شكل فوز باراك أوباما في الانتخابات الرئاسية الأمريكية يوم الثلاثاء 4 نونبر بداية نهاية فكر المحافظين الجدد وللفكر الريغاني ( نسبة لرولاند ريغان ) الذي أسس بمعية مستشاريه لهذا الفكر المحافظ ألإقصائي.وقد ظهر هذا الفكر مع وصول رولاند ريغان إلى الرئاسة في مطلع الثمانينيات حيث أخذ ينمو ويتجدر وسط المثقفين والمفكرين المحسوبين على الحزب الجمهوري خصوصا مع تزامنه بسقوط جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفيتي السابق, وأصبح يروج لهذا الفكر ويطرح كبديل للفكر الاشتراكي المنهار ’وظهر ما يسمى بنظرية نهاية التاريخ التي طرحها المفكر الأمريكي من أصل ياباني فرانسيس فوكوياما. غير أن الإحباط والكره اللذين سادا في وسط عموم الأمريكيين ورفضهم للخطاب السياسي الذي تبنته الإدارة بزعامة جورج بوش الابن ’ وحماسة الشاب باراك أوباما ساهمت في تجاوز منافسه الجمهوري بسهولة لم تعهدها الانتخابات الأمريكية من قبل . "" لقد احتفل الأمريكيون بكل أطيافهم السود منهم والبيض’ الأغنياء والفقراء كل بطريقته الخاصة بالانتصار التاريخي العظيم الذي أنجزه أوباما حيث سيؤسس لمرحلة تاريخية جديدة تتجاوز إلى حد ما الإرث التاريخي المليء بالكراهية والعنصرية الذي لا يزال يظهر ويختفي من حين لآخر. فالشعار الذي حمله منذ انطلاق حملته الانتخابية "التغيير والأمل" دفع الشعب الأمريكي إلى التصويت له والإطاحة بأحد الصقور الذي يعتبر الوجه الآخر لبوش والحامل لمشعل أفكاره بامتياز. إن فوز أوباما يعني للكثير من المهتمين والمراقبين وضع القطيعة مع فكر ومرحلة تميزا بالحرب وتهديد السلم العالمي’ كما اعتبرت أسوأ مرحلة في تاريخ الولاياتالمتحدةالأمريكية. غير أن حماسة هذا الأمريكي ذو الأصول الإفريقية ورؤيته إلى المستقبل بعين الأمل والتغيير سوف لن يجد الطريق مفروش بالورود ’ ولن تكون سهلة مثل فوزه العريض على منافسه جون ماكين بل ستعترضه عقبات من الصعب تخطيها لأن الإدارة السابقة ستترك له إرثا ثقيلا يمكن إجماله في الحربين الاستنزافيتين بالعراق وأفغانستان وكذلك الحرب على الإرهاب التي أطلقها بوش الابن منذ وصوله إلى السلطة ,إضافة إلى ارتفاع الدين الأمريكي وارتفاع سعر برميل النفط والتحول الذي شهدته ميزانية الدولة من حالة الفائض إلى وضعية العجز ناهيك عن الأزمة التي أخذت تدب في عروق الاقتصاد العالمي الناتجة عن تصورات الإدارة الأمريكية في عهد ريغان والمبنية على تقليص الضرائب وتحرير الاقتصاد ’والضغط على العالم النامي والثالث للانفتاح على الفكر الليبرالي الخالي من كل القيود والمعتمد على حرية تنقل الأموال دون قيد أو شرط ’ فالأزمة الحالية ليست وليدة اللحظة بل انعكاس لسنوات , ومن الصعب على باراك أوباما ومستشاريه الاقتصاديين التخلص منها بسهولة بل يتطلب ذلك إعادة بناء فكر اقتصادي يساير المرحلة ويجيب عن معظم القضايا الاقتصادية الراهنة بشكل دقيق . فعلى الإدارة الجديدة أن تعمل على هدم وخلخلة المفاهيم التي روجت من قبل المحافظين الجدد لبناء تصورات تعيد للدولة هبتها وسلطتها للتحكم في الاقتصاد , مع التركيز على الطبقة الوسطى . من خلال قراءة متأنية للوضع الدولي يبدو أن أوباما- أو بالأحرى إدارته - لن يحدث المفاجأ ويحصل التغيير الذي ينشده- هو وحتى الشعوب بصفة عامة- بين عشية وضحاها لان الإرث الذي سيواجهه ليس بالهين فهو عبارة عن تراكمات لسنوات عديدة إضافة إلى الخسائر الباهضة التي يتعرض لها الجيش الأمريكي بالعراق. بالمقابل فهو مطالب أولا بتغيير صورة أمريكا السلبية والراسخة في ذهنية العقل سواء العربي أو الغربي ’لأن الصورة التي تسيطر الآن بشكل عام فهي قاتمة وسوداوية ’ كلما تذكرت أمريكا إلا وتحضر أمامك الحروب التي شنتها في العراق دون أي سند قانوني ’ استحضارها يحيلك إلى فضائح سجن أبو غريب , سجن غوانتناما ’ سجن باغرام ’ إضافة إلى ترحيل السجناء إلى الدول العربية لانتزاع الاعترافات منهم عن طريق التعذيب لأن العرب فنانون في أدوات التعذيب ’ وكل هذا منافيا للقوانين الدولية ولحقوق الإنسان رغم ما تدعيه من دفاع عن حقوق الإنسان وا لديمقراطية . هذه مجرد شعارات ترفعها في وجه كل من لا يساندها في مشاريعها الاحتلالية أو له مواقف من الكيان الصهيوني . فعلى أوباما أن يعمل ولو نسبيا على تحسين هذه الصورة السوداوية ’ من بلد يدعو إلى الحرب إلى بلد محب للسلام ومدافع عنه في المحافل الدولية , من بلد يستعرض القوة العسكرية ضد الجميع إلى بلد مهادن يدعو إلى الحوار والرجوع إلى الأممالمتحدة لإيجاد حلول للقضايا العالقة مثل التفاوض بشأن ملف إيران النووي وبوضع إستراتيجية لقضايا الشرق الأوسط لأن هذا الأخير عرف أبشع حرب قادتها الولاياتالمتحدة ضد العراق دون أي سند دولي أو قانوني’ فالشعوب العربية تريد التغيير في المنطقة ولكن ليس على مصالحها الذاتية بل بشكل تراعى فيه حقوق هذه الشعوب المهضومة. أما على المستوى القضايا الخارجية خصوصا قضية العرب الجوهرية فلسطين فيبدو غير جاد في إيجاد حل عادل لهاته القضية بل سيواصل نفس النهج المعهود لدى الإدارة الأمريكية فأمن إسرائيل أولا هو أمن أمريكا وتهديد لأمنها هو كذلك مس بأمنها , ويتجلى ذلك في تعيين راموه ايمانويل- باعتباره إسرائيليا- في منصب كبير موظفي البيت الأبيض ’ فهذا التعيين يرسل رسالتين الأولى مفادها أنه يريد أن يبعد تهمة تعاطفه مع القضايا الإسلامية لأنه من أصل إفريقي وأب مسلم والثانية أنه مع اللوبي الصهيوني شكلا ومضمونا.فلكي تأخذ قضية فلسطين حجمها في أوساط الإدارة الأمريكيةالجديدة ’ على الزعماء العرب أن يتحدوا ويتبنوا موقفا واحدا خصوصا وان الغرب وأمريكا خاصة تمر من مرحلة اقتصادية حساسة يجب استغلالها للحصول على ما يريدون فليقايضوا بهاته القضية ويطرحوا شروطهم لأن الغرب في حاجة ماسة إلى دعم اقتصادي من دول الخليج . فالتهاون والتقاعس سوف يفوت الفرصة على الزعماء العرب للحصول ولو على الحد الأدنى من المطالب التي تطمح إليها. وكما أشار بعض المحللين والمراقبين أنه الصعب التكهن لما سيقدم أوباما من حلول للقضايا التي يعيشها العالم بشكل عام و القضايا العربية بشكل خاص لأن الوضع العربي وضع مزري مشتت لا يرقى إلى طموحات الشعوب العربية ’ لذا يجب أن نكون حذرين من هذا الفوز لأن السياسة الأمريكية في شكلها العام تنبني على المصالح الذاتية ولا يمكن أن تحمل في برامجها ما يدل على التغيير.وسوف تبدي لنا الأيام ما نجهله الآن وذلك بعد 20يناير2009 . ما يمكن استخلاصه من نتائج ,أن هذه الانتخابات الرئاسية الأمريكية تعتبر درسا للنخب السياسية بصفة عامة والعربية على وجه الخصوص وذلك بالرهان على الشعوب في التغيير والحسم مع الأشكال الماضوية والتطلع دائما نحو مستقبل أفضل لأن مشعل التغيير عبر التاريخ في يد الشعوب’كما أن العودة إلى الالتحام بها وبهمومها وبتطلعاتها سوف يذكي روح الانخراط في العملية السياسية ويعيد الثقة لها لتساهم في بناء الغد المشرق الذي تتطلع إليه . إن هذا الفوز التاريخي الذي حصل على يد هذا الشاب ذي الأصول الإفريقية يعلن بشكل لا ريب فيه على انهيار منظومة المحافظين الجدد ونهاية لفكر ظل مهيمنا وسيحيي من جديد لمسألة الصراع بين الأقطاب التي اختفت لعقود على الساحة الدولية ’ وتبدو بوادر ذلك على مستوى إصلاح ميثاق منظومة المالية الدولية التي تتحكم في دواليبه الولاياتالمتحدة إذ يتضح أنها لا تريد التخلي عن تحكمها في صندوق النقد الدولي والبنك العالمي رغم مشاكلها الاقتصادية لأن الميثاق والطريقة التي وضع بها يضمن لها مصالحها الاقتصادية.