يقول مبدأ أمريكي حديث: “المعلومة قوة” أي أن المعلومة أصبحت تشكل قوة خارقة لدى من يمتلكها. لهذا سعت أمريكا بكل ما أوتيت من قوة إلى امتلاك ناصية هذه القوة بعدما قضت وطرها من القوى الأخرى المستكشفة جميعها، التي مازالت شعوب الدول النامية، وخاصة الشعوب العربية، تصارع من أجل فهم طرق اشتغالها، بل حرمت من عدد منها بتشريعات وقوانين دولية وأممية؛ كقوة الطاقة النووية مثلا. هاهي أمريكا تُمسك بكل قوة على القوة الجديدة المتمثلة في المعلومات التي تخص أي شيء: دول، حكومات، أحزاب، شركات، منظمات، حركات، وحتى أفراد بعينهم. وقد ساعدها في ذلك عامل التواصل الذي أصبح يشكل سمة بارزة من سمات هذا العصر، سيًما عبر الإنترنيت الذي أصبح لا يمكن الاستغناء عنه إن على المستوى الفردي أو الجماعي. ولذلك يسمى عصرنا ب(عصر المعلومات). هذه الوسيلة التواصلية الحاسمة في العصر الحديث، بما أنها عرفت نشأتها الأولى في أمريكا، فقد استفادت منها هذه الأخيرة في حصولها على المعلومات. حيث ابتكرت سبل وطرق وبرمجيات جديدة خاصة لغربلتها وتحليلها وبثها وشحنها وحفظها والاستفادة منها. وهذا ما جعل أمريكا القوة رقم واحد عالميا من ناحية معالجة المعلومات. فالشركات المهيمنة على هذا البحر الجديد هي شركات أمريكية؛ ك: مايكروسوفت وأبل على مستوى البرامج المعلوماتية، وكذا مواقع التواصل الاجتماعي ك: تويتر و فيسبوك، وكذا محركات البحث السريعة ك: غوغل و ياهو. كما لا تتهاون هذه الشركات أبدا في مد وكالة الأمن القومي الأمريكية بأي معلومة أو خدمة تطلبها. بل، تضع خدماتها وكل ما تملك من معلومات رهن إشارتها. ومن هنا تنبع القوة الأمريكية في هذا المجال إلى أن تحول إلى مجال استخباراتي أمريكي بامتياز. الأمر الذي دفع عدد من الدول التي تحترم مواطنيها وتسهر على أمنهم و تحافظ على خصوصياتهم إلى محاولة نهج سياسة معلوماتية بديلة ومستقلة عن الشبكة العنكبوتية العالمية التي تهيمن عليها المخابرات الأمريكية. من بين هذه الدول نجد كل من ألمانيا والبرازيل والهند وروسيا والصين. في حين مازالت الدول العربية تنام في دار “غفلون”. لكن هنا ينطرح سؤال آخر على مستوى الممارسة: هل هذا ممكن من الناحية العملية؟ أي هل يمكن لأي دولة من دول العالم أن تنشئ شبكتها الخاصة بها بمعزل عن باقي العالم؟ لم يكن نبأ ضلوع أمريكا في عمليات تجسس خطيرة عبر العالم بالنبأ المفاجئ لكثير من المتتبعين للشأن السياسي الدولي. ذلك أن أمريكا تعتبر الدولة الأكثر هوسا بالمعلومات التي تهم الجميع، وتمتلك المؤسسة المخابراتية الأكثر نشاطا وفاعلية في العالم، بل الأكثر اختراقا للحركات السياسية سواء السرية كالجماعات الإسلامية بما في ذلك القاعدة وغير السرية كالأحزاب والجمعيات الخيرية، أو الدول والكيانات السياسية الإقليمية. بل حتى حلفاؤها من الدول الغربية. ويذهب كثير من المراقبين إلى اعتبار أن أمريكا، بواسطة أجهزتها المخابراتية، أصبحت تمتلك بنك المعلومات الأكبر والأضخم الذي يهم الأشخاص العينيين والكيانات السياسية وغير السياسية في العالم. فلا تكاد أمريكا تتخذ أي قرار، في جميع المجالات سواء السياسية أو الاقتصادية أو العسكرية، إلا بوجود المعلومات الحاسمة التي تجتهد وكالة الأمن القومي الأمريكية في توفيرها بشتى الطرق. وهذه المعلومات لا تجمع إلا بواسطة عمليات جاسوسية محكمة، إما على أشخاص في كل أنحاء العالم بما في ذلك المواطنين الأمريكيين، أو على دول وحكومات، أو شركات ومنظمات، أو أفراد عينيين وحتى عن جيوش بحالها. وكل ذلك يندرج عند الأمريكيين تحت ذريعة الإستراتيجية الأمريكية لمحاربة الإرهاب. بينما تستفيد أمريكا من ذلك في كل المجالات بما في ذلك مفاوضاتها مع الدول الأوربية في أمور تجارية بحتة. فأمريكا كانت تعرف مسبقا مواقف كل من وقعت معهم اتفاقيات التبادل التجاري الحر. كما تستفيد من ذلك التجسس في المفاوضات التي تجريها حاليا مع الأوربيين من أجل إنشاء منطقة حرة للتبادل التجاري في إطار ما يعرف بالحوار التجاري عبر الأطلسي. لكن المفاجئ في هذا كله هو ما كانت تحمله محفظة إدوارد سنودن العميل السابق للمخابرات الأمريكية والذي تمكن من الإفلات من قبضة المحاكم الأمريكية بعدما انسل خلسة في الظلام خارج مجال رؤية أذكى وأنبه الرجال المُخبرين في العالم. بعد ملاحقات ماراطونية في البر والبحر والجو وهو بحوزته ثروة من الأدلة القاطعة على ضلوع أمريكا في عمليات تجسس ذات حساسية عالية، وكذا الأنشطة التفصيلية لكيفية قيامها بذلك. وكذا أسماء الأشخاص والمؤسسات والمنظمات التي وقعت ضحية لهذه العمليات. فأخذت هذه الملاحقات سنودن إلى موسكو بروسيا حيث حصل على اللجوء السياسي هناك. ومن هناك سرب معلومات خطيرة مفادها أن أمريكا لا تنام ولا يهدأ لها بال بل تظل تراقب كل صغيرة وكبيرة في العالم دون أن تضع في اعتبارها حقا لأحد، حتى لزعماء العالم، في أي شيء، حتى في الخصوصية. اكتشفت جريدة “ديرشبيغل” الألمانية من خلال الوثائق التي سربها سنودن أن أمريكا تراقب هواتف أكثر من 35 زعيما عالميا منذ أكثر من 10 سنوات. ومن بين هؤلاء القادة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والتي تعتبر أحد أهم حلفاء أمريكا في أوربا وفي العالم. الأمر الذي شكل فضيحة سياسية وأخلاقية ومخابراتية من العيار الثقيل على المستوى الداخلي في ألمانيا. الأمر الذي أجج غضب المستشارة الألمانية مما دفعها إلى طلب تفسير لما حدث بالضبط ، بل طلبت اعتذارا واضحا من الرئيس أوباما على ما اقترفت أيدي مخبري بلده من انتهاك لخصوصيتها الشخصية أولا. مستملحة أخرى كانت تحويها تسريبات سنودن. وهي أن أمريكا تتجسس على مكالمات الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند. الرجل الأول في فرنسا هو أيضا كان من بين ال35 شخصية زعيمة عبر العالم الذين تراقب أمريكا مكالماتهم عن كتب لأزيد من 10 سنوات. ليس الرئيس وحده بل طالت بلاده عمليات جاسوسية خاصة ومكثفة. وبذلك بلغ عدد المكالمات التي تجسست عليها أمريكا في فرنسا وحدها أزيد من 9 ملايين مكالمة. هذا ناهيك عن الدول الأخرى؛ كروسيا والصين والهند والبرازيل وغيرها من دول العالم. المستجد الذي تحمله هذه الأنباء هو التجسس الأمريكي على أقرب الأصدقاء بما في ذلك الحلفاء الاستراتيجيين الغربيين. وانتهاك خصوصيات الأفراد لدى هذه الدول خاصة إذا استحضرنا أن هذه الدول كألمانياوفرنسا تعتبر من الدول الأكثر احتراما لخصوصية مواطنيها. إذ أن الخصوصية حق من الحقوق المكفولة دستوريا. ناهيك عن خصوصيات رموز الدولة كالرئيس ومعاونيه من الوزراء. وإذا تم انتهاك خصوصيات رموز الدولة. ماذا سيحدث لأسرار الدولة؟ هذا السؤال انطرح أكثر من مرة في الشارعين الألماني والفرنسي. وخاصة لدى المواطن العادي الذي لصوته أهمية كبرى عند الانتخابات. وفضائح من هذا الحجم من شأنها أن يكون لها تأثير كبير على النتائج. خاصة إذا وضعنا بعين الاعتبار أن الجواب عن هذا السؤال يتضمن نفس المصير سواء للخصوصية أو لأسرار الدولة. وهذا ما يثير السخرية لدى المتتبعين المحليين على هذا المطب الأمريكي الذي وجدت الدول الأوربية نفسها فجأة تغرق فيه. وهو أيضا ما يفسر توالي المكالمات من الزعماء الأوربيين لأوباما طالبين التفسيرات الضرورية التي لا يمكن أن تجد تبريرا لذلك غير حرص أمريكا على أمنها القومي، وعدم تهاونها في محاربة الإرهاب، ومن تم حرصها على الأمن والسلم في العالم. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا بقوة هو: هل فعلا أمريكا مهووسة بأمن العالم إلى هذا الحد الذي يعرض دول ورؤساء إلى انتهاك لخصوصياتهم؟ ثم إذا كانت أمريكا شديدة الحرص على أمنها القومي ولذلك تلجأ إلى التجسس على كل ما يقع في طريقها؟ فما الخطر الذي تمثله أنجيلا ميركل على الأمن القومي الأمريكي؟ هل حقا تخشى أمريكا هتلر جديد، ينتحل شخصية المستشارة ميركل، يخرج أيضا في ألمانيا مستغلا البيئة الديمقراطية الألمانية مثلما حدث في ثلاثينيات القرن المنصرم؟. [email protected]