رصد الدكتور محمد حنين، أستاذ القانون العام بجامعة محمد الخامس، أربعة مظاهر رئيسة لخضوع مناقشة قانون مالية 2014 لمنهجية ما قبل دستور 2011. ومن منظور الأستاذ الأكاديمي والبرلماني الممارس، أبرز حنين، في مقال خص به هسبرس، أن مناقشة هذا القانون تميزت بالرتابة وعدم الجاذبية، فضلا عن ضعف التفاعل الإيجابي للحكومة مع المبادرات البرلمانية، ما يؤدي إلى إحراج الأغلبية البرلمانية، وتحولها إلى كتلة للتصويت أمام محدودية قدراتها على فرض اختياراتها، وتصوراتها على مضمون القانون المالي، وهو ما يرجح التقني على السياسي. وهذا نص مقال محمد حنين كما ورد على هسبريس: إذا كان مشروع قانون المالية لسنة 2014 هو ثالث قانون مالي في ظل دستور 2011 و ثالث قانون مالي تنتجه حكومة الأستاذ بنكيران، فإن منهجية مناقشته في البرلمان تؤكد استمرارية منهجية ما قبل 2011 ، نفس المساطر، نفس الرتابة ونفس السلوك الحكومي تجاه المبادرات البرلمانية. ويرجع ذلك في جانب كبير منه إلى غياب قانون تنظيمي للمالية يتلاءم مع روح و فلسفة الدستور الجديد. فقد صادق مجلس النواب بالأغلبية بعد جلسة مارطونية وفي وقت جد متأخر من ليلة الأحد 17 نونبر على الجزء الأول من هذا القانون ، على أن تتم المصادقة على الجزء الثاني يومي الثلاثاء والأربعاء 19 و 20 نونبر. وكل من تابع مناقشة هذا القانون يومي السبت والأحد على القناة الأولى لاحظ غياب الابتكار والتجديد على مستوى الجلسة العامة مما أدى إلى افتقار هذه المناقشة إلى الجاذبية والإثارة، ليس فقط بالنسبة للمشاهدين، ولكن بالنسبة للأعضاء الحاضرين أنفسهم. صحيح أن مناقشة قانون المالية تعتبر كل سنة نقطة ساخنة في علاقة البرلمان بالحكومة، وأن هذه المناقشة مناسبة لدفاع الحكومة عن سياستها الاقتصادية والاجتماعية، لكن محدودية صلاحيات البرلمان في المجال المالي تحول هذه المناقشة إلى لحظة نمطية وروتينية بدون تأثيرات واضحة على مضمون المشروع الحكومي. ومن المؤكد أن مناقشة قانون المالية لسنة 2014 لم تخرج عن هذه القاعدة التي لازمت قوانين المالية في مختلف الحكومات المتعاقبة. ويتجلى ذلك من خلال أربعة مظاهر : المظهر الأول يتجلى في تعامل الحكومة في لجنة المالية مع التعديلات النيابية بسلبية واضحة. فقد تقدمت فرق الأغلبية مجتمعة ب 22 تعديل و فرق المعارضة ب186 تعديل أي ما مجموعه 208 تعديل. لكن الحكومة لم تقبل سوى 20 تعديل منها 11 تعديل لفرق المعارضة . هذا التعامل لم يختلف عن التعامل الحكومي خلال السنوات السابقة ، ففي 2012 لم توافق الحكومة سوى على 23 تعديل من بين 136 تعديل ، و في القانون المالي لسنة 2013 لم تقبل الحكومة سوى 57 من بين 242 تعديل . المظهر الثاني يتعلق بغياب التحكم في تدبير الزمن التشريعي، ويتجلى ذلك من خلال : - تخصيص يوم السبت بكامله لتدخلات الفرق والمجموعات النيابية، وبحكم الافراط في تحديد المدد الزمنية للتدخلات لوحظ طول المداخلات فضلا عن الاطناب و التطرق لمواضيع و قضايا في الغالب خارجة عن الموضوع و تطغى عليها المزايدات السياسية ، كل ذلك أرهق المشاهدين و النواب و النائبات ، و الدليل على ذلك الحضور المكثف لهؤلاء في الجلسة الصباحية ومغادرة أغلبهم للقاعة في الجلسة المسائية ، و قد لا حظ المشاهدون أن التدخلات الأخيرة ألقيت في قاعة شبه فارغة. تخصيص جلسة مارطونية طوال يوم الأحد من الساعة 10 صباحا الى منتصف الليل لتقديم التعديلات و المصادقة على الجزء الأول من قانون المالية. تميزت هذه الجلسة برتابتها المملة ليس فقط بسبب حيزها الزمني المرهق ( أكثر من 14 ساعة متواصلة) و لكن كذلك بسبب انعدام مردوديتها ، ففي الوقت الذي أحالت فيه فرق المعارضة على الجلسة العامة مختلف تعديلاتها التي تم رفضها في اللجنة المختصة ( 150 تعديل)، فان الحكومة تمسكت بمواقفها و لم تقبل أي تعديل. و من المؤكد أن هذه النتيجة تسائل الجميع عن الجدوى من جلسة تقدم فيها تعديلات للمعارضة يعرف مصيرها مسبقا ، و قد وصف أحد النواب و هو في حالة ارهاق هذه الجلسة "بالعبث البرلماني". انتقال لحظة تقديم التعديلات الى لحظة لتمرير رسائل سياسية متعددة مما يبتعد عن المسطرة التشريعية الصرفة ، و بالفعل عرفت مناقشة التعديلات في لحظات كثيرة مواجهة حادة بين فرق الأغلبية و المعارضة تخللتها تارة مزايدات و تارة أخرى تبادل للاتهامات مما ألقى بضلاله على أجواء الجلسة العامة ، و قد كان للإرهاق تأثير واضح على التشنج و الملاسنات من وقت لآخر. المظهر الثالث يتعلق بإحراج الحكومة لفرق الأغلبية بسبب رفضها لتعديلاتها أو رفض تعديلات تتقاسمها مع المعارضة أو تعديلات لهذه الأخيرة ذات أهداف اجتماعية. هذا الاحراج يكرس الصورة النمطية عن البرلمان كونه غرفة للتسجيل ليس إلا، ما دامت الأغلبية البرلمانية تتحول الى كتلة للتصويت و تبقى قدرتها على فرض اختياراتها على مضمون القانون المالي محدودة جدا مما يرجح التقني على السياسي، و هي الصورة التي حاول دستور 2011 تغييرها من خلال الارتقاء بصلاحيات البرلمان و تقويتها. لكن الممارسة لازالت حبيسة المنهجية التقليدية لإعداد ومناقشة قانون المالية. المظهر الرابع يتجلى في ارتفاع نسبة غياب النائبات و النواب ، فهذا الغياب كان تدريجيا مما أدى الى اختلاف أعداد المصوتين من مادة الى أخرى و بالتالي على الجزء الأول من قانون المالية برمته. و بالفعل ، فانه عند انطلاق عملية التصويت حوالي الساعة 11 و 30 دقيقة تم التصويت على المادة الأولى من الجزء الأول و ما يليها بأغلبية 163 مقابل 90 في حين تم التصويت على آخر مادة من هذا الجزء بأغلبية 110 مقابل 37 أي ما مجموعه 147 من بين 395 و يعني ذلك غياب 248 عضو ، فعدد المتغيبين يفوق بكثير عدد المصوتين. ومن الملاحظ أن ظاهرة الغياب تتكرر كل سنة بكيفية يصعب تبريرها ماعدا بالنسبة لبعض الأعضاء المنتدبين للقيام بمهام خارج الوطن ، و لتفادي هذه الظاهرة عمدت بعض الفرق الى تعبئة أعضائها للحضور و حجز غرف لهم بفنادق الرباط . لكنه أمام ارتفاع عدد المتغيبين يبدو أن هذه التدابير لم تحقق ما كان مرجوا منها. و لئن كان الغياب يكرس الصورة السيئة للبرلمان لدى الرأي العام ، فان هذه الظاهرة ترجع الى عدة عوامل متداخلة ، من بينها على سبيل المثال استمرار العمل بمساطر تقليدية و مرهقة و غير محفزة ، و كذا غياب الظروف الملائمة للاشتغال، فمن المؤكد أنه يصعب على أي شخص الاستمرار في الجلوس لمتابعة مناقشة مدتها 14 ساعة ، و هي مناقشة لا يشارك فيها بسبب الترتيبات المسبقة إلا عدد قليل من النواب . و بالفعل ، فان كل من لم ينصرف و انتظر الى نهاية الجلسة حوالي منتصف ليلة الأحد قد شعر بإرهاق كبير بل لوحظ استياء عام بسبب طول الجلسة بدون جدوى تذكر. وهكذا ، يلاحظ أن هذه المظاهر لا تختلف عما كانت تعرفه مناقشة القانون المالي قبل دستور 2011 ، و هو ما يتعارض مع ما ينتظره الجميع من هذا الدستور . لذلك ، يبدو واضحا أنه يتعين بدل مزيد من الجهود ليس فقط من أجل تطوير المساطر و تجديد آليات الاشتغال و هو ما ينبغي الحسم فيه على مستوى القانون التنظيمي للمالية الجديد ، و لكن كذلك من أجل استيعاب مضامين الدستور الجديد بما يكفل تقوية صلاحيات البرلمان ، و لن يتحقق ذلك إلا بالتفاعل الايجابي للحكومة مع المبادرات البرلمانية ، و بتعبئة جميع الفعاليات البرلمانية من أجل الارتقاء بصورة المؤسسة التشريعية بما يكفل صيانة استقلاليتها و ممارسة كل صلاحياتها و الرفع من وثيرة أدائها ، و من المؤكد أن كل ذلك يشكل رهانات يصعب كسبها دون التخلي عن المزايدات السياسية بين الأغلبية و المعارضة ، و دون الحرص على التوازن اللازم بين الحكومة و البرلمان و بدون تقوية مؤسسة المعارضة . إنها فعلا تحديات مطروحة بقوة أمام المؤسسة البرلمانية و تتطلب الانخراط الايجابي لجميع الفاعلين لإعطاء اللحظة الدستورية قيمتها و للممارسة البرلمانية جدواها و للعمل السياسي بعده الحقيقي.