الوعي السياسي والقائد... الثورة الثقافية، الثورة الصناعية، الحرب العالمية، الاستعمار، الثورة الاشتراكية وغيرها، أحداث جعلت العالم ينتج فئات تتصارع بوعي ومسؤولية؛ أنتجت قادة كبار سيتذكرهم التاريخ؛ أنتجت نخبا تطور من نفسها فكريا وعمليا لتبتكر للعالم ولشعوبها حلولا لمشاكلها بكل موضوعية ومسؤولية. لقد كانت المشاكل الأخلاقية معزولة في الزمان والمكان؛ وغالبا ما كان يرتكبها شخص لا يعي حجم ما يفعل أو ربما يكون دخيلا وعميلا ليقوض بذلك بنيان التنظيم السياسي. فكانت المحاسبة والعقاب داخل البيت السياسي قبل أن تكون خارجه. أحيانا كانت مشاكل أو سلوكات لا تتنافى مع قيم وعادات المجتمع، على الرغم من ذلك لا تلقى سوى الرفض والجشب من رفاقه وأصدقائه وإخوته. فالسياسة أخلاق ومبادئ وقيم قبل أن تكون مسؤولية واعتلاء "كرسي"، كاتب عام أو أمين عام. لذا، فكل من وعى معنى السياسة والمسؤولية السياسية انسحب أو استقال... لقد اعتبرت الانتخابات محطة نضالية ضمن مخطط عام للنضال والتأطير والنقاش الجاد والمسؤول لكل قضايا الشعوب. فكان بروز قيادي في تنظيم سياسي يكون بسبب ما يقدمه لحزبه ولشعبه... لم تكن يوما محطة يهيمن فيها منطق البيع والشراء، فيحتل المرتبة الأولى من دفع أكثر من ماله أو جسده... لقد كان للسياسة روادها ومبدعوها... لقد كان للسياسة معنى وهدف... لقد كان السياسي-القائد لا يحتاج إلى دورات تكوينية في فن الخطابة لأن التكوين الداخلي في التنظيم، والتكوين المستمر الذي يقوم به لصقل معارفه ومواهبه يغنيه عن الذهاب إلى أي مكان آخر من العالم، لقد كانت خطاباته دروس في القضايا الدولية والوطنية... اليوم، أصبح لا معنى للسياسة وللقائد... لقد تبخرت هبة القائد... إفلاس الدولة وإضعاف للديمقراطية... عندما انتهت الحرب الباردة، أصبح الاقتصاد العالمي يتوسع بارتياح ولم يعد هناك ما يرهقه ويكبح تطلعاته. فسيطر على كل المجالات وفيها السياسة؛ لم يعد يريد أن يكون فقط شريكا في صنع القرارات، بل يريد أن يكون هو وحده صانع لها. فتحكم في كل القرارات الداخلية والخارجية، الدولية والوطنية. أصبح يتحكم في الحرب والسلم؛ لقد تغول وتوحش ليُقوّد كل المؤسسات ويضعف الديمقراطيات ويتاجر في أرواح ملايين البشر... تحولت مؤسسات الدولة والهيئات الدولية إلى شركات ضخمة، غيرت من قوانين البلدان واستقطبت الفئات الجديدة لتتحكم في خيرات وثروات الشعوب. لقد ألغت كل القوانين التي تعيقها في التوسع والسيطرة والاحتكار... والخطير في الأمر أنها في طريق التحكم الشامل على سيادة الدول، الأمن الطاقي والمائي، الجيش، الاتصالات والأقمار الصناعية، الرقمنة والتكنولوجيا؛ لقد باتت تتحكم في كل شيء البحر، السماء، الأرض والفضاء... انتقل منطق الاقتصاد الرأسمالي-الليبرالي إلى السياسة، فأصبح للقائد معنى "جديد" يتماهى إلى حد بعيد بمفهوم القائد داخل المؤسسة الخاصة. وهكذا أصبح التخطيط داخل مؤسسات الدولة يصاغ بمنطق الربح والخسارة وبتقليص الأعباء والتكاليف، بيد أن منطق الربح والخسارة والتكلفة في الشأن العام هو منطق مختلف عن ما عليه في الأسواق... فأصبح من لا يشتغل أو من لا يملك دخلا في المجتمع، هو نفسه المسؤول عن ذلك لأنه وباختصار "لا يرغب في ذلك" (Volontaire). كما تحوّل مفهوم الدولة الاجتماعية أو الدولة الراعية إلى مفهوم يعني بيع وشراء الخدمات الاجتماعية ومنح القليل "الفتات" لفئات من المجتمع الذي يمكن أن يشكل عائقا لتنامي الربح، أي أن مفهوم الدولة الاجتماعية هو مرادف لمفهوم" المسؤولية الاجتماعية للشركات" (la responsabilité Sociétale des entreprises)، وهما مفهومان لا يلتقيان. من المنطقي إذن بعدما سيطر الاقتصاد على السياسة، أن تقاس السياسة العامة بمنطق ميكانيزمات السوق ما دام المسؤول الحكومي هو في تكوينه ومهاراته كفاءة اقتصادية تحاول ممارسة السياسية العمومية والعامة. ألم يحدث الرئيس الأمريكي السابق هزات حقيقية في العلاقات الدولية لأمريكا على الرغم كفاءاته في التسيير والتخطيط؟ للأسف، أصبح منطق السوق يسيطر على السياسة؛ لقد خنق "منطق" الاقتصاد العمل الحزبي والجمعوي. انتقل منطق السوق إلى كل المجالات. فأصبح التدبير الظرفي يقوم مقام التخطيط طويل الأمد. أدلة عدة تبين أن هناك تحولا في العلاقة بين السياسة والاقتصاد، وكيف تسيطر هذه الأخيرة على الأولى، وبالتالي على مؤسسات الدولة.. إنها مرحلة إفلاس الدولة وإضعاف للديمقراطية... الإنسان يصنع حاضره ومستقبله... الخوف من المجهول يُعلّم الإنسان الاختباء للبقاء على قيد الحياة واحترام القوانين؛ لكن عندما يتغلب على خوفه فإنه يبدع ويبتكر لينقذ نفسه؛ إنها غريزة البقاء على قيد الحياة، إنها في جينات الإنسان... في البدء، اختبأ في الكهوف والمغاور، وبعدها قاتل الحيوانات المفترسة ودجّنها؛ كما حارب بني جنسه مما جعله يفرض القوانين والأعراف... أليس هذا المخلوق الذكي بقادر على صنع المفاجأة وخرق القوانين؟ أليس هذا المخلوق بقادر إلى التحول لكائن مفترس؟ عندما ظهر كوفيد-19 كفيروس قاتل، ارتاب وخاف الإنسان وسجن نفسه بين أربعة جدران. فتعجب المسؤولون من الانضباط والامتثال للأوامر لهذا الكائن صعب الترويض والتدجين. ظنت الدولة بأنها ستظل تتحكم في سلوكيات الفرد وتلزمه الاستمرار في العيش بمنطق الأزمة الوبائية؛ بيد أن الطبيعة البشرية للفهم والتحدي، جعلته يعلن خروجه للحياة ويواجه الفيروس. إنها في جينات الإنسان ككائن محب للحياة وللسيطرة وللخير وللشر... فالإنسان لا يميل إلى تناول نفس الطبق، فهو بغريزته يحب الحياة والتنافس... أليس من الخطأ الاستمرار في تطبيق سياسة النعامة وتعليق مشاكلنا وأزماتنا على كوفيد-19؟ أليس من المفروض على الدولة أن تكون على نفس المسافة بين جميع مكونات المجتمع وتحمي مصالح الجميع؟ لقد كان بالأمس صاحب المال والجاه يتباهى بعدد الزيجات والأولاد والأغنام، لكن اليوم يريد أن يتباهى ويتنافس في السلطة وعلى النفوذ... لذا لا بد من ضوابط وقيود للعيش المشترك، فلا يمكن أن تتحول حضارتنا إلى أمكنة يسيطر فيها مصاصو الدماء والزومبي؟ المال والدين والسياسية... على العموم، من يريد أن يكون قائدا سياسيا، عليه أن يكون محللا ومتمكنا من العديد من المجالات (السياسية وعلم الاجتماع، القانون، الاقتصاد...) مع وجود المستشارين/ات؛ من يريد أن يكون قائدا سياسيا، عليه ألاّ يكون مثقلا بالمال والمشاريع؛ من يريد أن يكون قائدا سياسيا، عليه ألّا يكون متشبعا بثقافة السلفية والإقصاء.. إن السياسة مجال فيه المراوغة والتنافس... إن السياسة لا تلتقي مع المال والدين... التحول العميق الذي يواجه العالم لا يرحم أحدا؛ لذا لا يمكن الاعتماد على أمريكا أو أوروبا أو الصين، لا يمكن الاعتماد إلاّ على إمكانات البلد الداخلية؛ كما لا يمكن تعليق مشاكلنا وإخفاقاتنا على أي دولة بما فيها دول الجوار، ولا يمكن ربط مستقبلنا بأي دولة... علينا أن نقود أنفسنا ونطورها في علاقة رابح رابح... أظن أن الوضع الحالي ينبئ بأن المغرب ماض إلى إفلاس وإضعاف جميع ما راكمه منذ الاستقلال، وليس فقط منذ دستور 2011... علينا إذن أن نعي حجم المخاطر والمسؤوليات التي تواجهنا، فإما أن نكون أو لا نكون... اللحظة تقتضي خلق سياسية حقيقية وفتح نقاش عمومي صريح من أجل النهوض بالمغرب... السياسة تتطلب الكثير من الحب للوطن وللشعب، وهذا ما يفسر الاستشهاد والاعتقال على مر العصور، كيف ضحى ويضحي العديد من أجل الوطن... فتحية لكل الشهداء والشهيدات والمعتقلين/ت، فالحياة تستمر وتتطور بفضلكم/كن...