طيلة أيام الربيع الديمقراطي الذي عرفته عدد من الدول العربية قبل انتخابات 25 نونبر 2011، والأمين العام لحزب العدالة والتنمية ومعه عدد من أعضاء الحزب، لم يتركوا مهرجانا خطابيا ولا لقاء تلفزيونيا أو إذاعيا إلا وتحدثوا عن إسقاط الفساد ومحاربة المفسدين. كُنتَ ترى السيد بنكيران يتكلم بنبرة كلها اندفاع وحماسة توحي للمستمع أن الرجل واضح في رؤاه وواثق في خطاه، وأن ما ينقصه سوى رئاسة الحكومة التي ستفتح له أبواب الإصلاح على مصراعيه وبالتالي القضاء على الفساد الذي ينخر إقتصاد البلاد، ويهتك أعراض العباد. لم يكن يتصور السيد الأمين العام أنه سيجد نفسه –يوما- عاجزا عن تحقيق أفكاره "الجريئة"، بل كنت تراه يَرُدُّ بقوة على كل من أراد تنبيهه بأن الأمر يحتاج إلى تدرُّج في المسير، وأن ضعف الخبرة الحكومية وعدم واقعية البرامج الإصلاحية، هي عوامل ستجعل منه زِنْبيلا ومِنْديلا وأداة يلعب بها الذين علموا القوانين الصحيحة للتغيير. أول تجربة لهذه الحكومة في محاربة الفساد، كانت للسيد وزير الإتصال مع شركة صورياد القناة الثانية.. وذلك من أجل إلزامها باحترام المقتضيات الواردة بدفاتر التحملات الخاصة بها وكذا احترام المبادئ المؤطرة للهيئة العليا للسمعي البصري... لكن بعد حرب ضروس بين السيد الوزير ونائبة المدير العام للقناة الثانية... خلص القول إلى أن دفاتر التحملات ليست قرآنا مُنَزّلا، -حسب السيد بنكيران-... بهذه الكلمة التي تبين مدى استعداد السيد رئيس الحكومة إلى تقديم مزيد من التنازلات، يطوى موضوع أثار الكثير من الجدل ويبقى الفساد شامخا من داخل القناة الثانية. غير بعيد عن هذا الحدث.. يأتي دور السيد الحبيب الشوباني الوزير المكلف بالعلاقات مع البرلمان والمجتمع المدني، ليجرب حظه مع سمك القرش.. فقد كان جريئا عندما شن هجوما لاذعا - بصفته وزيرا للمجتمع المدني- على جمعية مغرب الثقافات التي تنظم مهرجان موازين... حيث اعتبر "أنه ليس من الحكامة في تدبير المال العام أن تحصل هذه الجمعية على أموال عمومية بملايين الدراهم لتنظيم تظاهرة باذخة في مجتمع يطالب فيه المعطلون بالتشغيل، ويتطلع فيه سكان المناطق النائية لحطب التدفئة ورغيف الخبز وقرص الدواء". لكن سرعان ما يخرج السيد بنكيران بتصريح آخر "خص به جريدة المساء العدد "1695" مفاده أنه "لو كان الشعب لا يريد موازين لما توجه إليه أحد، فهذا المهرجان له جمهور يتابعه ويحضر أنشطته بالآلاف.." بهذا التصريح أيضا تطوى جميع الصفحات.. وتصمت جميع الهيئات المناهضة "لمهرجان الفسوق والفجور.." وتضع الحرب أوزارها.. ويبقى الفساد صامدا بمنصات الرباط، لتزداد جرأته عاما بعد عام، (وفي أيام الإمتحانات الإشهادية).. بدعوى الحرية الفردية، والتعددية الفكرية... فيما نجد في المقابل محاربة حرية التعبير والتعددية المرجعية داخل المساجد، بل ويصل الأمر إلى حد توقيف كل صحفي وكل خطيب جُمُعة سولت له نفسه الحديث عن هذا المهرجان أو انتقاده.. لكن يبدو أن السيد بنكيران -وبعد خوضه لهذه التجارب وتجارب أخرى - اصطدم بواقع مخالف تماما للشعارات التي كان يرفعها خلال الحملة الإنتخابية... فأصبح يشتكي كما اشتكت الحكومات السابقة من العجز المالي ومن ثقل كلتة الأجور والنفقات العمومية.. فصنع لذلك ضراما شعبية أبطالها المشوشون والمعرقلون، والتماسيح والعفاريت والضفادع.. عندما أدرك السيد بنكيران أنه في إطار محاربته لما أسماهم "التماسيح والعفاريت" لن يستطيع حتى كشف أسمائهم... قرر أن يعيد النظر في مفهوم الفساد والمفسدين.. فما كان له إلا أن يُلْصِق هذا المصطلح بكل مواطن ضعيف لا يقدر أن يغير واقعه بيده ولا يملك إلا أن يحتج في الشارع العام على تردي واقعه والذي يتدهور يوما بعد يوم.. المتتبع لعدد من التجمعات الخطابية للسيد بنكيران.. يجد بأن الرجل لم يترك فرصة إلا وهاجم فيها نخبة هذا البلد من مهندسي الدولة وحملة الماستر والدكتوراه.. ووصفهم بأبشع النعوت، لا لشيء إلا لأنهم يطالبون بتسوية أوضاعهم وتوفير ظروف العيش الكريم... ليس السيد بنكيران فقط، بل الأدهى والأمر أنه ما سئل وزير في هذه الحكومة عن حصيلته وما عمل فيها في إطار تنفيذ البرنامج الحكومي "الطموح".. إلا ويجيب: "الحكومة استطاعت أن تقطع مع التوظيف المباشر". نستغرب كل الاستغراب عندما يصرح السيد الشوباني أن الأطر التي تناضل في الرباط إنما تقطن بالمدن القريبة منها.. لكن يبدو أن السيد الوزير -وهو المرشح البرلماني عن دائرة الرشيدية بنفس الإقليم-، نسي أيامه في المعارضة، عندما كان يتواصل مع أبناء إقليمه من الأطر العليا وينقل معاناتهم إلى البرلمان من أجل دمجهم في أسلاك الوظيفة العمومية. وأيام كان فريق العدالة والتنمية أكثر الفرق البرلمانية التي توجه الأسئلة الكتابية والشفوية وتطالب الحكومات السابقة بالوفاء بالوعود مع الأطر العليا المعطلة. ترى هل كان هؤلاء الأطر الذين دافع عنهم السيد الشوباني –آنئذ- من سكان مدينة الرباط وما جاورها..؟ أو من الذين لزموا بيوتهم ينتظرون أن تمطر عليهم سماء الحكومة ذهبا أو فضة..؟؟ أم من الذين هاجروا وناضلوا واعتصموا.. ونالوا حقهم من هراوات الداخلية..؟؟ من المقزز أن تجد السيد وزير العدل والحريات يعلن الحرب على المعطلين وخصوصا أطر محضر 20 يوليوز، وذلك بوصف توظيفهم ب "عين الفساد" تارة "وبالجريمة الكبرى" تارة أخرى. فقد ذكرني موقف السيد الوزير بقصة ذلك الأعرابي "الذي أُتى بابن أخيه، وقد أحبل بجارية من جيرانه، فقال: يا عدو الله، لَمَّا ابتُليتَ بالفاحشة هلا عزلت؟ فقال: يا عم، بلغني أن العزل مكروه..!" فالسيد الوزير -وهو الرجل المقاصدي وخريج دار الحديث الحسنية- لم ينتبه إلى الكوارث الإقتصادية والإجتماعية، والفساد الضارب في أعماق الدولة طولا وعرضا، وحصر الفساد فقط في التوظيف المباشر، بل واعتبره جريمة كبرى... تماما مثل ذلك الشاب الذي لم ينتبه إلى تحريم جريمة الزنا وانتبه إلى كراهية العزل.. فيا ترى ما هو عين الفساد..؟ هل هو توظيف أناس اعترفت لهم المحكمة بحقهم في الوظيفة العمومية..؟ أم تسخير جميع أساطيل وزارة الداخلية من أمن وطني وقوات مساعدة.. لحماية مهراجان تهدر فيه ملايين الدراهم..؟ هل توظيف أطر محضر 20 يوليوز هو عين الفساد أم التحالف مع من وصفتموهم بالمفسدين طيلة ولايات مضت، من أصحاب السوابق ومن لا يرقبون في مال الشعب إلا ولا ذمة...؟ أليست الجريمة الكبرى -سيدي الوزير- هي هدر المال العام من خلال الزيادة في عدد الوزراء والموظفين السامين، والحكم بالتقشف مدى الحياة على المواطن البسيط..؟ أم أن الطبقة المسحوقة –أصلا- هي المعنية بدفع فاتورة الإصلاح المزعوم ودعم نظام المقايسة..؟ ترى ماهي الجريمة الكبرى..؟ هل هي ما قلتم فعلا أم إسناد المهام لغير أهلها وإرضاء الأعيان والعائلات، واستوزار من أزكم فسادهم الأنوف..؟ يبدو أن عمى السياسة أصاب إخوان بنكيران، فلم يعودوا يميزون بين الصالح والطالح، ولا بين الغث والسمين، إلى حد يتم فيه تسمية الأمور بغير اسمها، أو يتم فيه تضخيم اللّمَم على حساب الكبائر. فقضية أطر محضر 20 يوليوز، لم تكن يوما إشكالا قانونيا حول التوظيف المباشر أو غيره.. بل الأمر يتعلق بوعد وعقد والتزام. فالأمر سهل جدا، ويسير على من يسره الله عليه؛ لا يحتاج إلى كثرة القيل والقال والتوجه إلى المحاكم.. وفتح الباب أمام سماسرة المال والسياسة من المحامين والوكلاء القضائيين ليزدادوا غنى، على حساب الإطار المعطل الذي لا يملك قوت يومه؛ "فالعقد شريعة المتعاقدين" و"من التزم بشيء لزمه". لكن السيد رئيس الحكومة ووزراءه أبوا إلا أن يُدْخِلوا هذا الملف حلبة الصراعات المُشَخْصَنَة، وجعله أداة للمزايدات السياسية والحسابات الحزبية الضيقة. أما قضية الإصلاحات الكبرى ومحاربة الفساد والمفسدين فأقول للسيد بنكيران ومن يؤيده من أتباعه "إن علاج مشكلات الناس وأدوائهم، لا يقدر عليه إلا شخص حلّ مشكلات نفسه أولاً وداوى عللها." [email protected]