600 مليون سنتيم ، التي حكمت محكمة الاستئناف بالرباط على جريدة "المساء" بدفعها إلى نواب وكيل الملك بالقصر الكبير ، تعني شيئا واحدا : هذه الجريدة مزعجة جدا ، وتسبب الأرق لكثير من الرؤوس الكبيرة في هرم السلطة ، لذلك يجب بذل كل الجهود من أجل وأدها وإسكات صوتها بأي طريقة إلى الأبد . "" ورغم أن "المساء" لم يمض على خروجها إلى الساحة الإعلامية المغربية سوى سنتان وشهر واحد ، إلا أنها أصبحت تحتل الرتبة الأولى ليس فقط في عدد المبيعات ، بل في عدد الاستدعاءات التي تتوصل بها من طرف الشرطة ومن طرف المحاكم أيضا ، حتى أن مديرها تعرض قبل شهور لاعتداء جسدي بالسلاح الأبيض في عاصمة المملكة ، دون أن تتمكن الشرطة لحد الآن من العثور على الأشخاص الذين طرحوه أرضا وسرقوا منه حاسوبه وهاتفيه المحمولين ، في الوقت الذي لا تحتاج فيه الشرطة في الغالب سوى لبضع ساعات حتى تضع يدها على اللصوص الذين يخطفون هواتف مسؤولي الدولة وكاميرات السياح الأجانب . وربما يكون "المجهولون" الذين اعتدوا على رشيد نيني قد تبخروا في الهواء ، لذلك لم تتمكن شرطة العاصمة من العثور عليهم . كل هذا يدل على أن "المساء" تقف مثل شوكة حادة في حلق كثير من الماسكين بزمام السلطة في المملكة ، لذلك هناك "جهود متضافرة" من أجل إسكات صوتها المزعج . وفي الوقت الذي أصدرت محكمة الرباط حكمها "المدمر" في حق "المساء" ، رفضت محكمة فرنسية قبول الدعوى التي رفعها الرئيس نيكولا ساركوزي ضد إحدى دور النشر التي يطالبها بسحب نسخ كتاب من السوق يحمل على صدر غلافه صورة السيد الرئيس على هيئة دمية تتوسطها عبارة ساخرة . سيكولين روايال بدورها كانت تنوي أن تحذو حذو ساركوزي الذي نافسها في الانتخابات الرئاسية الفرنسية ، لأن صورتها أيضا منشورة في نفس الكتاب مع عبارة ساخرة ، لكنها الآن ستتراجع بعد أن أخبر القاضي ساركوزي بأن الدعوى التي رفعها ضد دار النشر ومؤلف الكتاب غير مبنية على أي أساس . ما يعني أن القضاء في الدول الديمقراطية يسهر على حماية حرية التعبير ، في الوقت الذي سعى فيه القضاء المغربي إلى خنقها حتى الموت . الغريب في الأمر هو أن النواب الأربعة الذين قاضوا المساء يتحدثون عن الضرر المعنوي الذي سببه لهم ما نشرته الجريدة التي تحدثت عن حضور أحدهم في حفل الشواذ المعروف ، قبل أن تنفي الخبر في عدد آخر وتعتذر للسيد النائب . وهذا في حد ذاته كاف لجبر الضرر الذي ألحق بهؤلاء كما يزعمون ، لكن يبدو أنهم يريدون إصلاح "الضرر" الذي ألحق بهم بالمال ، وكأنهم يريدون إصلاح عمارة . الكرامة لا يتم جبر ضررها بالمال ، بل تكفي كلمة اعتذار مقتضبة لإصلاحها . وعلى أي حال يجب علينا أن نعترف بأن جريدة "المساء" خطيرة بالفعل ، ومصدر خطورتها الكبير يكمن أساسا في كون أصحابها يصعب التحكم فيهم بسبب عدم ارتباطهم بأي جهة سياسية أو مالية ، لذلك يظلون في منأى عن ضغوط الجهات التي لا يروقها خط تحريرها . وتتجلى "خطورتها" أيضا ، في كونها تمتلك "قوة ضاربة" تتمثل في العدد الكبير من المغاربة الذين يقرئونها كل يوم . المساء بدأت بسحب 20 ألف نسخة في اليوم ، ولم تمض سوى شهور قليلة حتى وصل السحب إلى 160 ألف نسخة ، ويتجاوز 200 ألف نسخة في العدد المزدوج لنهاية الأسبوع . وإذا عرفنا أن المواطن المغربي عندما يشتري جريدة يشاركه في قراءتها أكثر من شخص ، وبعملية حسابية بسيطة سنكتشف أن عدد قراء المساء يتجاوز أكثر من 500 ألف قارئ يوميا . لذلك من الطبيعي جدا أن يكون لديها أعداء كثيرون ، ما دامت تهدد مصالح جهات كثيرة عبر تتبع "عمل" هذه الجهات وإيصال تفاصيله الدقيقة إلى مئات الآلاف من المواطنين . وهذا الإقبال الهائل من طرف القراء يشكل في حد ذاته مصدر أرق دائم لأعداء المساء ، لأن أصحابها الذين بدؤوا مشروعهم الفتي برأسمال صغير لا يتجاوز 100 مليون سنتيم لم يكونوا بحاجة إلى الاقتراض من الأبناك كما تفعل المؤسسات الإعلامية عادة في بداياتها الأولى ، لأن الجريدة حققت الاكتفاء الذاتي منذ صدور أولى أعدادها ، وبالتالي كانوا بعيدين عن الضغط الذي يسببه الخصاص المالي ، الذي يفرض قبول شروط المستشهرين ومن يقف خلفهم في السلطة . خصوصا وأن الرأسمال المغربي يحتكره أشخاص لهم نفوذ كبير في الدولة . ومن تم بدؤوا عملهم منذ الأول بشكل مريح جعلهم يتحكمون في خط تحرير الجريدة دون السماح بتدخل أي جهة أخرى . وعندما ندافع عن "المساء" ، فإننا ندافع عن الصحافة المستقلة بالمغرب بشكل عام ، والتي تواجه الويلات مع قضائنا غير المستقل . ولعل خطورة القضاء على هذه الصحافة تتجلى في كون "روح المعارضة" ماتت في رؤوس زعماء الأحزاب السياسية المغربية ، ولم يعد هؤلاء يستهويهم الوقوف في صف المعارضة ، وبالتالي يرى المواطن المغربي أن الصحافة المستقلة هي التي تمارس الآن دور المعارضة لعمل الحكومة ، وعندما يتم القضاء على الصحافة المستقلة فالمغرب سيسير بخطى سريعة نحو اللحاق بالدول الشمولية التي يحكمها حزب واحد . ولكي يتم وضع حد لمثل هذه الأحكام التي تهدد بإفلاس المؤسسات الإعلامية المغربية ، وما دام أن الغرامة في حق الصحف معمول بها في كل محاكم الدنيا ، يبقى الحل الوحيد هو وضع سقف محدد للغرامات التي يتوجب على القضاء ألا يتجاوزها في حال أصر على فرضها على جريدة ما ، لماذا لا يضعون مثلا سقف 10 ملايين سنتيم كحد أقصى للغرامة المالية حتى يراجع كل من يرغب في الاغتناء السريع ، وكل من يرغب في "إصلاح" كرامته بالمال ، على التفكير مليون مرة قبل أن يتوجه إلى قصر المحكمة . قد يكون ذلك ربما حلا لتجنب هذه الضربات القضائية القاضية في المستقبل . [email protected]