في تحليل يستند على القانون الدولي العام، بسط الدكتور محمد حنين، الأستاذ الجامعي ورئيس لجنة العدل والتشريع والحريات بمجلس النواب، حيثيات وسياقات نزاع الصحراء المتنازع عليها، وذلك في ضوء احتفال المغرب بالذكرى الثامنة والثلاثين لتنظيم المسيرة الخضراء التي أعلنها الملك الراحل الحسن الثاني. واعتبر حنين، في مقال خص به جريدة هسبريس الإلكترونية، أن المسيرة الخضراء تصدت للمخطط الاستعماري الانفرادي، قبل أن يعرج على خلفيات تمسك جبهة البوليساريو بإرجاء الاستفتاء لحل نزاع الصحراء، مبينا أن الطرح الانفصالي ينطوي على استمرار النزاع بصيغ جديدة. وفيما يلي نص مقال محمد حنين كما توصلت به هسبريس: لم يكن أحدا يتصور أن المغفور له الحسن الثاني سيفاجئ العالم بقراره التاريخي بتنظيم المسيرة الخضراء سنة 1975 لتحرير الصحراء من الاستعمار الاسباني. فإذا كان هذا القرار يعتبر متميزا وغير مسبوق في الممارسة الدولية، فإنه كان ذكيا ويعبر عن حكمة ملك عظيم وعبقرية شعب. فما يجب أن تعلمه الأجيال التي لم تعش لحظات هذا القرار وتنفيذه ، أن هذا القرار لم يكن اعتباطيا أو ارتجاليا، و لكنه كان رزينا وينطوي على أبعاد استراتيجية مهمة. تصدي المسيرة الخضراء للمخطط الانفرادي الاستعماري ولمن يرغب في التأكد من كل ذلك لا بد من التذكير أن اسبانيا أخبرت الأمين العام للأمم المتحدة في 20 غشت 1974 بقرارها القاضي بتنظيم استفتاء في الصحراء لتقرير مصير الاقليم ، وبمجرد ادراك المغرب لأبعاد هذه المناورات الاستعمارية الرامية آنذاك الى خلق كيان مستقل تابع لاسبانيا ، فانه تصدى لتنفيذ هذا القرار كونه يكتسي طابعا انفراديا من أجل خدمة مصالح استعمارية بصيغة جديدة. و بالفعل توجت الجهود الدبلوماسية المغربية بدفع الجمعية العامة للأمم المتحدة الى اصدار توصية في 13 دجنبر 1974 تطالب اسبانيا بإيقاف تنفيذ مخططها الانفرادي و بالمقابل وافقت على طلب المغرب بإحالة النزاع على محكمة العدل الدولية لإصدار رأي استشاري من أجل تنوير الجمعية العامة حول السياسة الواجب اتباعها من أجل تنفيذ مسلسل تصفية الاستعمار في الصحراء. هذه المحكمة أصدرت رأيها الاستشاري حول الصحراء في 16 أكتوبر 1975 أكدت فيه أن الصحراء لم تكن بدون مالك أثناء الاحتلال الاسباني ، كما أكدت أن المواد و المعلومات المقدمة اليها تؤكد وجود روابط تاريخية بين الصحراء و المملكة المغربية و أن هذه الروابط هي روابط قانونية تستند على الولاء و البيعة بين سلطان المغرب و القبائل الصحراوية. بمجرد الاعلان عن هذا الرأي الاستشاري بادر المغفور له الحسن الثاني في نفس اليوم الى الاعلان عن تنظيم مسيرة خضراء سلمية الى الصحراء و هو ما أدى الى ايقاف تنفيذ المخطط الاسباني الانفرادي بل أدى هذا الاعلان الى ارباك السلطات الاسبانية و تفتيت أطماعها الاستعمارية. و السؤال المطروح اليوم على كل من قد يشكك في أهمية المسيرة الخضراء و ما سبقها من ترتيبات هو كيف كان سيكون الوضع بدون هذه المسيرة ؟ بالطبع كان الخاسر الأكبر سيكون هو المغرب لكونه كان سيفقد جزاء من ترابه ، و الدليل على ذلك أنه بالرغم مما تم القيام به من ترتيبات سلمية لجلاء الاستعماري الاسباني عن الصحراء في اطار الشرعية الدولية فان أطماع خصوم الوحدة الترابية سرعان ما أدت الى افتعال نزاع حول هذا الاقليم لا زال قائما لحد الآن. ملابسات قانونية وسياسية للنزاع يعتبر هذا النزاع نزاعا فريدا من نوعه ليس فقط بسبب تعميره لأكثر من 38 سنة و لكن لملابساته القانونية و السياسية بكيفية لم يسبق لها مثيل في الممارسة الدولية . فمن جهة لم يسبق لتصفية الاستعمار أن أدت الى قيام تيار معاكس للدولة التي استرجعت الإقليم والمطالبة بأحقيته في السيطرة عليه ، و من جهة أخرى لم يثبت في التاريخ الحديث للعلاقات الدولية أن احتضنت دولة ما لطرح انفصالي في دولة جارة لها بدعوى دعم حق تقرير المصير. و من المؤكد أن هذه الاستثناءات هي التي عقدت خيوط نزاع الصحراء و جعلت تدبيره عبئا ثقيلا على الأممالمتحدة . فقد فشلت في تطبيق مخطط السلام رغم اتفاق الأطراف عليه كما أنها تشرف على مفاوضات لازالت تراوح مكانها ، فيتم اقتصارها على إصدار القرارات من وقت لآخر للدفع بالتفاوض الى حل سياسي متفق عليه بين الأطراف . و من المؤكد أنه في غياب إدراك الملابسات القانونية للنزاع و خلفياته الحقيقية و ما يرتبط بها من مغالطات لن تتمكن الأممالمتحدة من إحراز أي تقدم لتسوية هذا النزاع الإقليمي. خلفيات التمسك بالاستفتاء إذا كانت الجزائر تدفع بأن الاستفتاء يسمح بممارسة حق تقرير المصير في الصحراء فان هذا الدفع يرتكز على ذرائع واهية و لا يستند على أساس سليم لثلاثة اعتبارات : الاعتبار الأول يتجلى في كون حق تقرير المصير لم يتم تكريسه في القانون الدولي الوضعي إلا بعد تأسيس منظمة الأممالمتحدة و لم يتطور على نطاق الممارسة إلا بعد قرار الجمعية العامة رقم 1514 الصادر في 14 دجنبر 1960 . و طبقا لذلك ينطوي حق تقرير المصير على دلالات قانونية صرفة ترتبط بتصفية الاستعمار و من تم تنحصر ممارسته على الشعوب الخاضعة للاستعمار أو للهيمنة و الاستغلال الأجنبي . و هو ما يختلف عن الوضع في الصحراء لكونها كانت خاضعة للاحتلال الاسباني منذ 1884 أي بعد احتلال الجزائر بحوالي أكثر من نصف قرن ، و أن الجلاء الاسباني عن الصحراء تم سنة 1975 بعد سلسلة من الضغوطات ( الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية و المسيرة الخضراء) توجت بإبرام اتفاق مدريد بين اسبانيا بوصفها سلطة احتلال و المغرب و موريتانيا بوصفهما لهما حقوق في الصحراء و هو الاتفاق الذي لم يحظ بارتياح الجزائر و لم تتردد في انتقاده بسبب إقصائها من المفاوضات المؤدية إليه. لذلك فمسألة تصفية الاستعمار المؤدية قانونيا الى ممارسة حق تقرير المصير لم تبق متوفرة منذ استرجاع المغرب للصحراء. أما الاعتبار الثاني فيتعلق بعدم اعتراف الجزائر باسترجاع المغرب للصحراء بل تعتبره في وضعية المحتل لها و هو رأي خاص بها لا يدعمه لا القانون و لا الواقع ، فمن جهة ما ثبت في الممارسة الدولية المعاصرة تخلي دولة عن احتلالها لإقليم لفائدة دولة أخرى ، و من جهة أخرى لا يعتبر المغرب قوة أجنبية عن الصحراء . فكل الأدلة الجغرافية والتاريخية و البشرية و الدينية و الثقافية تثبت بما لا يدع مجالا للشك الروابط الوثيقة بين الصحراء و المغرب و أن مرحلة الاستعمار الاسباني لم تكن سوى محطة عابرة في تاريخ الصحراء. و رغم الاستعمار لم تنقطع تلك الروابط أبدا وهو ما لخصه المغفور له محمد الخامس في خطابه يوم 25 فبراير 1958 أثناء زيارته لمحاميد الغزلان ( لقد كان من الأماني العزيزة علينا أن نزور هذا الجزء من الصحراء المغربية...لنحيي سنة حسنة جرى عليها ملوك المغرب منذ قديم ...و أن آخرهم وصولا إليها جدنا المنعم مولاي الحسن الذي بلغ إليها مرتين ليؤكد وحدة المغرب و سيادة سلطته الشرعية على سائر أطرافه عندما بدأت المطامع الأجنبية فيها تخرج الأعناق.... ) . و يتعلق الاعتبار الثالث بكون القانون الدولي ينفي صفة الشرعية على ممارسة حق تقرير المصير عندما تتعارض هذه الممارسة مع قدسية مبدأ صيانة الوحدة الترابية للدولة الذي يحافظ من الناحية القانونية على شرعيته و سموه على بقية الحقوق ( قرار الجمعية العامة رقم 2625 سنة 1970) ، فهو في هذه الحالة ينطوي على أبعاد سياسية أكثر منها قانونية لكونه يتحول الى انفصال يؤدي الى تفكيك الدولة و تجزئتها . و تبعا لذلك لا يمكن لحق تقرير المصير أن يبرر حق الانفصال. و لإدراك الجزائر لهذه الحقيقة فهي تضمر الأغراض الحقيقية لدعمها غير المشروط للبوليساريو دون الإفصاح عن الطرح الانفصالي لما يسببه لها ذلك من إحراج و تستمر في الربط بين تنظيم الاستفتاء و حق تقرير المصير رغم غياب واقعة الاحتلال التي تبرر ممارسة هذا الحق. فاستنادا على هذه الاعتبارات التي تتكامل فيما بينها يلاحظ انعدام الأساس السليم لتمسك الجزائر بتنظيم الاستفتاء في الصحراء و أن الطرح الجزائري ينطوي على مغالطات خادعة و هي تربطه بحق تقرير المصير و تتفادى في نفس الوقت ربط الاستفتاء بالانفصال فتسقط بذلك في تناقض مقصود لتجنب الاصطدام مع ما يقرره القانون الدولي في الموضوع. وهكذا ، ففي الوقت الذي يتمسك فيه المغرب بالشرعية الدولية تقحم الجزائر نفسها طرفا رئيسيا و مباشرا في نزاع الصحراء ليس فقط في الوقت الحاضر بل هي من هندست له منذ السبعينات عندما استقطبت آنذاك مجموعة من الشباب المغاربة الصحراويين و عملت على تحويل أغراض حركتهم التي كانت موجهة في الأصل لمقاومة الاحتلال الاسباني الى خدمة أجندتها في المنطقة. و هاهي شهادة محمد العظمي أحد مؤسسي هذه الحركة في الصفحة 93 من كتاب " حرب أعلام في الصحراء " للكاتبة الاسبانية آنخيلا هيرننديت مورينو تكشف عن حقيقة صادمة حول بداية العلاقة بين الجزائر و البوليساريو حيث يؤكد أن " المعارضة المغربية التي كانت تحتضنها آنذاك الجزائر هي التي ساعدت هذه الحركة على الاتصال بالجزائر و ليبيا...". الطرح الانفصالي ينطوي على استمرار النزاع بصيغ جديدة لكن ما هو رأي " الشعب الصحراوي " المفترى عليه في الطرح الانفصالي ؟ فمن الثابت قانونيا أن حق الشعب في تقرير المصير يتموقع بين مبدأ القوميات و مبدأ الديمقراطية وتبعا لذلك لا يمكن للتغيرات التي تقع على الإقليم أن تكون سليمة إلا بإرادة حرة للشعب المعني . و بتطبيق ذلك على الصحراء يلاحظ أن الشعب هو الذي يعيش اليوم فوق الإقليم وهو الذي سبق له أن عبر عن إرادته منذ جلاء الاستعمار الاسباني في الاندماج التلقائي في الحياة السياسية والاقتصادية و الاجتماعية بالمملكة ، كما أن المئات من المؤسسين للبوليساريو التحقوا بالمغرب و منهم من يتقلد مناصب سامية في الدولة ، ومن تم فمن يسمون بانفصاليي الداخل عددهم ضئيل جدا لا يتعد عددهم بضع العشرات أغلبهم شباب عاطل و أصحاب سوابق. أما مخيمات تندوف التي تحتضنها الجزائر فهي لا تأوي سوى أقلية محدودة لا يمكنها في جميع الأحوال طبقا لمبدأ الديمقراطية فرض إرادتها على أغلبية سكان الصحراء علما بأن هذه الأقلية تتكون من أطياف مختلفة لا علاقة لها بالصحراء . و لذلك فان خيار الاستفتاء في الوقت الذي قد يستجيب فيه في مثل هذه الحالة لطموح فئة محدودة العدد فانه يمس بطموحات فئات أخرى و من تم فانه لا يؤدي بالضرورة الى معالجة النزاع بكيفية جذرية بل يحمل بين طياته بوادر استمراره بصيغ جديدة. لكنه رغم هذه الحقائق القانونية لا تقبل الجزائر أي خيار آخر سوى الانفصال و هو طرح لن يقبله المغرب لعدة اعتبارات يتقاطع فيها التاريخي بالجغرافي و القانوني بالسياسي. أما جبهة البوليساريو فهي لا تتوفر على حرية المبادرة لاقتصارها على تنفيذ املاءات الجزائر دون حرية القرار.