المغرب يدعو إلى هامش أكبر من الاستقلالية المادية لمجلس حقوق الإنسان    ولي العهد يستقبل الرئيس الصيني    تحطم طائرة تدريب يودي بحياة ضابطين بالقوات الجوية الملكية    متابعة موظفين وسماسرة ومسيري شركات في حالة سراح في قضية التلاعب في تعشير السيارات    هل يؤثر قرار اعتقال نتنياهو في مسار المفاوضات؟    عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب        رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'    أبناء "ملايرية" مشهورين يتورطون في اغتصاب مواطنة فرنسية واختطاف صديقها في الدار البيضاء    الحكومة توقف رسوم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام    المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره        أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    برقية تهنئة إلى الملك محمد السادس من رئيسة مقدونيا الشمالية بمناسبة عيد الاستقلال    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34        المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن        رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ليبدأ النقاش حول وضع الإنجليزية بالمغرب
نشر في هسبريس يوم 26 - 12 - 2013

انعقد في نهاية الأسبوع المنصرم بمدينة الرباط لقاء أكاديمي حواري حول وضع اللغة الإنجليزية في المغرب, ولأن الحدث فريد من نوعه و لا نريد له أن يغرق في أفق النسيان، أو في أحسن الأحوال أن تقبر إلى الأبد الخربشات التي خطها المشاركون فيه على أوراق بيضاء دست بعناية في ملفات لن ترى النور لأكثر من يوم واحد، تراني أسجل بعض الملاحظات حول المسألة، فإن رجع صداها فذلك هو المبتغى، و إن رسخت قناعات أو أفرجت عن مكتوم فذلكم أضعف الإيمان .
كان موضوع اللقاء تحديدا هو "تعزيز وضع اللغة الإنجليزية في المغرب لأغراض التنمية"، أو بلغة أقل دبلوماسية، بحث آليات تمكين كل المغاربة من ناصية اللغة الإنجليزية ، قبل و بدل أي لغة أجنبية أخرى، أسوة بشعوب الأرض كلها تقريبا، أي أكثر من 160 دولة من الدول 193 المكونة للمنتظم الدولي، التي تستعمل اللغة الإنجليزية كلغة أولى أو ثانية. و قد اختارت "الجمعية المغربية لخريجي برنامج فولبرايت" التي أتشرف بترؤسها هذا الموضوع لإستراتجيته و راهنيتة، هادفة من خلاله إلى فتح النقاش العام حوله و مد يد المساعدة بالتحليل و الاقتراح إلى صانعي القرار. و قد تصادف اللقاء و بدون قصد مع الجلبة التي أثارها السجال حول العربية و الدوارج، و كأن المغاربة اكتشفوا في الشهر الأخير من عامهم هذا، بعد ثلاثة آلاف سنة من اعتماد الكتابة و أربعين ألف عام على نشوء اللغات، أن لغتهم الأولى متنازع عليها، و لغتهم الثانية (الفرنسية) لا قيمة لها تقريبا في سوق اللغات الكوني حيث الإنجليزية مهيمنة لا مناوش حولها.
و الواقع أن دعم حضور اللغة الإنجليزية بالمغرب هو مسألة لغوية ملحة لها نتائج و تداعيات جسام و بعيدة المدى في مجالات شتى كالتعليم والتكنولوجيا والبحث العلمي و المعاملات التجارية و قطاع الصناعة و الخدمات و التواصل مع العالم الخارجي؛ و كلها مجالات ذات تأثير عميق على الأداء العام للبلاد و على نظرته إلى المستقبل في عالم طبعته العولمة و أعادت تشكيله كليا. و قد استدعي و حضر إلى الندوة خبراء و مهتمون من جنسيات مختلفة، منهم وزير مغربي واحد و وزير أول سابق من الجزائر و بضع رؤساء جامعات مغربية و مسئولو المراكز اللغوية البريطانية و الأمريكية و آخرون، منهم كاتب هذه السطور بحكم إيمانه بمركزية القضية و موقعه كرئيس للجنة المنظمة للندوة و رئيس لجمعية فولبرايت. و استدعيا كذلك لكن اعتذرا عن المشاركة قبل انعقاد اللقاء بقليل وزيري التعليم بطوريه، العالي و ما تحته. و قد فاجأني قليلا غياب وزير التعليم العالي، المبرر و لا شك، و هو صاحب اللازمة التي يكررها أينما وجد نفسه أمام جمع من الطلبة، و التي تقول أن على طلبة الجامعات أن يتملكوا اللغة الإنجليزية كونها لغة العلم و التكنولوجيا و التواصل العالمي. و لا أذري لمادا يذكرني طقس النهاية هذا بأحد أساتذتي بالجامعة في أمريكا الذي كان ينهي كل حصة درس بتنبيهه لنا بأن لا ننسى شرب الحليب، رغم أن أعمار جلنا حينها كانت تقارب الثلاثين.
و رغم أنه ليس في أمر الغياب هذا ما يحيل على نظرية المؤامرة، لأنه ببساطة لا أعتقد أن هناك جهة في الداخل أو من الخارج تتربص بمن يريد التغيير و التجديد في مسألة اللغات الأجنبية في مغرب سيادته كاملة و مصالحه الحقيقية فوق كل اعتبار، و رغم أن مسألة وضع السياسات التعليمية هي من اختصاص المجلس الأعلى للتعليم و البرلمان و من خلفهم مهنيي التربية و المجتمع المدني، و ليست من اختصاص وزير بعينه أو من أولويات الجهاز الحكومي التنفيذي المقيد بتعاقدات سالفة و أسئلة أخرى تهم الحاضر و المستقبل السياسي لمكوناته، فقد وددت لو أن أكثر من وزير حضر أشغال الندوة، أو على الأقل تابع عرض خبير السياسات اللغوية العالمي، البريطاني دافيد غرادول، و هو يستعرض بالنماذج المتحركة فرضيات تغير خريطة اللغات عالميا و علاقة ذلك بالحالة المغربية في جدلية الاحتياجات التنموية و اللغوية للمغرب و تطور أو انحسار كتلته الديموغرافية على مدى مائة عام، من ثمانينيات القرن الماضي إلى مشارف التسعينيات من القرن الحالي.
إن الهدف الأساس من اللقاءات الأولية المنصبة حول تغيير السياسات اللغوية أو الإبقاء عليها دون تغيير في بلد كالمغرب لغته الثانية --و هي الفرنسية-- في انحسار واضح، هو تبيان ما يمكن أن يربحه في حال التغيير و ما سيخسره إن بقي مربوطا بأمراس كتان إلى لغة غنمها بمحض الصدفة (أو الصدمة) التاريخية ليس إلا. و لا ضير أن يتأجج الحجاج و تظهر مواقف متباينة، حدها الأدنى الاستمرار في دعم استخدام اللغة الفرنسية بالمغرب كلغة أجنبية مفضلة (Favored Foreign Language, FFL) --وذلك بالنظر إلى عوامل عديدة أبرزها طبيعة الروابط التاريخية و الثقافية و العلاقات التجارية و الإقليمية بين المغرب و فرنسا، إضافة إلى التكلفة الباهظة التي يتطلبها استبدال هذه اللغة بلغة عالمية أخرى-- و في الجهة المقابلة طرح رؤى أخرى تقترح خيارا واضحا يروم إضفاء الطابع المؤسساتي على وضع اللغة الإنجليزية في المغرب، كونها الأداة الأكثر استعمالا في التواصل مع العالم الخارجي، فضلا عن الدور الذي يمكن أن تلعبه كآلية مساعدة لتحقيق التنمية الاقتصادية ببلادنا.
الدعوة إلى دعم وضع اللغة الإنجليزية في المغرب: تحديدات هامة
يًعرف عن المغاربة شغفهم باللغات الأجنبية و إتقانهم نطقها مما يثير إعجاب الأجانب الذين عادة ما يثنون على مهاراتهم اللغوية؛ ومع ذلك، لا ينبغي أن تخفي عبارات المجاملة العابرة الواقع الذي يفيد أن بلدهم يواجه حقا مشكلة مع اللغة أو اللغات التي يستعملونها أو يضطرون إلى التعامل بها و معها كل يوم. فحتى بعد وضع دستور جديد في صيف 2011، و الذي تطرق بقصد و إسهاب إلى المسألة اللغوية بالمغرب، ما زالت المناوشات الكلامية تطبع النقاش العام حول وضع ونطاق استخدام اللغة العربية الفصحى، واللهجات الدارجة، وأنواع الأمازيغية، في حين، وسط هذا السجال، تستمر الفرنسية مسيطرة لا ينازعها في ذلك منازع. و لا غرابة في هذا الأمر، إذ أن إضفاء الطابع الرسمي على اللغات في جميع دساتير العالم لم يكن يوما ما ذا تأثير بيّن في تعزيز أو تغيير مكانة أو نطاق استخدام لغة ما داخل المجتمع، و هذا ما يمكن استخلاصه من جملة من المقاربات المتباينة التي تم اعتمادها في دول تتعدد لغاتها و لهجاتها مثل جنوب أفريقيا، التي يعترف دستورها ب 12 لغة رسمية، رغم أن السيطرة المطلقة تبقى فيها للإنجليزية، أو في دول أخرى تعتمد الإنجليزية لغة رسمية، مثل إنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية، بيد أن دستور كلتا الدولتين لا يوفر أي غطاء قانوني لها. و في المغرب، و إن لم يتم التنصيص عليها في الدستور المغربي، فإن اللغة الفرنسية لا زالت تحكم قبضتها بشدة على النخب و داخل القطاعات الإنتاجية العصرية أكثر من أية لغة أخرى تم التنصيص عليها في دستور البلاد.
غير أن السؤال الإستراتيجي الذي يغيب (بالفتحة و الضمة) طرحه لمدة غير قصيرة هُوَ متى وكيف سيحدد المغاربة موقفهم من تراتبية اللغات الأجنبية المتوفرة أمامهم و يتمكنوا بعد ذلك إن هم شاءوا من اتخاذ و تنفيذ قرارهم بتعزيز وضع اللغة الإنجليزية تلبية لاحتياجاتهم التواصلية وخدمة لأهداف التنمية الآنية والمستقبلية لبلدهم. إن التضحية بنقاش صحي حول حاجة مجتمعية حيوية في المغرب، درءا لما يمكن أن يطال ما نحسبه وئاما اجتماعيا ولغويا، لأمر غير ممكن و لا مرغوب فيه. إن تأجيل المناقشة حول موضوع اللغات الأجنبية، وبالتالي عدم اعتماد رؤية واضحة بشأنه مقرونة بخطط التنفيذ المناسبة، لهو نظرة عاجزة عن اختراق الأفق وتصور مُفقر للمجتمع و الأفراد اليوم كما في الغد؛ لا بل إن الأمر أشبه ما يكون بإثقال كاهل الأجيال القادمة بوزر ديون راكمها آباءهم من دون تبصر.
إنه لمن المتوقع تماما، و نحن نتابع المناقشات الحادة التي تدور في كثير من بلدان المعمور بين أنصار هذه اللغة الأجنبية أو تلك، أن يعتبر البعض أن النقاش في المغرب اليوم حول أي من اللغتين يجب أن تكون اللغة الأنسب للاطلاع بدور اللغة الأجنبية الأولى ( الفرنسية أم الإنجليزية)، هو نقاش شديد الجرأة و التعقيد. لنتأمل، على سبيل المثال، الخلاف الذي دب بين الفرقاء في بلد مثل رواندا بخصوص قرار "الانتقال" من الفرنسية إلى الإنجليزية، حيث غطت الاعتبارات السياسية والأيديولوجية على البعد اللغوي، أو النزاع المرير الذي دخلته كل من روسيا وجورجيا بسبب قرار هذه الأخيرة إحلال اللغة الإنجليزية محل اللغة الروسية. لعل التمعن في الحالتين معا يجعلنا نتأكد مرة أخرى أن أية لغة، كيفما كانت، تحمل في طياتها اعتبارات متعددة تتعلق بالهوية والثقافة والدين والسياسة والاقتصاد والسلطة . . .؛ باختصار، إن أي لغة تختزل في ثناياها ماضي و حاضر و مصير مجتمع.
و لأن الأمر كذلك، فإنه من المتوقع أن يجلب الحديث حول سبل تعزيز وضع اللغة الإنجليزية بالمغرب تلقائيا شبهة التهجم على المكانة المتميزة التي تحتلها الفرنسية في المغرب. و لدحض اتهام محتمل كهذا سنسوق إجابتين من شأنهما بث بعض الاطمئنان في النفوس. أولا، من المؤكد أن اللغة الفرنسية هي رمز ثقافي قوي لدى المغاربة و مكون هام في الصرح الثقافي المغربي المتعدد التشكيلات، و كما كان عليه الشأن طيلة أكثر من مائة سنة، سيستمر الاهتمام بالفرنسية في هذا البلد بصفتها لغة تسدي خدمات جليلة للمغاربة، كما أن هؤلاء بدورهم سوف يواصلون العمل على خدمتها و إثراءها. أما الجواب الثاني على هذا الاتهام المحتمل فلن نسوقه إلا من تصريحات وزيرة التعليم العالي الفرنسية نفسها، السيدة جنفييف فيوراسو، التي كانت قد دعت في ربيع السنة الجارية، و تحديدا يوم 23 مايو 2013، إلى دعم قانون كانت قد اقترحته يجيز تدريس مواد التكنولوجيا و التجارة و التدبير في الجامعات الحكومية الفرنسية بلغات أجنبية أخرى غير الفرنسية، و القصد هنا هو الإنجليزية. و بالفعل، فإن هذا القانون الذي صودق عليه في صيف هذه السنة (28 غشت 2013)، ألغى قانون "توبون" المتزمت الذي حرص منذ سنة 1994 على منع استخدام أية لغة أخرى غير الفرنسية في التدريس و ممارسة الأعمال التجارية بفرنسا. و في واقع الأمر فإن دعوة الوزيرة عرّت واقع النفاق القائم في المدارس النخبوية الفرنسية التي تستخدم الإنجليزية على نطاق واسع، في حين أن الطلبة في الجامعات الحكومية يحرمون من فرصة مماثلة، ضدا على جميع مبادئ المساواة. و تجدر الإشارة إلى أن وضعية مشابهة لما سبق بدأت تتكون في المغرب أيضا، بسبب تزايد عدد الجامعات الخاصة، ناهيك عن تأثير جامعة الأخوين التي شرعت في التدريس باللغة الإنجليزية منذ العام 1995). و في هذا الباب، فإننا نعتقد أن الأهداف التنموية الكامنة وراء مبادرة الوزيرة الفرنسية، و أهمها جاذبية و تنافسية الجامعات الفرنسية و مسألة القدرة التنافسية للاقتصاد الفرنسي الذي أضحى مطلوبا منه أن يصبح أكثر اعتمادا على اقتصاد المعرفة (مع ما للإنجليزية من دور محوري فيه) هي نفسها التي يجب أن تشكل الأسباب و المقاصد من دعوتنا تقوية حضور الإنجليزية في مناهجنا التربوية. و بطبيعة الحال، و بالرغم من التلاقي في الرؤى و التوقيت فإنه يبقى للمغاربة كامل الحق و الحرية في مناقشة هذه المسألة و اقتراح ما يرونه مناسبا بشأنها في الظرف و الطريقة التي يختارون.
الإنجليزية في المغرب بين وضعها الحالي و الدعوة إلى تعزيز حضورها
إن الأدبيات التي تطرقت إلى صعود نجم الإنجليزية و التراجع النسبي لجل اللغات الاستعمارية الأخرى وفيرة، و كلها تقيم الحجة القاطعة على ريادية اللغة الإنجليزية عالميا. و حتى في وقت مبكر نسبيا، سنة 1997، قام الباحث اللغوي دافيد جرادول بحصر اثنا عشر مجالا يسود فيها استخدام اللغة الإنجليزية ؛ و هي: 1) المنظمات و المؤتمرات الدولية، حيث تعتبر الإنجليزية لغة عمل ؛ 2) المنشورات العلمية ؛ 3) قضايا تدبير التغيير، حيث تعتبر الإنجليزية لغة التدريس ؛ 4) الإعلانات عن الماركات التجارية العالمية ؛ 5) الإنتاج الثقافي السمعي البصري ؛ 6) السياحة الدولية ؛ 7) التدريس في مراحل التعليم ما بعد الثانوي ؛ 8) التعليمات في مجال السلامة الدولية ؛ 9) القانون الدولي؛ 10) الترجمة الشفوية والتحريرية بوصفها لغة نقل ؛ 11) مجال نقل التكنولوجيا إلى بلدان العالم النامي ؛ و 12) الاتصال و التواصل الإلكتروني عبر شبكة الإنترنيت. و طبعا كان هذا قبل انفجار ثورة التواصل الاجتماعي الذي دشنت بدايته بوابة الفايسبوك ابتداء من سنة 2005.
هذه إذن هي المجالات الرئيسة التي تسود فيها لغة تولت بريطانيا العظمى في بداية الأمر نشرها عبر أرجاء المعمور بطرق سلمية و غير سلمية. و لطالما سادت هذه اللغة كرمز من رموز الإمبراطورية، إلا أن اعتبارات أخرى اقتصادية وثقافية أضحت بعد ذلك محركها الأساسي. و لعل هذا ما عناه ياسوكاطا يانو، أستاذ اللسانيات التطبيقية بجامعة واسيدا ( اليابان)، في أحد مؤلفاته الصادرة سنة 2001 حيث قال : "يتطلب إرساء لغة عالمية التوفر على قوة عسكرية، لكن الحفاظ على صدارتها و العمل على نشرها يستلزم بالضرورة قوة اقتصادية ".
على عكس ما حدث في دول مثل جورجيا و رواندا --وهما البلدان اللذان قررا فجأة إحلال الإنجليزية محل الروسية و الفرنسية بالرغم من وجود نقص حاد في مدرسي اللغة الإنجليزية وقاعدة سكانية متواضعة من المتحدثين بهذه اللغة-- كان المغرب و لعدة عقود منفتحا على اللغة الإنجليزية، مما أنتج أعدادا مهمة من المغاربة الذين يمتلكون قدرات متفاوتة على التحدث بهذه اللغة. و كما هو الحال في بقاع كثيرة من العالم، فإن استعمال اللغة الإنجليزية في المغرب تزايد بوتيرة سريعة خلال العقود القليلة الماضية؛ و للتدليل على أن هذا المنحنى في تصاعد، فإن عدد الطلاب الذين يتابعون دراساتهم في أقسام اللغة الإنجليزية في كليات العلوم الإنسانية المتناثرة في جميع أنحاء المغرب يفوق عدد أولئك المسجلين في باقي الأقسام الجامعية الأخرى.
و لا يبدو إن المكاسب التي حققتها اللغة الإنجليزية في المغرب قد تمت على حساب اللغة الفرنسية؛ فهذه الأخيرة عززت مكاسبها و مكانتها مستفيدة من ضعف و فشل بعض مبادرات التعريب في قطاع التعليم، كما استفادت من ناحية أخرى من وجود بنية دعم هائلة لتعليم الفرنسية في البعثات الثقافية الفرنسية المبثوثة في كافة ربوع المملكة. و كما هو عليه الحال في البلدان المغاربية الأخرى، يُشهر الكثيرون في المغرب حبهم للغة الإنجليزية، بيد أنه عندما يتعلق الأمر بإعطاء تصورهم عن اللغة الأكثر فائدة لهم --هل هي لغة شكسبير أم موليير؟-- فإن الفرنسية هي التي يقع عليها الاختيار. و مع ذلك، تظل الإنجليزية اللغة التي ينظر إليها على أنها الأكثر فائدة في الاتصال و التواصل مع بقية العالم؛ كما يؤكد ذلك التقرير الصادر سنة 2011 عن المجلس الثقافي البريطاني في الرباط، و الذي يفيد أن 85 % من المغاربة "يرون أن التحدث باللغة الإنجليزية مفيد [للمغرب]". لكن هذه اللغة المعشوقة سرعان ما يتم هجرها من طرف الكثيرين رغم مركزيتها في عوالم التجارة الدولية و الثقافة و وسائط الإعلام الاجتماعي، إذ يسارع هؤلاء، من منطلق النفعية، إلى الالتفاف حول الفرنسية كبوابة ذهبية تتيح الولوج إلى الشغل كما يعد امتلاكها شرطا أساسيا من شروط الاحترام المجتمعي. و لطالما تسبب الوضع أعلاه في إحباط العديد من الأفراد، خاصة أولئك الذين لم يتلقوا تكوينهم في الجامعات الفرنكوفونية، إضافة إلى الشريحة الواسعة من فئة المهاجرين المغاربة من خارج فرنسا و بلجيكا. لقد علق أحد المغاربة ممن تلقوا تعليمهم العالي كليا باللغة الإنجليزية بمرارة على شبكة الإنترنت من أن الفرص التي تتوفر لحامل الدكتوراه العائد إلى بلاده والذي لا يتقن سوى اللغة الإنجليزية، تعادل عمليا تلك التي تتوفر لشخص أمي يرغب في الوصول إلى وضعية مهنية مرموقة؛ بل إن كلا الشخصين، يضيف هذا المشتكي، سينالان نفس القسط المتدني من الاحترام والهيبة الاجتماعية في المغرب، عكس ما سيتمتع به حامل شهادة مماثلة من جامعة فرنسية.
وأيا كان الأمر، فإننا نسجل في المجمل أن غالبية المغاربة المتعلمين بدؤوا يرسمون استراتيجيات لغوية لهم و لأبنائهم تضمن حقهم في تعلم اللغات الأجنبية الأخرى، في تعايش تام مع اللغة الفرنسية.
فَتْح النقاش حول تعزيز وضع اللغة الإنجليزية بالمغرب: لماذا الآن؟
بالإضافة إلى الحاجة القصوى الجماعية و الفردية إلى لغة عمل و تحصيل و تواصل حديثة و عالمية إلى جانب اللغة العربية، هنالك أسباب تجعل النقاش حول إعطاء الصدارة للغة الإنجليزية في المغرب شيئا ضروريا لا ينبغي أن نخشاه أو نتحاشاه. و في ما يلي ثلاث اعتبارات شبه بديهية:
أولا، غدت اللغة الإنجليزية اليوم، أكثر من أي وقت مضى، في متناول فئة عريضة من المغاربة. لقد تزايد تعلمها و استخدامها حتى عندما لم يتمكن التعليم النظامي الرسمي من التأقلم و مواكبة الاحتياجات اللغوية للمواطن المغربي في سعيه للانفتاح و استثمار الفرص المتاحة داخل و خارج حدود بلاده. و هنالك حزمة من الدلائل على التطور الذي عرفه استخدام اللغة الإنجليزية بالمغرب. و لا بأس هنا أن نورد حكاية طريفة وردت على مسامعنا مؤخرا تشكل في حد ذاتها دليلا على تنامي و تنوع احتياجات الناس اللغوية. تجمع هذه الحكاية بين شابة مغربية، و هي من أخبرتنا بالواقعة، و شاب تركي الجنسية، دأبا على التحاور مع بعضهما البعض كتابة عبر شبكة الإنترنت. تحكي هذه الفتاة، و أغلب الظن أنها نالت ما نالت من سحر المسلسلات التلفزيونية التركية ذائعة الصيت، كيف أنه عندما استحال عليها التواصل مع مخاطبها بالإنجليزية، لجأت إلى محرك جوجل الخاص بالترجمة في عملية شاقة لفك الشفرة وإعادة التشفير اللغوي من و إلى اللغة الإنجليزية. إن هذه الشابة المغربية التي تسعى اليوم إلى استخدام الإنجليزية للتواصل مع العالم الخارجي، تماما مثلما يحاول أن يقوم بذلك مواطنون آخرون، من دبلوماسيين ومهاجرين و مستوردي البضائع من آسيا، و مرشدين سياحيين و موظفي مصالح الاستقبال في الفنادق و غيرهم، سوف يبتهجون حينما تعطى لهم فرصة الإدلاء برأيهم في موضوع اللغات الأجنبية التي يودون أن تلقن لأبنائهم غدا، و الأهم من ذلك، إعطاء رأيهم بخصوص تراتبية هذه اللغات.
ثانيا: إن التداعيات الأيديولوجية (غزو ثقافي، طمس للهوية، الخ) التي يمكن أن تترتب عن تعزيز دور اللغة الإنجليزية و التي وصفت بشيء من التهويل في بعض الأدبيات على أنها ذات وقع مدمر على الهويات واللغات الوطنية، سيكون وقعها ضعيفا في الحالة المغربية، إذ سيتم احتواءها بسهولة عن طريق التوازن الذي تفرضه طبيعة التعدد اللساني واللغوي السائد. بتعبير آخر، إن مظاهر "الإمبريالية" و "هيمنة" اللغة الإنجليزية لن تكون ذات تأثير مهم، على عكس ما هو عليه الحال في مناطق أخرى بإفريقيا و آسيا. كما أنْ لا خوف من أن تقوم اللغة الإنجليزية،على سبيل المثال، بإضعاف اللغة العربية داخل النسيج الاجتماعي المغربي (عكس ذلك ربما هو الأصح، إذ تؤكد بعض الدراسات ذات المصداقية أن اللغة العربية سوف تحقق تقدما خارقا في العالم خلال الأربعين سنة القادمة)؛ و بدورها سوف تحافظ الفرنسية على وضعها الجيد و لسنوات عديدة كلغة ذات أهمية كبيرة في حياة جزء كبير من المغاربة، على الرغم من التقدم المستمر للغة الإنجليزية .
ثالثا، لقد تم التأكيد على دعم اللغات الأجنبية بالمغرب رسميا بموجب وثيقة رسمية بالغة الأهمية صدرت سنة 2000، وهي "الميثاق الوطني للتربية و التكوين" الذي شكل أساس إصلاح منظومة التعليم بالمغرب. و بالفعل، فإن المادة 110 من الميثاق المذكور تنصص على أن المغرب سوف يعتمد "سياسة لغوية واضحة و منسجمة و قارة في ميدان التعليم" تقوم على مسارات رئيسية هي: أولا، "تعزيز تعليم اللغة العربية و تحسينه (هكذا)؛" ثانيا، " تنويع لغات تعليم العلوم و التكنولوجيا،" ثالثا، "التفتح على الأمازيغية"، و رابعا، "التحكم في اللغات الأجنبية". و مما لا شك فيه، فأن اللغة الإنجليزية، و هي لغة العلوم و التكنولوجيا بامتياز، هي التي كانت حاضرة في أذهان واضعي هذا الميثاق عندما أكدوا على تنويع لغات تعليم العلوم و التكنولوجيا. ومع ذلك، لوحظ انه عندما بدأ التنفيذ الفعلي للإصلاح في مجال التعليم العالي في سبتمبر 2003، كانت اللغة الفرنسية وحدها، دون سائر اللغات الأجنبية الأخرى بالمغرب، هي المستأثرة بمجزوءة اللغة في وحدات اللغة و المعلوميات المحدثة آنذاك في الجامعات المغربية. و في كليات العلوم و مدارس المهندسين برمجت للطلبة حصص الدعم في اللغة الفرنسية قبل الشروع في متابعة دراسة العلوم و التكنولوجيا، في حين استفاد بعض المسئولون و الأساتذة الجامعيون من ميزانية فرنسية تم رصدها لدعم الإصلاح، بمركزية الفرنسية فيه، على مدى عدة سنوات يحمل اسم "صندوق التضامن ذو الأولوية لدعم إصلاح التعليم العالي المغربي، FSP-ARESM". و بالرغم من ضعف الاهتمام الرسمي بها فقد تعاظمت حاجة الجامعة المغربية إلى اللغة الإنجليزية. و لم يكن بوسع رئيس جامعة فرنكوفوني التكوين و الهوى في اجتماع سنة 2006 سوى أن يتفق مع ملاحظة مفادها أن الجامعات المغربية تحتل رتبا أقل من قيمتها الحقيقية في الترتيب العالمي للجامعات الدولية لأن البحوث المنجزة من داخل هذه الجامعات لا تكتب باللغة الإنجليزية، إلا استثناء، مما يجعلها غير ذات تأثير يذكر في الأوساط العلمية الدولية. و بعد الاعتراف بهذه الحقيقة، سيضيف رئيس الجامعة هذا التصريح الصريح و النادر: "وفروا لي أساتذة باستطاعتهم التدريس باللغة الإنجليزية ، وأعدكم بإعادة كتابة غالبية مواد المقررات الدراسية ".
هذا المسئول الإداري ليس وحده من يؤكد على الحاجة إلى تعزيز وضع الإنجليزية بالمغرب، و الأهم من ذلك، على ضرورة توفير الوسائل الكفيلة بتحقيق هذا الهدف اللغوي الحيوي خدمة للبحث العلمي والتواصل بكل أنواعه، و تيسيرا للتعامل الايجابي مع التحولات المتلاحقة التي يشهدها العالم. لذا ينبغي علينا جميعا الإقرار بأن التغيير و التجديد اللغوي أمر لا مهرب منه، خصوصا و نحن على مشارف القرن الأسيوي، بثقله السكاني و الاقتصادي و الإستراتيجي -- فهل سنتمكن، كلنا، من اللغة المفتاح للنهل من خيراته؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.