بين كتب التاريخ ومرارة الواقع وآمال المستقبل تكمن الحقائق من قدر الله تعالى ومن إرادة فعل الإنسان. إنسان يَغْزوا ويُغزى، ويَحتلُّ ويُحْتل، ونفس تتحرَّر وأخرى تقاد مغلولة بأغلال الذلِّ والعبودية والرضوخ لواقع فرضته عليها نفس أخرى متشبعة بالسَّطوة والسلطة. بينما هي لا يعدوا طموحها ولا تنبثق إرادتها إلى التحرر والكرامة وحياة إنسان بكامل إنسانيته التي وهبها الله له. العقل والفكر والحب والعاطفة والحرية والكرامة ومشيئة الاختيار وعدم الإكراه، والسمع والبصر والفؤاد، أضف إليها التكريم الإلهي والاصطفاء والتفضيل على سائر المخلوقات وتسخير الكون للإنسان، كل هاته الأشياء هبات ربانية تدور في فلك سير الإنسان في ليله ونهاره وصباحه ومسائه، منها ما يولد ويترعرع معه وتخطوا معه خطوات التقدم في الحياة إلى أن تُوَسَّدَ معه في مثواه ومضجعه الأخير، إنها الكرامة والحرية. وقد تضيع في دروب الحياة ومتغيرات الواقع، والناس في ذالك أصناف، منهم من يفقد طعم الحياة ويصارع ويكابد من أجل استرداد حقه الأزلي. الكرامة والحرية، حق منحه الله تعالى له ولا منة لأحد فيه عليه. لذا تجده يعتبره الحياة نفسها ولا قيمة للحياة إن كانت بلا كرامة ولا حرية. ومنهم لا يلقي لها بالا حتى، الحياة بالنسبة له أن يجد ما يأكل ويشرب وكيف يمر عليه اليوم تلو اليوم، سواء قيل له فيه يا حمار أو يا جحش، لا فرق إن كان يأكل طعامه بنفسه ومن كدِّه أو من فتات سيده، بعد يوم شاق من العمل يرمي له سيده رغيف خبز يابس يأكله في زاوية. تعريف: "العبودية أو" الرِّقُ " هي نوع من الأشغال الشاقة القسرية طوال الحياة للعبيد، وكانت ملكيتهم تعود للأشخاص الذين يستعبدونهم، وكانوا يباعون بأسواق النخاسة أو يشترون في تجارة الرقيق بعد اختطافهم من مواطنهم، أو يهدي بهم مالكوهم أو يأسرون في الحروب"..إلخ. أو هي: "نوع من الامتلاك البشري لأشخاص معينين يمتلكون المال والسلطة والنفوذ التي بها يتمكنون من دفع قيمة العبد، وذالك لغرض استخدامه في تنفيذ الأشغال الصعبة وخوض الحروب وغيرها من الأعمال التي توكل على أساس السخرة القهرية مقابل إيوائه وإطعامه". جُلُّ التعريفات تدور في هذا المدار وهي حق لا مرية فيه، ولكن إن كان الزمان قد ولَّى ظهره عن هذا الأمر وبات لدينا اليوم أنواعاً أخرى من العبيد، نصف التعريف أو قل جله يصدق عليهم وما يتبقى إلا لفظة أو إثنين. فيحسب الكثيرون أن زمن العبودية والاسترقاق قد ولّى والناس اليوم أحرار أبرار، كلا. كم يزعم من واحد أن العبودية هي انتزاع الحرية، ويحيلوننا إلى التعريفات التقليدية للعبد، بينما نجد اليوم كمّاً من الأحرار على حدِّ زعمهم بأسماء عصرية ومساحيق تجميلية وذمم مستعبدة وخدمات مقدمة للسادة القادة بلا كمِّ ولا كيف، نفس الخدمة التي يقدمه العبد لسيده بنفس الأمر وبنفس الذل والمهانة والانصياع والخوف والهلع، يقدمها هؤلاء لأسيادهم مع انبطاح وتملُّقٍ وخطب ودٍّ لنيل الرضى والقبول. بالأمس كان دور العبيد وارتباطهم بالمجتمع محدود ومعروف، تحدد العبودية حركاتهم وتقضي على إنسانيتهم، وحتى مع تجاوز الإنسان لهذا النوع من العبودية اليوم هو غارق في نوع آخر من الاستعباد. أليس استعباداً أن تنتزع الكرامة والحرية من شريحة كبيرة من المجتمع، وأن تفرض عليهم قسراً قوانين وصكوكاً ما عليهم إلا أن يقولوا سمعنا وأطعنا. وتعيش الملايين من الناس لتلبي رغبة الفرد الواحد وتمجد قوله وفعله وحركته. أليس استعباداً أن تنتزع حقوقهم وتداس كرامتهم وتهان إنسانيتهم فلا مأوى لائق ولا طعام ولا تعليم ولا صحة ولا عمل، يدور كالرحى وفي الآخر ترمى له جنيهات ليبيع نفسه في صندوق الاقتراع، ويعمل السادة المستبدون بلا كلل ولا ملل لرفع هذا المستوى من الشعور وكبت الصوت الأخر الذي ينادي بالحرية والكرامة والمشاركة في الحقوق الإنسانية والوطنية والاجتماعية. أليس هذا هو الاستعباد وإن اختلفت الصيغة والشكل. لكني أستأنس بتعريف آخر ونظرة إسلامية للعبد والعبودية.في تعريف للإمام الاصفهاني يقول: " والعبد يقال على أربعة أضرب: الأول: عبد بحكم الشرع وهو الإنسان الذي يصح بيعه وابتياعه. العبد المملوك. الثاني: عبدٌ بالإيجاد وذالك ليس إلا لله. الثالث: عبد بالعبادة والخدمة والناس في ذالك ضربان: 1 عبد لله مخلصاً . 2 عبدٌ للدنيا وأعراضها وهو المعتكف على خِدمتها ومراعاتها وإيَّاه قصد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " تَعِسَ عبدُ الدِّرْهَم، تعسَ عبد الدِّينار". بهذا التعريف نتجاوز التعريف التقليدي لندخل في دائرة أخرى من الصراع ، صراع مع الدنيا التي تريد أن تسترقنا، ومع الشيطان والهوى، ومع السادة الكبراء الذين يريدننا أن نمشي وفق رغباتهم ونطيع بلا تفكير أوامرهم ونلمع أحذيتهم ونقول نعم لكل ما يلوِّحون به أو يشيرون إليه. الحياة تسير والإنسان يسير فيها إما حرٌّ أو عبد. والعبيد لا يصنعون وطناً ولا يشيدون حضارة ولا يقيمون حكماً ولا يؤصِّلون فكراً، بل على كواهلهم النخرة يشيد الطغاة العتاة الأهرامات والأسوار العظيمة، ويجرون عربات السادة القادة، وبحناجرهم المتورمة بالصراخ يهتفون لمن يريد أن يضيف إلى حريته حريات الآخرين، ينتزعها منهم انتزاعاً ويسوقهم عبيداً ليلمِّعوا عتباته الشريفة. وفي دروب الحياة وفي أوراق التاريخ التي لم تكتب تجد كيف يبيع الحر حريته بثمن بخس يعوضها بعبودية وحياة رق ولو كانت تحت أثواب راقية، عبد عبد ولو قيل لك يا سيد، فالحرية مبادئ والعبودية خضوع واستسلام ولحس للأقدام. ومع الأيام رأينا عبيداً بألوان شتى وأقمشة فاخرة ولا يخجلون من عبوديتهم يقبلون الايادي ظاهراً وباطناً حتى أصبح لدينا عبيدٌ من الدرجة الأولى والثانية والثالثة، أو قل عبيد على شاكلة مماليك. من أعنف طرق الاستعباد اليوم، التحجير على الحريات وإرادات الناس وفرض وجهات نظر معينة على الطبقات المقهورة، تخدم الهياكل الكبرى، وسلب حرية الاختيار، وهذا الحق قد منحه الله تعالى لخلقه { لا إِكْرَاهَ فِي الدِّين}. أعطاه للناس كافة لا فرق بينهم، ولكن في ظل سياسة اليوم لا قيمة لرأيك ولا لوجهة نظرك ولا لصوتك في الانتخابات ولا لرفضك او معارضتك أو عزلتك، الأبواب مؤصدة سوى باب فتحوه لك لتدور فيه وتكدَّ وتتعب وتشقى، أدخلوك في حلقة مفرغة ليس لها آخر وتركوك منهكاً بلقمة العيش التي صعبوها على الناس وانتظروك في الطابور لتهتف بيحيا وعاش. " تضمن حرية التعبير الديمقراطية أن يعرف المواطنون ما يجري في البلد. وهذه مزية لا مراء فيه، وحق من الحقوق التي انتزعتها الحرية من الاستعباد. في بلادنا يصبِّحك الإعلام الرسمي بأخبار برقيات الوَلاء للقائد الملهم، وبزيارة الرئيس الفلاني، والوفد الفلاني، ويعرض عليك الإنجازات الفخمة للدولة ، الفخمة دائماً، العظيمة زوراً وبهتاناً، ولا يعنيك أنت الشعب القطيعَ، أن تعرف ما دار من حديث في الزيارات الرئاسية، ولا ما أبرم من معاهدات، ولا ما قررته الحكومة السامية من سياسات سرية. لا تعلم من ذالك شيئاً حتى تستمع إلى محطات الإعلام العالمي الحي، الكاشف للخبايا، المحلل المدقِّق، يخبرك بأسرار بلدك، وبما دار من حديث، وما قيل، وما تقرر، لا شأن لك بما قيل وقُرِّر. لا حق لك. [ عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى / كتاب الشورى والدمقراطية/ ص/107] عبر التاريخ: عانت البشرية من العبودية وتحكم الإنسان في أغلى ما يملك أخيه الإنسان، الحرية والكرامة،فكم وضع من رباط على عنق أخيه وساقه عبداً ذليلا إلى أسواق النخاسة ليبيعه في المزادات، وكم قطعت بواخر تشق طريقها من إفريقيا نحو الغرب محملة بالبشر مكبلة أيديهم وأرجلهم وأعناقهم، وكم منهم قضوا نحبهم فيه، ترمى جثة حية منزوعة الحرية في البحر للتخلص منها. على جماجم فئات من البشر بنى الإنسان المتحضر غطرسة ديمقراطيته التي وزعت الحرية على من ترضى من البشر، وبالأسلوب التي تريد، بينما تمارس الاستعباد في الضفة الأخرى. بينما الإسلام ضيق باب العبودية والاسترقاق وشدد في حرمة بيع الحر واسترقاقه وحصر دائرة الرق فيما أخذ عن طريق الجهاد المشروع، ثم شجع وحث وحظ على تحرير الأرقاء ورغب في ذالك ترغيباً ظاهراً بفتحه وتكثيره لمجالات العتق، ككفارة اليمين والظهار والقتل وجعل من القربات العظمى لنيل الأجر والثواب فك رقبة، ثم أكد على الإحسان إلى الرقيق وتعليمهم وتأديبهم وإكرامهم وإعانتهم، وكل هذا يقر الإسلام أن هذه هي خطوات للقضاء على العبودية والرق وخطوات لإدماج الرقيق في المجتمع. وكثيراً ما حرر الرسول صلى الله عليه وسلم من الأسرى العبيد تعليماً لأصحابه وللمسلمين في مناسبات عديدة، فقد حرر صلى الله عليه وسلم 63 عبداً وحررت أمنا عائشة رضي الله عنها 67 عبداً. ومجموع العبيد الذين حررهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه 39.237عبداً. وفي خلافة عمر بن عبد العزيز، قال يحيى بن سعيد بعثني عمر بن عبد العزيز على صدقات إفريقيا، فجمعتها، ثم طلبت فقراء أن أعطيها لهم فلم نجد فقيراً، ولم نجد من يأخذها منا، فقد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس، فاشتريت بها عبيداً فأعتقتهم. هذا وفي عام 1906 عقدت عصبة الامم مؤتمر العبودية الدولي حيث قرر منع تجارة العبيد وإلغاء العبودية بشتى أشكالها وتأكدت هذه القرارات بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان. جاء في نصوص الإعلان: المادة 1 يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق وقد وهبوا عقلا وضميراً وعليهم أن يعامل بعضهم بعضاً بروح الإخاء. المادة 3 لكل فرد الحق في الحياة والحرية وسلامة شخصه. المادة4 لا يجوز استرقاق أو استعباد أي شخص ويحضر استرقاق وتجارة الرقيق بكافة أوضاعها. فَكُّ رَقَبَة: الإسلام لم ينظر إلى العبودية بمعناها التقليدي فقط، بل أعطى لهذا الإنسان حقوقاً لا ينازعه فيها أحد، وطالبه أن يحرر نفسه من كثير من مظاهر الاستعباد، فك رقبة، أي لا تتركها أسيرة لأحد أو تابعة لأحد غير الله تعالى، وهذا هو الاقتحام الأصعب والأكبر الذي طالبت به الأية الكريمة، قال تعالى: { فَلاَ اقتَحَمَ العَقبَة وَمَا أدْرَاكَ مَا العَقبَة فكُّ رَقبَة}. والخطاب موجه أن يفك الفرد المسلم رقبته ويسعى لفكِّ رقبات العباد. ومما ضمن الإسلام للإنسان : أ الإنسان حر وله كرامته من الأصل وقد خلقه الله تعالى حراً كريماً وأي انتزاع لهذا الحق يسمى ظلماً يجب مقاومته واسترجاع هذا الحق، وكلمة سيدنا عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص: " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم احراراً". تظل شعاراً مدويا منبثقاً عن فهم لب الإسلام. وما أثر عن سينا علي كرم الله وجهه قال: لا تكن عبد غيرك وقد خلقك الله حراً. ب الإنسان عبد لله تعالى وليس عبداً لأحد أياًّ كان، والعبودية لله تحررك من العبودية للبشر. وقولة الصحابي الجليل لملك الروم: "جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الدنيا إلى سعة الآخرة". تدل على مدى التغيير الذي أضافه الإسلام في تربية الصحابة. ج الإنسان مطالب أن يقتحم العقبات ومن أكبرها أن يفك رقبته من الاستعباد لأي كان سوى الله تعالى، وهنا تجد دائرة الاستعباد التي تكبل الإنسان كبيرة، إنسان ترك نفسه ليحيى عبداُ للشيطان والهوى والدنيا وللمال والبنوك الربوية...إلخ. وحمل فوق حمل وثقل على ثقل تجده لا يستطيع أن يحدد مصيره بنفسه، بل رقبته مستعبدة لم لا يحصى من الأشياء، وهذا من أخطر أنواع الاستعباد للإنسان في واقعنا اليوم. " الفرد منا عبد شهوته، فهذه أصل العبوديات لغير الله، ومن هذا الأصل يُمسك الفرد، يمسكه الشيطان ذئبُ الإنسان، ويمسكه الطمع،ويمسكه الخوف، فيخضع للمال وإغرائه، والجاه وسلطانه، والحاكم واستبداده، والمجتمع وتقاليده والفكر السائد واستطالته، ينسيه الطمع في المنصب كرامته الآدمية، ويبيع دينه بالأبيض والأصفر، ويستسلم للتهديد قشَّةٌ من غثاء" [ عبد السلام ياسين / إمامة الامة/ ص/107].