سيدتي، بكل ما في الكلمة من معنى الرفعة والسمو، سيدتي بكل ما رصعته حياتك من مواعيد التحدي والرقي الإنساني، سيدتي بكل ما اختلج في صدرك من ثورة على الظلم والقهر، سيدتي بكل ما كان فيك من الرقة والحنو والحنان، سيدتي بكل ما كنت تضمينه بين الحنايا من عطش لتستقيم فينا المروءة، سيدتي نموذج فذ للسيادة. على الذات والقرار والمصير والاختيار، بكل هذه المعاني أدعوك سيدتي، لذلك، لكل ذلك، ونحن نقتفي أثرك للمرة الأخيرة كي نُودعك الخلود في مقبرة الشهداء، رفعت رأسي إلى السماء وناجيت نفسي: هل تكفينا صفحة السماء الممتدة كي نكتب عنك أيتها السيدة الجميلة الرائعة؟ من يستطيع وجهها أن يملأ فضاءنا ويمدد آفاقنا ويعدد أبعادنا فله السيادة المستحقة، سيدتي ليعذرني شباب اليوم، فأنا عرفتك منذ سنين كأنها البارحة بالنسبة لي ولك وكأنها الزمن السحيق بالنسبة لمن لم يعشها ولم يسمع عنها... عرفتك ذات مؤتمر طلابي سنة 1968. كنت أحضر لأول مرة إلى جانب امرأة استثنائية أخرى تعرفينها حق المعرفة هي آسية الوديع، أختي وفقيدتي وفقيدتنا جميعا. لم أكن أعرفك قبل ذلك اليوم. كنت واقفة كغيرك من الطلبة في طابور انتظار وجبة الغذاء. ملكتني وقفتك، نظرتك وخطوتك. وقفتك كعنوان أنفة. نظرتك كبريق حلم. خطوتك كرمز تصميم وإصرار. كنت أهابك وحتى بعد كل هذه السنين، لا زلت أهابك يا سيدتي. لا لست أعدد مناقبك ومزاياك وتراث كفاحك. سأترك ذلك لأخريات وآخرين فجعوا فيك كما فجعت أنا. في وجهك كانت صرامة وحنو، بسمة وجدية، استقبال ومسافة. كأنك تخاطبين من يقترب منك للمرة الأولى: إياك أن تعتبر ابتسامتي ضعفا ولا تركيزي شرودا ولا اقترابي إذعانا. أنا امرأة مغربية حرة وسيدة مصيرها وأنا في نفس الوقت إنسانة بنت البشرية. أحمل في لحظتي كل القيم التي تعليها، فخذ يدي كي نصنع سلسلة ينتشر من كهربائها الزكي تيار الأخوة والإبداع والجمال. أنا امرأة أتجاوز شرطي الفاني المحدود لأقف إزاءك ونرفع معا قبة السماء إلى أعلى. أيها الرجل المنهك بسطوته، المهووس بسلطته، أيها الرجل يا أخي في البشرية... سيدتي حياتك شعلة ووجهك قبس وقلبك يحمل النيزك المارق ليجعل منك صورة أخرى لارتقاء الإنسان فينا. كم أحببنا وكم نحبك. ولأعترف أنني مثل أبناء جلدتي ضعفاء، ندرك الأشياء، لكن الغباوة تحتال علينا فنتوهم أن الأحباب من طينتك لا يرحلون. ونكاد نتبرم منهم بل ونكاد نعاتبهم سرا حين يرحلون كأن قدرهم أن يبقوا إلى جانبنا صمام أمان من أثافي الزمان. رحيلهم ورحيلك يدفعنا للخطوط الأمامية في الحياة بلا مواربة. كي نتحمل مسؤوليتنا كما تقول العبارة السائرة، كي نكون، ما استطعنا إلى كينونتنا سبيلا. كم أذكر صحن الزيتون الأسود على مائدتك بعد اجتماعات المنظمة المغربية لحقوق الإنسان منذ 1988، المدرسة النموذجية التي بنيتها بعرقك وكدك إلى جانب آخرين. هل تذكرين اجتماع لجنة الحكماء الرباعية التي جمعتنا مرارا حين كانت تشتد الخلافات بين المناضلين؟ كنت أتحين الفرصة لأطلب نصيبي من زيتون المودة قبل توجهي إلى البيضاء بعد الاجتماع. زيتون أسود لا يشبهه زيتون. حتى أنني في مرة التهمت الصحن تقريبا قبل إحضار الخبز. بوركت الشجرة التي أنجبتك. ثم جمعنا مجلس النساء سنة 1991 وكان بيننا إدريس بنزكري هو الآخر. التقينا لنتجرأ نساء ورجالا على مدونة العبودية البائدة. لأننا لا نثق في ديمقراطية تقصي النساء وتضعهن في مقام الإماء. وكيف أتخلف عن الركب وأنسى أن أجمل الدروس التي تلقيتها أنا في الحياة كانت على يد نساء رائعات. وحتى لو كررت نفسي هذا المساء فلا بأس حتى أشكرك مرة أخرى وأبوح مرة أخرى. لن أسرد أسماءهن لكنني أشهد أنك توجدين في الكوكبة الأولى منهن. أيتها الراحلة المقيمة. لم تكوني تفردين حيزا لمرارة. حتى عتابك كان هنيئا على القلب. وكم اتفقنا وكم اختلفنا في قراءة صفحات الحياة، لكن الشيء الذي لم يتزحزح أبدا هو الثقة. ثقتي فيك وثقتك في. تلك الثقة التي سأحتفظ بذكراها في سويداء القلب حتى آخر شهقة في صدري. وهبتك الحياة لؤلؤتين سارتا على خطاك بطريقتهما: كنزة وبهية اللتان عرفتُهما وهما في ميعة الصبا وها هما اليوم زهرتان في حدائق عطائك. ولا أنسى ليلى، تلك المرأة الشهمة التي عثرت على طريقها إلى المودة المشتركة من مصادفة جميلة أخرى... فإليهن جميعا أجدد المودة والمحبة والإعزاز... حولك تشكلت حلقات من نساء الإباء والكفاح لا يحصى لهن عدد ممن يحملن الشعلة اليوم. ورغم ما لا زال علينا قطعه من أشواط في هذا الكفاح فإن كل ما تحقق من مكاسب يعود في المقام الأول إليك وإليهن، لا إلى من يتربعون اليوم على ثمرات كفاح أجيال متلفعين برداء التقوى المزيفة... سيدتي، حتى وأنت تصارعين المرض بقيت وقفتك تلخص حياتك. نموذج أنفة. مثل راية خفاقة ليتعرف الآخرون على الموقع والطريق. هكذا ستبقى صورتك في القلب، تتوارثها الأجيال... سيدتي، نامي في سكينة الروح والقلب. صلاح الوديع - 25 نونبر 2013