المدخل عبارة عن بوابة واسعة أشبه بال "كَرَاج"، بمجرد تجاوز عتبتها حتى تجد نفسك في مكان شبه مهجور، نباتات منتشرة بشكل عشوائي، جدران متسخة، ممر طويل ضيق وملتو، هو منفذ مظلم ينتهي بغرف متراصة جنبا إلى جنب، مبنية فوق مساحة واسعة، وهناك سلم حديدي ينتهي بطابق علوي لا يختلف عن نظيره السفلي شكلا ومساحة، كما أن مرحاضا مشتركا يتوفر في كل طابق، بعض صنابيره عاطلة والأخرى صدئة، تصطف حوله بعض الفتيات ممن يتحضّرن للخروج نحو قضاء مصالحهن صباحا. لا يتعلق الأمر هنا إلا بمبنى متواجد بشارع مدغشقر، وسط العاصمة الرباط، هو أشبه ما يكون "بإسطبل" بينما تسكنه فتيات عازبات، منهن العاملات كما بينهنّ طالبات أغلقت في وجوههنّ أبواب الأحياء الجامعيّة. جحر للكراء ليلى فتاة لم تبلغ بعد الثامنة عشر من عمرها وتصف معاناتها مع السكن، "بعدما رفض طلبي في الاستفادة من سكن جامعي اضطررت للبحث عن بديل، واتصلت بعدت سماسرة، قادني أحدهم إلى هذا المكان الذي أعيش فيه حاليا رغما عني، فهو الأرخص ثمنا مقارنة مع الباقي". ليلى، التي تدرس في السنة الأولى من مسار التخصص بالفلسفة، تعيش في غرفة لا تتجاوز مساحتها 8 أمتار مربّعة من مترين على أربعة، بالكاد تضع بها سريرا صغيرا تنام فيه، ويتبقى لها فضاء صغير للغاية تضع به كتبها وملابسها. الغرف تتشابه شكلا ومساحة، النوافذ منعدمة، وضوء الشمس لا يُرى إلا إذا كانت الراغبة فيه خارج هذا "الكُورِي"، كما تصفه ليلى، وهي التي تضيف ضمن تصريحها لهسبريس: "أحس بأني مختنقة كلما دخلت هناك، أملي الوحيد هو أن يقبل طلبي في الاستفادة من الحي الجامعي السنة المقبلة، لأن مكاني ليس هنا، فالجو بكامله يؤثر على دراستي". ليلى تجاور فتاة في الثلاثينيات تشتغل نادلة بمقهى، كما هي "قاطنة" جوار سيدة مطلقة تستغل "غرفة" مجاورة، وكذا أخرى لا تراها إلا وهي تغادر في منتصف الليل.. "مكاني وسط الطالبات في الحي الجامعي وليس هنا " تورد ليلى. الذكور ممنوعون "يمنع استعمال الأجهزة الكهربائية".. " ثمن المبيت 50 درهما في الليلة بالنسبة للزائرات".. "يمنع دخول المكان كزائرة لمن سبق وكانت مكترية".. "يمنع الدخول بعد ال12 ليلا".. "مطلوب نسخة من بطاقة التعريف الوطنية".. هذه هي بعض التعليمات المطبوعة والمعلقة قبالة المدخل الرئيسي للمبنى، إضافة إلى أهم إعلان ناطق ب:"ممنوع على الرجال". وتقول السيدة المسؤولة عن الكراء: "نمنع دخول الأجانب من الذكور حفاظا على سلامة الفتيات، فالمكان مقتصر على إيواء الإناث فقط".. السيدة التي تحمل بكلتا يديها حزمة مفاتيح تصدر بها أصواتا خلال سيرها تقول: "استغلال الغرفة الواحدة يتم بمقابل 800 درهم شهريا، ومن تريد قضاء الليلة فالثمن 50 درهما"، ذات المتحدثة تحاول جاهدة إقناع فتاة يبدو على ملامحها عدم الرضى على حال المكان الذي تنبعث منه روائح نتنة، إلاّ انها غادرت على عجل وهي تخاطب السمسار الذي ينتظرها في الخارج: "آشْ هَادْ البُورْدِيلْ جْبْتِينِي لِيهْ؟". حنان التي تشتغل نادلة في أحد المقاهي قالت لهسبريس: "تعبت من كثرة التنقل من مكان لاخر، كنت أكتري مسكني بجوار محطة القامرة، لكني لم أستطع تحمل كثرة التحرشات وتفشي أعمال السرقة والإجرام".. حنان التي تدفعها طبيعة عملها للعودة متأخرة وأحيانا الخروج باكرا تزيد: "ما يجعلني أصبر على حقارة هذا الجحر هو أمان الحيّ، أفضل سلامتي البدنية ولو وسط هذه القذارة.. في انتظار الفرج". كازابلاَنْكَا.. قصص أخرى بإحدى الإقامات بشارع محمد الخامس، من مدينة الدّار البيضاء، شقة واسعة تحتوي على أكثر من 10 غرف تكترى هي الأخرى للفتيات فقط.. لكنها أفضل نسبيا من مثيلاتها المتواجدة بالرباط.. غرف واسعة على الطراز الفرنسي، لها نوافذ واسعة وبعضها الأخر يحتوي على شرفات تمنح إطلالة على الشارع.. للراغبات في الكراء حق الاختيار بين غرف من 800 درهم، تتقاسمها ثلاث فتيات، وبين غرف ال1000 درهم التي تتقاسمها فتاتان، وللراغبات في قضاء ليلة واحدة دفع 50 درهما إذا كانت إحد الأسِرَّة شاغرة. "أقطن في هذه الشقة منذ أكثر من سنتين، الثمن يناسبني كما أني على الأقل أجد سريرا أركن إليه بعد يوم طويل من الدراسة، رغم أن الجو العام غريب أحيانا لكني لا أجد بديلا بسبب الأثمنة المرتفعة للكراء التي لا تواكب ميزانيتي كطالبة".. تورد منى التي تدرس بمعهد خاص للفن والإعلام بالدار البيضاء يتواجد غير بعيد من المكان الذي تقطنه. تقول منى إنّ "المزعج في الأمر يتمثل في كون المكان أشبه بفندق.. هناك بعض الفتيات اللواتي يغادرن بعد شهر أو شهرين، وأخريات يتمكّن من الاستقرار أكثر من تلك المدّة، لكن ينتهي بهن المطاف بالمغادرة.. أنا الوحيدة التي تعمر هنا منذ أكثر من سنتين". مستلزمات الكراء تتمثل في الإدلاء بنسخة لبطاقة التعريف الوطنية، غير قابلة للاسترداد، فيا يمنع على الرجال زيارة قريباتهنّ القاطنات، وخلافا ل"كوري الرباط" يسمح هنا باستعمال الأجهزة الكهربائية، بل وتتواجد ثلاجة وقنينة غاز مشتركتين بين كل غرفتين متجاورتين، إضافة إلى مرحاض واسع ومطبخ أوسع.. ويمكن للمكترية الدخول والخروج في أي ساعة تشاؤها، ويسمح للزائرات بقضاء ليلة مجانية واحدة. منى التي تبلغ 24 من عمرها تحكي كيف تعرضت للسرقة في أيامها الأولى: "لم أفهم النظام الجاري إلا بعد مدة من مجيئي، حينها أدركت أن المكان غير آمن بالنظر لكثرة الداخلات والخارجات، وكذا لعدم استقرار المكتريات، فلكل قصتها وظروفها". ما أزعج منى، وهي تحكي لهسبريس ما تم في فترات من مدة استقرارها بالشقة، هي أنها الطالبة الوحيدة بالمكان.. "لا أعرف حرفهن ولا مهنهن" تقول منى عن شريكاتها في المبنى قبل أن تزيد: "الشيء الوحيد الذي تأكدت منه هو أنني الوحيدة التي تدخل ليلا عندما تتحضر أغلب المكتريات للخروج.. ما يجعلني أحس بكوني عنصرا دخيلا في الشقة".