استعرض الكاتب والحكواتي إدريس الجاي مشاهد متنوعة من حياة سكان فاس القديمة في شهر رمضان، سواء قُبيل دخوله أو خلال أيامه الفضيلة، وكيف يقضي الفاسيون ساعات الليل والنهار طيلة شهر الصيام، خاصة فيما يتعلق بالاستعداد للسحور والفطور وليلة القدر والعيد... وحاول إدريس الجاي، في مقال به بعنوان "رمضان في فاس القديمة"، إبراز أهم ما تقوم به النساء والأطفال عشية اليوم الأخير من شهر شعبان، وما يحرص سكان فاس القديمة على القيام به في اليوم الأول من شهر رمضان، إضافة إلى ما ينتج عن هذا الشهر الفضيل من تغير مواعيد الأسواق، وتأثّر المدخنين، وخلو الشوارع بُعيد أذان المغرب، وكثرة الدعوات والزيارات العائلية. وهذا نص المقال: إذا كان شهر ذو الحجة شهر جد هام بالدرجة الأولى للمسلمين الذين يتوجهون إلى مكةوالمدينة لأداء فريضة الحج، فإن شهر رمضان يمثل أهم شهور السنة بالنسبة لعامة العالم الإسلامي. فهذا الشهر التاسع في تقويم السنة الهجرية هو الشهر الوحيد الذي يمارس فيه المسلمون جميعهم وفي نفس الوقت فريضة الصيام. رمضان هو الشهر الوحيد الذي ذكر باسمه في القرآن في سورة البقرة الآية 181: "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن.."، وفي أيامه العشرة الأخيرة ليلة القدر، التي خصها القرآن بسورة تحمل اسمها (السورة 97). رمضان مثل كل الشهور القمرية لا يصل إلى 31 يوما وغالبا ما ينتهي ب29 ونادرا ب30 يوما. والإعلان عن بدايته أو نهايته كان يتم عبر مشاهدة هلال شهر رمضان من طرف هيئة من العلماء والمنجمين بالعين المجردة. وإذا كانت السماء غائمة، يبدأ شهر رمضان عند انتهاء 30 يوما من الشهر الذي قبله، أي شهر شعبان. أما اليوم فيتم الإعلان عن بداية رمضان وفقا لطرق المراصد الجوية الحديثة. فكيف يحتفل برمضان في مدينة فاس القديمة؟ قبل أيام من نهاية شهر شعبان يبدأ سكان المدينة مثل غيرهم في كل البلاد الإسلامية بالاستعداد لاستقبال رمضان من حيث شراء المواد الغدائية، التي تستهلك في هذا الشهر، مثل الدقيق والزيت والعسل واللوز والزنجلان، وتبدأ النساء في تحضير أنواع من الحلويات الخاصة بشهر رمضان مثل الشباكية والكريوش وسلو (يسمى في مدن أخرى بالسفوف). ولاحقا أصبحت هذه الحلويات تشترى جاهزة، تقتنيها العائلات الميسورة من بائعين مشهورين بجودة إنتاجهم مثل عبد الله مامو والزكزوتي. كما أن هناك بائعين آخرين أقل جودة يبتاع منهم الفقراء أو متوسطو الدخل مثل عمر الشفاج والكيسي. ويشترون بكثرة الحمص والعدس والبصل والشعرية والطماطم والقسبر والمقدنوس لتحضير هذه المواد الغذائية من أجل الأكلة الرئيسية في رمضان: الحريرة. كما تزيد كل أسرة حسب قدرتها الشرائية عن هذا مواد تحضير أكلات أخرى حسب فصول السنة. في عشية اليوم الأخير من شهر شعبان وقبل أذان صلاة المغرب بقليل، تصعد النساء والأطفال فوق سطوح الدور والمنازل والمؤذنون فوق الصوامع لمراقبة هلال رمضان. عند مشاهدة الهلال أو الإعلان عنه عبر صفارة الإنذار من برج الشمال (برج النور)، ينفخ عازفو النفير والغيطات من فوق المآذن آلاتهم إعلانا عن بداية رمضان ويشعل الأطفال الألعاب النارية وتزغرد النساء احتفالا بحلول شهر رمضان. بعد صلاة عشاء هذا اليوم، أي المساء الأخير من شعبان، تبدأ المساجد في الصلوات الجماعية، حيث يصلون خلف الإمام نصف جزء من ثلاثين جزءا من القرآن، وفي صلاة الصبح الأول من رمضان نصفا آخر طيلة الشهر، وبذلك يختمون القرآن كله موزعا على شهر رمضان كله. وهذه الصلاة هي اختيارية (تسمى "صلاة التراويح"). في اليوم الأول من رمضان قبل طلوع الفجر (تختلف ساعة طوع الفجر حسب فصول السنة لأن توقيت الصلوات تابع لتوقيت الساعة القمرية) بساعة ونصف أو ساعتين يمر رجل متطوع عبر الأزقة والدروب وبيده مطرقة يدق بها على كل أبواب دور الحي وهو ينشد تهاليل وصلوات على النبي يسمى الدقاق، يوقظ الناس لتناول السحور، وجبة إفطار جد باكر يبدؤها كل واحد متى شاء وتنتهي حوالي 20 دقيقة قبل أذان الصبح، حيث تبدأ فترة صيام اليوم وتستمر حتى مغرب الشمس. هذه الوجبة كانت في الغالب تتكون من خبز مدهون بالبيض ومقلي في الزيت يؤكل مع الشاي. أما اليوم فقد كثر الابتداع فيها بكل أنواع الأطعمة، هي في الأساس لتقوية الصائم على استقبال يوم صومه الكامل. قبل أذان الصبح بفترة قليلة، يسمع النفير من مآذن بعض المساجد الكبرى والغيطة من مآذن بعض المساجد الصغرى، وكذلك تسمع أذكار من المآذن أو الجوامع، تسمى التهليل، معلنة نهاية فترة الأكل. بعد السحور وصلاة الصبح يخيم على المدينة سكون وصمت عميق يستمر إلى حوالي الساعة السابعة صباحا، حيث يخرج التلاميذ إلى مدارسهم وبعض الموظفين إلى أشغالهم. بعد ذلك ببضع ساعات، تبدأ حركة الحياة بشكل رتيب كأن المدينة تجرجر ساعاتها لتدفعها ثقالا نحو الغروب. لا مقاه ولا مطاعم ولا ملاه مفتوحة، وينقلب إيقاع حياة الناس، فيتحول ليلهم نهارا ونهارهم ليلا. وتعطل كثير من الصناعات والحرف اليدوية أشغالها نهارا لتمارسها ليلا، إلا التي لها علاقة بالماء مثل الدباغة والجزارة واللباطة (أي عزل الجلود عن الصوف) الرحوية طاحونات الحبوب، وحتى هذه المهن تبدأ على غير عادتها مبكرا لينتهي عملها قبل صلاة العصر. تتغير مواعيد الأسواق، التي يتم فيها بيع المواد الحرفية في المزاد العلني مثل أسواق الصوف والجلد بكل أنواعه أو البضائع الجاهزة مثل البلاغي. وأثناء الظهيرة يصبح إيقاع الحياة في الأسواق شبه عادي، لكن فيه نوع من الرتابة، فتزدحم المساجد بمصلي رمضان ومستمعي وعاظ المساجد في صلاتي الظهر والعصر. لكن بعد العصر يمس المدينة بأسواقها ومراكزها التجارية نوع من الحمى، حيث ترتفع وتيرة الحركة فتصير قلقة ويتسارع إيقاع الناس بين مشتر ومسرع إلى توفير حاجيات بيته حتى لا يدركه أذان المغرب في الشارع. يصبح القلق باديا على وجوه بعض مدخني السجائر والكيف، وتكثر الخصومات لأقل الأسباب، خاصة إذا كان وقت الصيام في الصيف حيث النهار طويل والعطش والانقطاع عن التدخين أو عن النشوق (التنفيحة) يزيد من وتيرة هذه الخصومات، مما يجعل البعض يستغل هذه الحالة من أجل استفزاز الآخر بقوله: (شعلو)، أي أشعل له سيجارة، وهو ما يجعل هذا يحتد وتنتج عن ذلك خصومات تؤدي أحيانا إلى اللجوء إلى السلطة. يكثر في رمضان التفنن في صنع الحلويات وأنواع من الخبز والفطائر بأشكال وقوالب فنية: خبز على شكل مفتاح أو عجلة أو تلفون أو فطائر (بغرير) بالألوان. وتعرض في الأسواق الفواكه من غير موسمها، والتي في غالبيتها لم تنضج بعد. وهو ما يثير شهية الصائم فيشتري أكثر مما يمكن استهلاكه مساء. لذلك فرمضان هو أكبر سوق استهلاك في السنة، حيث يكثر فيه التبذير بشكل لا يصدق. وأحد المواد الغذائية المحببة لدى الناس في شهر رمضان هو الحليب الطري الذي تختره النساء لتناوله عند وجبة السحور (رائبا) أو يشرب مخلوطا بالقهوة بعد الإفطار. وبائعو الحليب الطري في رمضان يصبحون سادة وينادون ليس باسمهم حافيا، بل بالسيد مثلا "السي علي" بدلا من "علي" في سائر الأيام. يزدحم الأطفال والنساء عند بوابات حوانيتهم قبل مجيء الحليب بفترة، حتى لا يعودوا إلى أهاليهم خالي الوفاض من غير هذا السائل المحبب في تلك اللحظة المنتظرة التي تمثل قمة النهار، وهدف كل تلك الجهود في التحضيرات الإفطار، حيث تجتمع العائلة حول المائدة تنتظر في صبر وقلق أيضا أذان المغرب عبر التلفزيون أو مؤذني الجوامع أو صفارة الإنذار، حيث يبدأ الانتقام من يوم جوع وعطش مضنيين. كانت الموائد في الماضي لا تحتوي إلا على الحريرة والتمر والتين والخبز وحلويات الشباكية وكريوش عند الميسورين، أما اليوم فحدث ولا حرج. اصبحت الموائد كأنها محضرات حفل أو إفطار فندق خمسة نجوم. في صلاة المغرب تصبح المساجد، التي كانت عامرة عن آخرها عند صلاتي الظهر والعصر، في غالبيتها فارغة، وقد يصلي أحد الأئمة في مسجد ما وحده أو مع مؤذن المسجد فقط. مع أذان المغرب والإعلان عبر صفارة الإنذار عن مغرب الشمس وانتهاء فترة صيام اليوم تصبح الشوارع فارغة عن آخرها، إلا من استثناءات قليلة والكل يأوي إلى بيته والغرباء إلى المطاعم، التي تقدم هي الأخرى وجبات رمضانية، حيث تشرب الحريرة بالحلويات الرمضانية من شباكية وتمر وكريوش وتؤكل المأكولات وتجرع العصائر وأنواع من الفطائر عند العائلات متوسطة الدخل والثرية. وبعد الأكل يتسلل الشباب المدخنون من بيوتهم ليقفوا في باب الدرب ويسحبوا أول نفس من السيجارة الأولى بعد يوم صوم طويل. ثم بعد ساعة من الإفطار (قبل زمن كورونا) تدب الحياة من جديد في المدينة: حياة الليل، يسرح فيها الرجال والنساء على مختلف مشاربهم، فريق يقصد المقاهي، التي تعرف نشاطا متواصلا حيث لعب الكارطة أو الضامة أو مشاهدة المسلسلات التلفزيونية، وفريق آخر يشاهدها في البيت ضمن الأسرة، وثالث يذهب إلى صلاة التراويح، ورابع إلى أماكن تسلية، التي تخصص برامج فرجة رمضانية، حيث تنظم أمسيات موسيقية لطرب الملحون أو الموسيقى العصرية أو مسرحية أو ألعاب بهلوانية للأطفال. وزوار منتديات التسلية هذه لا يعودون إلى بيوتهم إلا قبل أذان الفجر بقليل. كما أن هناك من يخرج للتفسح في شوارع المدينة الحديثة. هذا الإيقاع يعيد نفسه طيلة 26 يوما من شهر رمضان. وكل ليلة يتوسل الأطفال إلى أوليائهم ليوقظوهم من أجل تناول السحور مع الأسرة ويعدوهم بالصيام. لكن الأولياء يشفقون على صغارهم من اجتثاثهم من النوم العميق ويعرفون مسبقا أنهم لن يقدروا على الاستيقاظ في تلك الساعة المتأخرة من اليل، فيعدونهم بأن يخيطوا يومهم ليتعودوا على الصيام، أي يصوم الأطفال في اليوم الأول من الظهيرة إلى المغرب، وفي يوم آخر من الصباح حتى الظهيرة، وبذلك يجمع بين هذين النصفين نظريا إلى بعضهما فيكونان يوم صيام كاملا. في رمضان تكثر الزيارات والدعوات العائلية لتناول الإفطار سويا، والمضيف يبالغ في إكرام ضيفه بكل ما لذ وطاب، فيما الضيف يحضر معه الكثير مما يزيد عن الحاجة، وبعد أيام يوجه هذا الأخير الدعوة إلى عائلة مضيفه ويفعل أكثر مما قام به الأول، وأحيانا تستمر الضيافة بليلها ونهارها. أهم يوم وليلة في رمضان هو ليلة 27: ليلة القدر. لكن الاحتفال بها يتم في اليوم السادس والعشرين من هذا الشهر، لأن الحديث ورد بأنها في اليوم الوتر، ورقم 7 له في القرآن والأحاديث نوع من الجاذبية مثل سبع سماوات وسبع أراضٍ وسبعة أيام. ومن العادات أن يشترى الناس احتفاء بها الجوز والتمر، الذي يؤكل في البيوت، وتلبس الفتيات الصغيرات ملابس جديدة ويزرن بمعية أمهاتهن ضريح مؤسس المدينة مولاي إدريس نهارا. ويشتري لهن أولياؤهن من عربات بائعي الحلوى، التي تصطف على طول جدار مسجد القروين في زنقة العدول أو من الدكاكين المجاورة لضريح مولاي إدريس، الحلوى المعروفة ب"حلوى مولاي ادريس". كما تنزل الفتيات الشابات، ليلا، في قفاطينهن ولباسهن التقليدي من المدينةالبيضاء (فاس الجديد) إلى المدينة القديمة للقيام بالزيارة، التي قامت بها الفتيات الصغيرات قبلهن نهارا. وتنار ثريات المساجد الكبرى، خاصة القرويين والأندلس وضريح مولاي إدريس، ويقوم المؤمنون بإحياء تلك الليلة بصلاة التراويح لمدة أطول من ليلي رمضان الأخرى. والآخرون في الملاهي والمقاهي والنساء في الدور يقمن بحفلات العزف على البنادير والتعاريج والغناء والفرح حتى ساعة متأخرة من الليل. وبعد هذه الليلة تهدأ تلك الوتيرة المحمومة ويبدأ الاستعداد لاستقبال عيد الفطر المعروف ب"العيد الصغير"، فيشتري الناس القمح والدجاج أو اللحم والدقيق واللوز والسكر وماء الزهر من أجل تحضير حلويات العيد من غريبة بأنواعها المختلفة وكعب الغزال والفقاص والقراشل والملاوي وفطائر صباح العيد. وبعد الإعلان عن نهاية رمضان بالوسائل نفسها التي أعلن بها عن بدايته، تتوقف صلاة التراويح. وبعد صلاة صبح يوم العيد تخرج العائلات في جنح الليل لتوزيع كمية تزيد قليلا عن كيلوغرامين من القمح، زكاة الفطر، عن كل فرد منها، صغيرا كان أو كبيرا، على العائلات الفقيرة. ثم يتوجه الرجال والأطفال ومن شاء من النساء في ملابس جديدة أو نظيفة تقليدية إلى خارج أسوار المدينة لأداء صلاة العيد في المصلى: ساحة في الهواء الطلق بمحراب ومنبر من حجر تحيط بها أسوار بيضاء مطلية بالجير. تقريبا كل مصل يحضر معه سجادة للجلوس عليها. يجلس المصلون يذكرون الله جماعة إلى أن تبدأ الصلاة، التي تؤدى دون أذان ولا إقامة. وبعد الانتهاء من صلاة الركعتين وخطبة الإمام التي يعظ فيها الناس، يهنئ بعضهم بعضا بالعيد من خلال المصافحة باليد والعناق وينصرف كل إلى بيته. وتكون النساء قد جهزن فطور العيد الفاخر بالفطائر والعسل وربما بقية من حريرة إفطار الأمس. وبعد فترة من الزمن يمر المتطوع، يدق الأبواب بمطرقته، لكن هذه المرة ليس ليوقظ الناس للسحور، بل ليجمع تبرعاتهم مكافأة له على عمله. فكل يمده بما تيسر له من قمح أو مال أو مواد غذائية. كما يمر أيضا نافخ النفير ونافخ الغيطة كل على حدة لجمع ما تجود به أيدي سكان الحي. ثم يزور الناس بعضهم البعض مع أطفالهم، سواء كانوا أقارب أو جيرانا أو اصدقاء، وكل داخل يقدم له الشاي بالنعناع والحلويات المختلفة، وتقدم للأطفال هدايا صغيرة عبارة عن حلويات أو نقود. بعض الزوار إذا صادف وجاء قبل الظهير يبقى لتناول الغداء مع العائلة. ويتم قضاء بعد الظهيرة في ارتخاء وعطلة وشرب الشاي والأحاديث المختلفة. وهذه الزيارات تستمر كل اليوم حتى المساء، وأحيانا تطول اليوم الثاني، إن لم يستطع أحد إتمام زياراته كلها في اليوم الأول.