هوية بريس – الخميس 30 أكتوبر 2014 يشهد الحقل الديني في المغرب حركة حثيثة تهدف إلى تقويم أدائه وإعادة هيكلته، وقد تأكدت الحاجة لهذا الحراك بعد أحداث (11 شتنبر 2001) و(16 ماي 2003)، ونحوهما من الأحداث الإجرامية التي تدل على تنامي فكر الغلو وممارسات التخريب عند بعض المسلمين، ومنهم مغاربة ترجموا فكرهم المنحرف إلى سلوك وعمل هدد نعمة الأمن والاستقرار التي يتفيأ ظلالها المغاربة. ويمكن إجمال عناصر خطة الإصلاح الديني -كما رسمتها الإرادة الملكية- فيما يلي: تشجيع وتيسير التمسك بالإسلام المعتدل على مذهب أهل السنة والجماعة، وهو ما يضمنه الثلاثي المكون من: فقه مالك وعقد الأشعري وسلوك الجنيد. وأول ما أحب أن أنبه عليه هنا؛ أن التطرف الديني الذي عرفه العالم إنما هو وليد التطرف اللاديني الذي تشكله التوجهات العلمانية المتطرفة، فهي التي تذكي نار فكر التكفير في عقول الجهال المتحمسين، حين تعتدي على حق المسلمين بالسعي في إقصاء شريعتهم، وفرض التحاكم إلى المرجعية الأممية واعتبار رؤيتها القطب الأوحد لرحى التقدم والتنمية! ومن هنا يمكن أن نقول بأن هيكلة الحقل الديني ضرورة اقتضاها -في العمق- ما يعرفه الواقع المغربي من صراع بين التدين والعلمانية، وهو صراع مضر بالبلاد والعباد، والسبيل الأقوم لتخفيف ضرره إنما هو في تخليص الدين من قبضة الهيمنة العلمانية -التي تشوهه حين تختار من مذاهبه ما يوافق رؤيتها ومشروعها-، والرجوع به إلى صورته النقية، وبالموازاة توضع أوراش المشروع المجتمعي للتنمية البشرية والمؤسساتية، والتحديث والتطوير التقني، في إطار ديننا وهويتنا1. ثم أنبه على أمر لا يقل أهمية؛ وهو أن عملية الإصلاح الديني ينبغي أن تكون وفق خطة شرعية ذاتية موضوعية2، وليس وفق أجندة خارجية؛ كالأجندة الأمريكية التي تملى من طرف الخارجية الأمريكية وأجهزتها الاستخباراتية؛ فإن هذه الأخيرة لا تخدم مقاصد الإصلاح بقدر ما تحقق مصالح الغرب وأهدافه الإمبريالية. ومن هنا فإن قراءتنا لثلاثي الإصلاح الديني (فقه مالك/عقيدة الأشعري/سلوك الجنيد) الذي صدرت الأوامر السامية باعتماده في هيكلة الحقل الديني ينبغي أن تكون نابعة من حقيقة ذلك الثلاثي، ولا ينبغي أن نلبسها لبوس التسييس، الذي يخدم إيديولوجيا داخلية (كالعلمانية)، أو أجندة خارجية (كالأجندة الأمريكية)! وهكذا فإن تمسكنا بفقه الإمام مالك -تأصيلا وتفريعا- ينبغي أن يكون حقيقيا لا صوريا؛ وذلك بالتزام الأصول التي تشكل المعالم الفعلية في توجه الإمام مالك وعلمه وتدينه، وجماعها أصلان: 1- بناء الدين -عقيدة وأحكاما- على الدليل الشرعي ومنهج السلف في العمل وأصول الاستنباط. 2- الشمولية وعدم التجزئة في تلقي الدين؛ فلا نفرق بين مصادر تلقي العقيدة ومصادر تلقي الأحكام، ولا نفرق في الأحكام بين العبادات والمعاملات من حيث مرجع التحاكم، ولا نفرق في المعاملات بين الأحوال الشخصية وغيرها.. أما العقيدة الإسلامية فواحدة؛ وعطف عقيدة الأشعري على فقه مالك قد يشعر بأن لمالك عقيدة غير عقيدة الأشعري، وهذا ليس بصحيح، ومفهومه ضلال مالك في عقيدته، وهذا المفهوم الباطل لازم للذين يعتبرون عقيدة الأشعري هي العقيدة الكلامية التي تراجع عنها إلى عقيدة السلف ومنهم مالك رحمه الله. فعقيدة مالك وعقيدة الأشعري عقيدة واحدة، والفرق بينهما في طريقة تقريرها؛ فبينما يقتصر مالك على سياق النصوص والرد على المبتدعة بطريقة أثرية يمزجها ببعض التفسير، يتوسع الأشعري في تعضيد النقل بالعقل والمنطق، مستفيدا مما كان عليه من العقائد الاعتزالية والكلامية، كما نلمس ذلك من كتبه؛ كرسالة إلى أهل الثغر. ويؤكد كون عقيدة الإمامين شيء واحد؛ قول الأشعري في بيان عقيدته: «ديانتنا التي بها ندين؛ التمسك بكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بما كان عليه أحمد بن حنبل -نضر الله وجهه- قائلون، ولما خالف قوله مجانبون» اه3. وعقيدة أحمد هي عقيدة مالك والجنيد وسائر السلف، وإنما خصه بالذكر؛ لأنه شكّل أبرز المنافحين عن العقيدة ضد غزو الفكر الخلفي. وأما الأحكام؛ فأصول استنباطها عند مالك ترجع إلى: 1-لزوم منهج السلف في الفهم وأصول الاستنباط: قال الشاطبي: «فعادة مالك بن أنس في موطئه وغيره؛ الإتيان بالآثار عن الصحابة مبينا بها السنن…»4. وقال صاحب [الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني (1/407)]: «وظاهر كلام المصنف وجوب الاتباع للسلف ولو في حق المجتهد وهو مذهب مالك رضي الله عنه ومن تبعه…» 2- تقديم النص على الرأي. قال مالك: «ينبغي أن تتبع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يتبع الرأي»5. وقال مالك أيضا: «إنما أنا بشر أخطأ وأصيب فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه»6. وهذا يدل على أن الإمام مالك لا يرى الاجتهاد في مورد النص، ويرى وجوب ترك حكم الاجتهاد إذا ثبت حكم النص بخلافه، ومن هنا فإنه يمنع التعصب لقول أو مذهب أو تأويل الحكم بغير دليل معتبر7. وأما علم السلوك فينبني على سابقيه: علمي العقيدة والفقه؛ إذ سلوك الطريق إلى رضوان الله وجنته ينبني على تصحيح المعتقد وتقويم العبادات والمعاملات ومنه: تهذيب الأخلاق، فلا يستقيم السلوك إلا بهذا. وقد برز في هذا الباب -الذي يعتمد الأحوال أكثر من اعتماده على التنظير والأقوال-؛ أئمة معروفون، من أشهرهم الجنيد رحمه الله، فهو أحد السلف الصالح الذين برزوا في مجال السلوك بما يعنيه من زهد وورع وصفاء قلب وحسن خُلق. غير أن ما ينبغي أن ينبه عليه هنا هو ضرورة صيانة عملية الإصلاح الديني من أن تجنح بهذا الباب العظيم من أبواب الدين إلى شطحات التصوف وخرافاته، والتي يمكن إجمال أصولها فيما يلي: إحداث الكشف كمصدر من مصادر التلقي في الدين8، تقديس الأشخاص والغلو فيهم9، الإلحاد في الذات الإلهية وفي أسماء الله وصفاته10. وإذا كان الجنيد يلقب بشيخ الصوفية فإن الحقيقة التاريخية وسيرته تشهد بأنه لم يدْعُ إلى شيء اسمه الفكر الصوفي كما تبلور بعد قرون الخيرية في هذه الأمة، مفرزا طوائف متفرقة تتبنى فكرا وممارسات موغلة في الخرافية والابتداع، بل إنه كان شديد الحرص على أن يضبط المسلمون باب السلوك بالقرآن والسنة واعتبارهما أصلي الباب ومصدري أدلته، وفيه إشارة إلى تجنب المصادر المحدثة كالكشف: عن علي بن هارون سمعت الجنيد غير مرة يقول: «علمنا مضبوط بالكتاب والسنة؛ من لم يحفظ الكتاب، ويكتب الحديث، ولم يتفقه، لا يقتدى به»11. ومما تجدر الإشارة إليه أن الجنيد أكد مذهب السلف ومنهم مالك في ذم العقيدة الكلامية: عن أبي جعفر الفرغاني: سمعت الجنيد يقول: «أقل ما في الكلام سقوط هيبة الرب جل جلاله من القلب، والقلب إذا عري من الهيبة عري من الايمان»12. وهذا يؤكد أن اعتبار العقيدة الكلامية هي عقيدة الأشعري وبالتالي أنها المعتقد الذي يعد من الثوابت الدينية عندنا، خطأ محض؛ فالإمامان مالك والجنيد تبرآ من العقيدة الكلامية كسائر أئمة السلف، وعلى ذلك استقر أمر الأشعري كما سبق النقل عنه. وهذا يبرهن على أن الثابت الديني في أمر المعتقد هي العقيدة الأشعرية التي استقر عليها أبو الحسن، وليست الكلامية التي فرضها ابن تومرت على المغاربة. ولعل من نافلة القول أن أؤكد بأننا معشر أهل السنة لا نقول بعصمة أئمتنا خلافا للشيعة؛ ومن هنا فلا عصمة للأئمة مالك والأشعري والجنيد، ومعنى هذا أن اجتهاداتهم وأقوالهم لا تخلو من الأخطاء، ومعناه أيضا أن اعتماد مذهبهم نسبي وليس مطلقا، ومهما ظهر الدليل على خلاف اجتهاد أحدهم فالواجب اتباع الدليل، وهو عين ما أكد عليه إمامنا مالك بقوله: «ليس من أحد إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم»13. أما بعد؛ فهذه قراءة علمية موضوعية تتعلق ببادرة هيكلة الحقل الديني، وإقامة تلك الهيكلة على الثوابت الدينية للمغرب، واعتماد القراءة العلمية هو الكفيل بتحقيق مقصد الإصلاح، أما حين تُسَيَّس البادرة، وينحى بها منحى الممارسة الأحادية الإقصائية أو الامتثالية المصلحية، فسنعرض المشروع إلى الفشل لا محالة… 1- ينبغي على العلماني أن يعي بأن النمو والترقي والتحديث مشاريع لا تستلزم علمنة المجتمع، ولا يلزم صبغتها بالمذهب الفرنكفوني أو نظريات الفلسفة الإلحادية أو الوجودية، أو الحداثة كإيديولوجيا معادية للدين، وتجربة بعض الدول كالسعودية وماليزيا تؤكد إمكانية السعي لتنمية بشرية وترقية تقنية في ظل حياة إسلامية. 2- قائمة على إشراك الأكفاء وذوي الأهلية، وليس على الإقصاء والاحتكار. 3- "الإبانة" (ص:43). 4- "الموافقات" للشاطبي (4-131). 5- "جامع بيان العلم وفضله" لابن عبد البر (2072). 6- رواه ابن عبد البر أيضا في "الجامع" (1435 و1436) بإسناد حسن. 7- كما يسقط بعضهم كثيرا من الأحكام باسم التأويل الذي تقتضيه العصرنة والقراءة الواقعية للنص! وقد يتذرعون بالفقه المقاصدي وتحقيق المصلحة التي هي مطلب الشارع!! 8- ومن فروع هذا الأصل تشريع هيئات وصفات للعبادات لم ترد في القرآن والسنة. 9- ومن فروعه: الاعتقاد بأن الولاية بحر وقف الأنبياء على ساحله. 10- ومن فروعه: عقيدة الحلول والاتحاد. 11- "سير أعلام النبلاء" (14/67). 12- المصدر نفسه (14/68). 13- "السير" للحافظ الذهبي (8/93)، وانظر: "التعظيم والمنة" (ص:36-38)، و"الموافقات" (5/134).