إن سؤال العلاقة بين حرية الصحافة وأخلاقيات المهنة يستضمر مجموعة من الأسئلة الإشكالية، المرتبطة بحدود حرية الرأي والتعبير، وبالمرجعيات القيمية والأخلاقية التي يجب أن تؤطر عمل الصحافي، أي هل هناك إمكانية للحديث عن إيتيقا صحافية، أي هل هناك إمكانية للحديث عن معيارية في مجال تم تشييده أصلا على الحرية، ولا نقصد هنا المعيارية المهنية المرتبطة بقواعد العمل الصحافي باعتباره عملا/ وظيفة/ خدمة/ مهنة، وإنما بالمعيارية الأخلاقية التي تعين حدود اشتغال الصحافي من حيث مسؤوليته تجاه المجتمع؟ وحين نقول بمعيارية أخلاقيات المهنة، فببساطة لأنها تحدد خطوط التماس بين ما هو مقبول وما هو مرفوض سواء في المنتوج الصحافي، أو في العلاقات بين زملاء المهنة، أو في العلاقة بين الصحافي والمقاولة التي يشتغل فيها، بمعنى أنها تحدد مسؤولية الصحافي تجاه المجتمع والمهنة معا. على أن هذه المرجعية المعيارية هي أقرب إلى القانون من حيث إنها تقوم على قواعد منها المكتوب، مثل "ميثاق أخلاقيات مهنة الصحافة" الذي أصدره المجلس الوطني للصحافة انطلاقا من المهام المخولة له. وتقوم كذلك على قواعد غير مكتوبة هي مجموع الأعراف والتقاليد المهنية التي تستمد معياريتها من التراكم المفضي إلى نسج علاقات بينية في الجسم الصحافي والتي تعضد أخلاقيات الاحترام والمسؤولية والتضامن. وفي السياق المغربي الحالي يصبح سؤال أخلاقيات المهنة ملحا، انطلاقا من مجموعة من الوقائع المتناسلة، والتي أساءت إلى نبل العمل الصحافي. ولا يمكن أن ننكر أن صورة الصحافي داخل المجتمع قد تضررت، وهناك فرق بين نظرة المجتمع للصحافة والصحافيين حاليا والتي تتسم بنوع من التوجس وعدم الثقة أحيانا، وبين تلك النظرة في السنوات التي لم يكن الانفجار المعلومياتي والمعرفي بهذه الحدة، بحيث كان الصحافي مصدرا للمعلومة وبالتالي جديرا بالثقة والاحترام. ففي السابق، كان عدد المقاولات الصحافية قليلا، وعدد الصحافيين كذلك، ورغم قلة المعاهد المختصة في التكوين الصحافي، فإن الصحافيين القدامى كانوا يتكلفون بمهام تأطير الصحافيين الجدد سواء من الناحية المهنية أو من ناحية أخلاقيات المهنة رغم غياب نص مرجعي مثل "ميثاق أخلاقيات مهنة الصحافة". لقد كانت السمة المهيمنة على التكوين الصحافي هي ما يمكن نعته بأخلاق العناية، أي ذلك الاحتضان الذي كان يجده الصحافي حين التحاقه بأي مقاولة أو منبر. الحاصل اليوم أن هامش حرية الرأي والتعبير قد توسع قياسا إلى الماضي لا من حيث التطورات التي حصلت في القانون، رغم كل ملاحظاتنا ونضالنا من أجل تحسين الترسانة القانونية، ومن أجل جعل قانون الصحافة والنشر هو الوحيد الذي يجب أن يخضع له الصحافيون إذا ما تمت محاكمتهم بسبب أدائهم لعملهم؛ ولكن هذا لا يعفينا من الإقرار بأن القوانين الموجودة اليوم هي متقدمة قياسا للماضي، وهذا التوسع في هوامش حرية الرأي والتعبير لا يقتصر فقط على الضوابط القانونية، بل كذلك حتى في سلوك السلطة تجاه الصحافة، فبرغم وجود حالات من سوء الفهم أحيانا أو من التجاوزات، فإن هذا لا يرقى إلى اعتباره سياسة ممنهجة للحد من الحقوق والحريات كما كان في الماضي. لكن هذا الوضع المتقدم قياسا للماضي وليس للمأمول فيما يخص توسيع هوامش حرية الصحافة والرأي والتعبير، والمتزامن مع توسع خارطة إنشاء المقاولات الصحافية وخصوصا الإلكترونية منها، والتي للأسف جلها تعاني الهشاشة بمستوياتها المختلفة، وظهور ما سمي بالصحافي المواطن، وانتشار مواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت مجالا للإخبار أكثر منه فضاء للتعبير عن الرأي. وفي غياب تكوين أساسي ومستمر لأغلب المشتغلين داخل هذه المقاولات، وفي غياب احتضان الصحافيين الجدد من طرف زملائهم القدامى كما كان يحدث سابقا، بسبب أنه حتى المقاولات الجديدة أصبحت يؤسسها أو يديرها طارئون على المهنة غير متوفرين على تجارب أو خبرات سواء قانونية أو معرفية أو مهنية. كل هذا أفضى إلى ظهور ممارسات فيها تجاوزات خطيرة أحيانا لأخلاقيات المهنة. والمثير للاستغراب والخوف معا هو أنه في الماضي لم يكن هناك أي نص مرجعي أو وثيقة مرجعية لأخلاقيات مهنة الصحافة، ومع ذلك كانت التجاوزات قليلة في مرحلة كانت الأخلاقيات عبارة عن أعراف وتقاليد صحافية؛ لكن اليوم ومع وجود وثيقة معيارية ومهمة ومتقدمة، وأقصد بها "ميثاق أخلاقيات مهنة الصحافة" إلا أن التجاوزات أصبحت سمة مهيمنة للأسف. ولعل الطريقة التي تمت بها تغطية الحادث المأساوي لوفاة الطفل ريان كانت ترمومترا لقياس مدى انغراس تجاوزات أخلاقيات المهنة داخل الجسم الصحافي، وأعتبره شخصيا ناقوس خطر يهدد نبل العمل الصحافي. ثمة فهم مغلوط لحرية الصحافة وجب تصحيحه؛ فتلك الحرية مرتبطة بتيسير الحق في الوصول إلى المعلومة، وبحفظ حق الصحافي في التعبير عن الرأي ما لم يكن الرأي حاملا لدعوات للكراهية أو العنف أو العنصرية أو التمييز على أساس اللون أو الجنس أو المعتقد أو العرق... وهي مرتبطة بحق التنقل وأساسا بحق الولوج إلى الأماكن التي تشهد أحداثا لها علاقة بعمله الإخباري، وكذلك هي مرتبطة بحماية الصحافي من أي شكل من أشكال الانتقام أو العقاب أو الضغوط أو التهديد بسبب أدائه لعمله، وكذلك حقه في حماية شهوده ومصادر خبره، ورفض أي أشكال التهديد أو الابتزاز من أجل الكشف عنها. هذه الحرية التي يحوزها الصحافي قياسا إلى المواطن العادي الذي مثلا لا يمكن أن يتعلل أمام القضاء بحماية مصادره إذا كان متابعا بتهم لها علاقة بالقذف أو إفشاء سر مهني أو نشر ادعاءات زائفة، ولا يمكن كذلك للمواطن العادي أن يطالب بالحق في ولوج مسرح الجريمة أو مكان وقوع أحداث منعت السلطات الولوج إليها بقرار إداري. هذه الحرية عند الصحافي تقابلها التزامات ومسؤوليات تجاه المجتمع وتجاه المهنة كذلك. فحماية المصادر مثلا لا يمكن أن تصبح حجة لتبرير نشر خبر زائف، صحيح أن الصحافي قد يتعرض لتضليل من مصدره بحسن نية أو بسوئها. ولذلك، نتشبث في النقابة الوطنية للصحافة المغربية بإعمال مبدأ حسن النية؛ ولكن في المقابل هذا لا يعفي الصحافي من التثبت من صدقية المعلومات التي يتوصل بها.. لكن للأسف أحيانا يتحكم هاجس السبق الصحافي دون معرفة ضوابطه في الإسراع ببث أخبار غير متيقن من صدقيتها، وأحيانا تتم صياغة الخبر بلغة يقينية دون وضع أي مسافة من التنسيب. وصحيح أننا نعيش في عالم الصورة، وبالتالي فالصورة هي واحدة من أهم آليات عمل الصحافي، بل أحيانا تشكل تعضيدا ودليلا على صدقية الخبر، فكلما كان مدعوما بالصور والفيديوهات كلما كانت صدقيته أكبر، ولكن هذا لا يبرر الخروقات المرتبطة بعدم حماية بعض الفئات مثل القاصرين أو بعض الحالات التي تعيش أوضاعا هشاشة أو يمكن أن تتعرض لمخاطر إذا انتشرت صورهم، (أمهات عازبات، أقليات جندرية تعيش تهديدات أسرية،،)، أو أشخاص في وضعية غير طبيعية أو وضعية قد تتسبب لهم في مشاكل أسرية أو مهنية أو تعرضهم للسخرية والتنمر لاحقا (وضعية سكر أو تخدير متقدمة، إلقاء القبض على متهمين أو مشتبه بهم أو جانحين)، إن كل هذه الحالات تتطلب على الأقل تغطية الوجه، أو تغيير ملامح الوجه والصوت. ونجد حالات أخرى لتجاوز أخلاقيات المهنة مرتبطة بإجراء حوارات الهدف منها الإثارة قصد جلب المشاهدات، من مثل محاورة أشخاص في وضعية إعاقة ذهنية، أو محاورة أشخاص يعيشون أوضاعا صعبة (مثل بعض المشاكل الزوجية المرتبطة بالخيانة، أو حالات ممارسة الدعارة) دون تغطية وجوههم مما قد يشكل أزمات نفسية لهم أو لأبنائهم لاحقا. ولا يفرق الصحافيون أحيانا بين المجال العام والخاص، وهما مجالان لا يتحددان بالحيز الجغرافي فقط، بل كذلك بالحيز الحميمي كذلك، بحيث نجد صورا وفيديوهات لأشخاص في وضعيات حميمية بالشواطئ أو الحدائق، أو أشخاصا في أماكن خاصة مثل الملاهي أو المطاعم يتم تصويرهم دون إذن منهم أو خفية. وأحيانا لا يقوم الصحافي بتنبيه من يحاوره إلى خطورة ما يدلي به من الناحية القانونية مستغلا الوضع الهش نفسيا أو معرفيا للمحاور، ويفضل جانب الإثارة على تجنيب شخص في وضعية هشاشة نفسية أو قانونية أو معرفية من مخاطر محتملة إذا تم نشر ذلك الحوار. ويمكن أن نعدد أشكالا كثيرة من مثل نشر وثائق تعتبر معطيات شخصية لا يجوز نشرها إلا بإذن صاحبها، من مثل التقارير الطبية، أو الكشوفات البنكية. على أني أريد لفت الانتباه إلى مسألة يتخللها سوء فهم خطير، وهي المرتبطة بالشخصيات العمومية، والتساهل في اقتحام حياتها الخاصة؛ ذلك أن بعض الصحافيين يفهمون خطأ تلك المقولات التي تروج عن صعوبة التمييز بين المجالين الخاص والعام عند الشخصية العمومية، بل ما معنى الشخصية العمومية؟ فالشخصية العمومية ليست هي الشخصية المشهورة في اعتقادي، بل هي الشخصية التي لها تماس مع مسؤولية تدبير الشأن العام، وحتى هذه الأخيرة غير مستساغ اقتحام حياتها الخاصة إلا عندما يكون الأمر مرتبطا بما هو حقوق للمجتمع؛ فمثلا حين يستغل مسؤول عمومي سفرا في إطار مهمة، وهو سفر ممول من المال العام لقضاء أغراض شخصية، فهنا أصبح المجال الخاص جزءا من المجال العام، أو حين ينفق في حدث عائلي ما لا يتناسب مع مداخيله القانونية، أو حين يقوم بسفريات خاصة في وقت إغلاق المجال الجوي، أو حين يتدخل لصالح أفراد أسرته أو معارفه، أو حين يقيم حفلات باذخة في وقت الأزمات أو حين حدوث مأساة وطنية، أو ما يشبه هذا، على أنه هذا التماس بين حياته الخاصة والعامة في الحدود التي أشرنا إليها، لا يمتد إلى أفراد أسرته، الذين يجب عدم اقتحام حياتهم الخاصة. وفي الخلاصة، أعتقد أنه يلزمنا عمل آني على واجهتين: الأولى: التكوين الأساسي في المعاهد والتكوين المستمر سواء في المقاولات المهنية أو عن طريق أوراش تنظمها النقابة الوطنية للصحافة المغربية أو المجلس الوطني للصحافة وكافة الشركاء من أجل التحسيس والتنوير، وخصوصا أنه في حالات كثيرة تكون هذه التجاوزات مرتبطة بعدم معرفة هذه الأخلاقيات وأجرأتها أكثر منها سوء نية. الثانية: أن يقوم المجلس الوطني للصحافة بأدواره في التنظيم الذاتي للمهنة، والتدخل بصرامة وبدون انتقائية لإيقاع العقوبات المناسبة، عبر مقررات معللة ومنشورة للعموم. (*) نائبة رئيس النقابة الوطنية للصحافة المغربية المكلفة بالحريات