قبيل الغزو الروسي لأوكرانيا، مع حشد ما يقارب 150 ألف جندي روسي على الحدود الأوكرانية، كان الاعتقاد السائد أن سيطرة قوات الكرملين على العاصمة كييف ستغرق أياما قليلة -إن لم نكن لنقل ساعات-. لم يكن المرء بحاجة ليكون خبيرا عسكريا كي يلحظ الفرق الهائل بين القدرات العسكرية الروسية مقارنة بالجيش الأوكراني. فالكل توقع حدوث السيناريو الأفغاني مجددا؛ وذلك مع سقوط الحكومة الأفغانية في أيام، واستسلام القوات الحكومية بدون حتى الدخول في معارك مع طالبان. وبالتالي فإن التصور السائد بين العديد من الخبراء العسكريين، قبل انطلاق عملية الغزو، كان هو فتح القوات الروسية لجبهات متعددة في أوكرانيا بهدف تشتيت الجيش الأوكراني، الدخول للعاصمة كييف قصد إسقاط حكومة الرئيس فلاديمير زيلينسكي واستبدالها بحكومة موالية لموسكو، ثم إحكام السيطرة على كامل أرجاء التراب الأوكراني. ونحن في أعقاب الأسبوع الثالث من الحرب، إذ أي من هذا لم يحدث. بل على العكس من ذلك، يبدو أن القوات الروسية واجهت مقاومة عنيفة، تلقت خسائر مادية وبشرية كبيرة، وما زالت لحد الساعة عاجزة عن فرض سيطرتها على العاصمة كييف. إذن ما هي أسباب الانتكاسة العسكرية الروسية؟ إساءة الكرملين تقدير الاستجابة/المقاومة الأوكرانية لم يتوقع الرئيس الروسي بوتن أن تتخذ تبعات الحرب على أوكرانيا هذا المجرى. وإلا لم يكن ليتخذ مثل هذه الخطوة. ذلك أن تقارير من الاستخبارات الروسية أفادت بأن شريحة كبيرة من الأوكرانيين غير راضية عن أداء حكومة الرئيس زيلينسكي. وبالتالي كانت توقعات الكرملين أن الغزو الروسي سيتلقى قبولا من الشعب الأوكراني؛ أخذا بعين الاعتبار أن الرواية الروسية لهذه العملية العسكرية كانت هي تحرير الشعب الأوكراني من هيمنة حكومة تابعة للغرب ("دمية الولاياتالمتحدةالأمريكية"). لم يكن رد فعل الأوكرانيين كما توقعته القيادة الروسية. لم يقم الرئيس زيلينسكي بالفرار من البلد (على غرار الرئيس الأفغاني أشرف غني)، ولم يستسلم الجيش الأوكراني. بل على العكس من ذلك، نشر زيلينسكي مقاطع فيديو متكررة يطمئن من خلالها الأوكرانيين، متحديا فيها القوات الروسية، ومؤكدا على عدم مغادرته الأراضي الأوكرانية. إن مثل هذه التصريحات لا بد أنه كان لها تأثير كبير على معنويات الشعب الأوكراني عموما، وأفراد القوات المسلحة على وجه الخصوص. يمكن القول بإن المعنويات العالية للأوكرانيين قد تكون من بين أهم أسباب صمود المقاومة الأوكرانية؛ وهي معنويات تكاد تكون غائبة في صفوف أفراد القوات الروسية، الذين لم يستطيعوا بعد استساغة الغاية من الحرب على أوكرانيا. بالفعل، إن سلوك الجندي الأوكراني تؤطره الرغبة في الدفاع عن بلده، لكن ماذا عن الجندي الروسي؟ عدا أن الأمر يتعلق بأوامر من الرئيس بوتين، ما هي الأسباب التي تبرر الدخول في هذه الحرب؟ وحتى إن كانت هناك أسباب تدعو للقلق حيال أوكرانيا (وإمكانية انضمامها لحلف الناتو أو الاتحاد الأوروبي)، هل تستحق هذه الأسباب تكلفة الحرب الباهظة التي قد تشمل الموت في أرض المعركة؟ إن كل هذه الأسئلة تعكس بشكل جلي مدى الضعف الذي يعتري معنويات الجيش الروسي في هذه الحرب. ارتباك واضح في التخطيط للعملية العسكرية وتنفيذها لم تقم القيادة الروسية في الأيام الأولى من الغزو بتعبئة جميع القوات العسكرية المتاحة، وبالتالي لم تستفد من تفوقها العسكري الكمي والكيفي بالشكل اللازم. تميزت العملية العسكرية الروسية، كذلك، بضعف التنسيق بين الوحدات العسكرية سواء على الأرض أو بين الوحدات العسكرية البرية والجوية؛ أخذا بعين الاعتبار أن فتح عملية عسكرية من ثلاث جبهات على مساحات شاسعة أدى لتشتيت جهود الجيش الروسي. تزامن كل هذا مع تحديات في إمدادات الوقود والغذاء، خاصة مع توالي الهجمات الأوكرانية على خطوط الإمدادات الروسية. إن الشيء اللافت للانتباه كذلك هو غياب شبه كلي للقوات الجوية الروسية داخل المجال الأوكراني. قبل بدء العملية العسكرية، توقع العديد من الخبراء العسكريين تفوق الطيران الحربي الروسي على الدفاعات الأوكرانية، وبالتالي سيطرة الروس على المجال الجوي في أوكرانيا. إن مثل هذه السيطرة كانت ستمكن الجيش الروسي من تأمين التغطية الجوية للقوات البرية، الشيء الذي سيسهل تقدم هذه القوات نحو العاصمة كييف. إحكام السيطرة على المجال الجوي من شأنه أن يمكن كذلك من شل حركة القوات الأوكرانية، وقطع الإمدادات العسكرية عليها (خاصة المساعدات العسكرية المتدفقة من دول حلف الناتو، والتي لم تستطع القوات الروسية لحد الآن وقف تدفقها). ليس من الواضح إن كان غياب حضور القوات الجوية سببه فشل من جانب الجيش الروسي، أم أن هذا الغياب يعد جزءا من الاستراتيجية العسكرية الروسية؛ بيد أن الواضح هو أن عدم السيطرة على المجال الجوي الأوكراني شكل عائقا كبيرا في وجه تقدم العملية العسكرية الروسية. مقاومة أوكرانية فاقت التوقعات كان رد فعل الأوكرانيين على الغزو الروسي من بين الأمور الحاسمة في إبطاء تقدم القوات الروسية. فمباشرة بعد انطلاق عملية الغزو تجندت مختلف مكونات الشعب الأوكراني والهدف كان واحدا: الحؤول دون سقوط كييف في يد "المستعمر الروسي". انضم بعض المواطنين إلى صفوف الجيش، فيما تطوع آخرون لبناء خنادق قصد تقوية دفاعات المدنية؛ فيما قاتل الجيش الأوكراني ببسالة بهدف إبطاء تحركات القوات الروسية، بل والقيام بهجومات مضادة في بعض الأحيان. انخرطت القيادة السياسية الأوكرانية، بقيادة الرئيس زيلينسكي (إلى جانب مختلف مكونات الطبقة السياسية من وزراء ونواب برلمانيين...)، في حملة لتعبئة وتوحيد الأوكرانيين والتأثير على الرأي العام الدولي. فبالإضافة إلى المعركة العسكرية على الأرض، هنالك معركة أخرى، معركة كسب الدعم والعطف الدوليين؛ معركة البروباغندا في وسائل التواصل الاجتماعي التي لا تقل أهمية عن المعارك العسكرية. فمن خلال كم هائل من الفيديوهات التي تُظهر تحدي الرئيس زيلينسكي لنظيره بوتين أو تلك التي تعرض خسائر في صفوف القوات الروسية أو ضحايا أوكرانيين، استطاعت البروباغندا الأوكرانية تعبئة الأوكرانيين داخليا، وكسب دعم مواطني الدول الأجنبية خارجيا (بل وحث بعضهم للقدوم لأوكرانيا بغرض القتال في صفوف الجيش الأوكراني). إن التعاطف الدولي (خاصة الغربي) مع القضية الأوكرانية أدى إلى ضغط متزايد على الحكومات الغربية لترسل المزيد من المساعدات لأوكرانيا، ودفع العديد من الشركات الأجنبية لوقف نشاطاتها في روسيا. بالإضافة إلى معنويتها العالية، فإن الملاحظ كذلك أن القوات الأوكرانية استعملت بذكاء معداتها العسكرية ملحقة خسائر كبيرة في صفوف الجيش الروسي. فقد أحسن الأوكرانيون استخدام مضادات الدروع الأمريكية (جافلين Javelin) أو البريطانية (نلاو NLAW) بغرض تدمير الدبابات الروسية. وفي غياب لقوات جوية كافية، عول الجيش الأوكراني على الطائرات المسيرة التركية (Bayraktar TB2) لتدمير معدات عسكرية روسية ومركبات لإمدادات الذخائر والوقود، وللقيام بعمليات استخباراتية قصد تحديد مواقع وتحركات الجيش الروسي. بالفعل، إن أداء الجيش الروسي لم يكن في المستوى المطلوب، وظل بعيدا عن تحقيق الأهداف التي أرادتها القيادة الروسية من هذه العملية العسكرية: غزو سريع لأوكرانيا قصد تثبيت دعائم حكومة موالية لموسكو، وبدون تكلفة عسكرية واقتصادية كبيرة. بيد أن هذا لا يعني أن القوات الروسية خسرت الحرب أو أضحت غير قادرة على قلب موازين قوى الحرب لصالحها. إن روسيا ما زالت لها القدرات الكافية لإلحاق خسائر بالغة بالجيش الأوكراني، حصار المدن (خاصة الكبرى منها) وتدميرها، بل واستعمال أسلحة كيماوية (إن لم نقل استعمال أسلحة نووية تكتيكية داخل المعارك العسكرية). إن الكرملين ما زال قادرا على غزو أوكرانيا بشكل كلي. بيد أن السؤال الواجب استحضاره، والحالة هذه، هو ليس حول قدرة روسيا على الغزو الشامل لأوكرانيا، بل إنما هو حول التكلفة التي يستطيع الكرملين تحملها في هذه الحرب، وهل غزو أوكرانيا يستحق كل هذا؟ هل سيستمر بوتين في حربه على أوكرانيا؟ أم أن تزايد حجم وخطورة تبعات الحرب سيدفعه للانسحاب والقبول بتسوية سلمية عن طريق المفاوضات مع الحكومة الأوكرانية؟ الأحداث في الأيام والأسابيع المقبلة من شأنها الإجابة على هذه الأسئلة.