الذي بذله لتسليط ضوء كاشف على ما أحاطته فرق كلامية بظلام كثيف، ناتج قبل كل شيء عن محاولات لإفساد الدين عن قصد، كفعل المتشبهة، من مجسدة، ومن مجسمة. وكفعل المعتزلة الذين سعوا إلى إثبات مفهوم جديد للتوحيد، حتى عرفوا بأهل التوحيد والعدل. وكفعل الصوفيين الذين أدركوا المدى في قولهم بوحدة الوجود! إلى حد عنده أعدموا أية فروق بين الله وبين الإنسان! بل بينه سبحانه وبين أي مخلوق آخر في الكون!!! ولما لم يصح بأن المغاربة على عقيدة الأشعري، وإنما هم على عقيدة أهل السنة والجماعة حتى قبل ولادته، صح قبل ذلك وبعده أنهم ليسوا على طريقة الجنيد، كما سوف نوضح في القادم من الكلام.