"إلا ما بْقاوش باغيين يْردّوها قشلة.. يْديرو منها غِير مدرسة ولا شي سبيطار" جملة تتردد كثيرا قرب ثكنة أهرمومو المُتوّقفة عن الحياة منذ زمن طويل.. وبالضبط منذ انقلاب الصخيرات 1971..عندما عُوقبت بسبب تخريجها لعدد من الضباط المشاركين في محاولة نزع المُلك من يد الحسن الثاني..فعوقبت مدينة بأكملها..لا زالت تعاني شظف العيش وضعف البُنى التحتية بسبب ارتباط اقتصادها بالرواج الذي كان الجنود يُحيونه بأسواقها ومحلاتها. أهرمومو المشتقة إما من لفظ مخزنِ الأسلحة في لغة موليير..أو من كلمة أمازيغية تعني شبل الأسد حسب أقوال بعض ساكنتها..يبدو أنها غير راضية عن اسمها الذي تغيّر بقرار من الأعلى بعد ذلك الانقلاب فصار رباط الخير.. فالربط بين المدينة وباقي المدن الأخرى يمر عبر طرق وطنية في حالة سيئة بغياب الطريق السيار وانعدام شبكة السكك الحديدية..والخير أدبرَ عنها منذ زمن..فتحولت إلى مدينة عجوز..لا مجد فيها سوى لثكنة مغلقة الأبواب..ولمتقاعدين عسكريين يلوكون الكلام بين مساحاتها الصغيرة.. هسبريس زارت هذه المدينة العسكرية التي لا يذكرها البعض عنها سوى كونها مُنطلق فرق عسكرية أرادت خلق جمهورية بالمغرب.. "ظلمونا..ولم يُعوّضونا" حافلة واحدة هي تلك التي تربط بين الرباط وبينها..أما إن أردت السفر إليها من فاس أو صفرو..فعليك انتظار تاكسي قد يأتي وقد لا يأتي..خاصة في طريق عودتك منها..التي بقينا خلالها أزيد من ساعتين..في انتظار وسيلة نقل تعيدنا إلى صفرو.. استقبلنا إدريس منوار، الذي تحوّل من ضابط صف بثكنتها..إلى فلاح صغير يقضي جل وقته بأرضه أو مع زملائه بفرع مركز حقوقي..رغم كل السنون التي أبعدته عن مغازلة السلاح وإصدار وإتباع الأوامر..فلا زال لسانه يحمل فرنسية منضبطة..ومشيته تخشى من الخروج عن الصف حتى ولو كان الأمر يتعلق بمهنة طردته بقسوة من صفوفها منذ زمن.. "لو كنت مذنبا، فلماذا تم إخلاء سبيلي إذن؟" يتساءل منوار بكثير من الألم وهو الذي سُجِن ل18 شهرا بعد الانقلاب..حاكيا قصته كيف دخل هذه المدرسة بكثير من الطموحات..وكيف تدرج في رتبها إلى أن صار ضابط صف..إلى أن تلاعب بهم الكولونيل محمد اعبابو..وأدخلهم في دوامة انقلاب لم يفكروا به يوما "عَلّمنا الجيش أن نطيع أوامر رؤسائنا..ولذلك أطعنا ما أراده اعبابو دون معرفة مسبقة بنواياه..ولو أتانا أمر مباشر من الحسن الثاني بعدم التحرك..لمّا تحركنا من أماكننا..بل كنا لنضحي بأنفسها في سبيل عدم الزج بالوطن في مثل هذه المسالك" يقول منوار. نفس الألم الساكن بعيون منوار..كان يبدو جليا في وجه لحبيب الدخير الذي كان محاربا بجيش التحرير آسا الزاك، ودخل إلى المدرسة العسكرية بعد اختيار أفضل المحاربين من الجيش المذكور..ضابط الصف سابقا المكلف بصيانة الأسلحة..والذي يرعى أرض أسرته المجاورة للثكنة..لا زال جرح الاعتقال لمدة سنتين رابضا في أعماقه:" تمّ سَجننا ظلما وعدوانا..ولم يكتفوا بذلك..بل حَرَمونا من أي وظيفة عمومية وحتى من السفر إلى الخارج..أما بعض من خطط للانقلاب وشارك فيه بنية واضحة، فلا زال يشتغل بالمؤسسة العسكرية حتى الآن ".يقول الدخير. منوار والدخير، أشارا إلى أنهما استبشرا خيرا بإنشاء هيئة الإنصاف والمصالحة، إلا أنها لم تُعوّضهم، وتركتهم على حالهم رفقة 27 جنديا آخرا، في حين تم تعويض العشرات ممن كانوا ضباطا أو حتى تلاميذاً بالمدرسة العسكرية ذاتها، مبررة قراراه بعدم الاختاص كما عاينت هسبريس. يتذكر الدخير كيف أن صديقا له، هو محمد كنوش..هو من كان وراء إنقاذ حياة الملك بيوم الإنقلاب كان آخر من بقي معه في القصر..وكيف أخبر الملك بعد ذلك بأن الكثير من الضباط والجنود يتّبعون أوامر اعبابو دون أن يعرفوا حقيقة نواياه، "لو كنت مكان كنوش..ما كان مصيري ليكون رعاية الأرض وانتظار تعويض من الدولة" يستطرد الدخير. انقلاب فاشل لم يُمحَ من الذاكرة لم يكن أي شيء يوحي أن هناك انقلابا عسكريا قادما، يتذكر منوار، معتبرا أن مدير المدرسة، محمد اعبابو، كان مثالا في الانضباط وفي الإخلاص للوطن والملك، وكانت سمعته طيبة بجل الثكنات العسكرية المغربية. غير أنه قبل المحاولة الانقلابية المؤرخة ب10 يوليوز 1971، تم الإعلان عن مناورة عسكرية بالحاجب، إلا أنهم وقبل وصولهم، أتاهم أمر بأن المهمة أُلغيت، وهي المهمة التي تم الكشف بعد ذلك، أنها كانت تبتغي اغتيال الملك، قبل ان يتراجع عنها اعبابو والجنرال المذبوح لانعدام شروط الهجوم. العاشر من يوليوز، انطلقت شاحنات الجنود من المدرسة للقيام بمناورة عسكرية ببنسليمان حسب أوامر اعبابو، كان عاديا أن يكون الرصاص الحي داخل الأسلحة" تدربنا بهذا الرصاص أكثر من مرة..ولم نشك للحظة في أنه سيُستعمل للانقلاب على الملك الراحل" يقول منوار. إلا أنه وبعد الوصول إلى بوقنادل، بالقرب من سلا..تغيّرت التعليمات من الاستعراض العسكري إلى إنقاذ حياة الملك بقصر الصخيرات..في وقت كانت فيه المهمة الحقيقية كما أرادها اعبابو..هي الإجهاز على الملك. ما وقع يوم الانقلاب داخل القصر الملكي ذكرته الكثير من الجرائد المغربية ولو بتفاصيل مختلفة..إلا أن أهم ما فيه حسب منوار، هو أن اعبابو أعطى أوامره للجنود بقتل كل من يعصي الأوامر..وأجهز بعد ذلك على الكولونيل بو الحمص لعداوة شخصية معه.. ثم قتل الجنرال المذبوح شريكه في الانقلاب..وبعد ذلك توجه إلى القيادة العليا للقوات المسلحة الملكية بعدما لم يتمكن من العثور على الملك الذي حماه جنود بينهم كنوش صديق المتحدث. وهناك بالقيادة..وقعت مشاجرة بالرصاص بين الجنرال البشير واعبابو، أدت إلى إصابة هذا الأخير إصابة خطيرة جعلته يطلب من أحد زملائه أن يجهز عليه كي لا يقع في أيدي مناوئي الانقلاب..لتكون رصاصة الرحمة التي أطلقها عليها زميله المدعو عقا نهاية هذا الانقلاب الفاشل. رغم عودتهم إلى مدينتهم دون صعوبات تذكر، إلا أن السلطات العسكرية بحثت بعد ذلك عن كل من كان موجودا بالقصر ذلك اليوم..ومنهم منوار والدخير..اللذان قضيا وقتا عصيبا في التحقيق، ورغم تأكيدهما أكثر من مرة أن لا عِلم لهما بالانقلاب..وأنهما توجها للقصر الملكي قصد حماية حياة الملك كما كانت التعليمات في البداية، إلا أن نصيبهما كان ردهات السجن، الذي كان الجنرال أوفقير، مهندس الانقلاب الفاشل الثاني..يزورهم فيه من حين لآخر، ويخبرهم أنهم سيخرجون قريبا من السجن بكرامة..وبالعودة إلى مناصبهم السابقة..بل حتى وأفضل منها، كأنه يريد جمع إخلاص الجنود القابعين في السجون لتأييده إن نجح في الإطاحة بالملك. أقوى مدرسة عسكرية بإفريقيا قبل أن تدخل إلى المدينة..تستقبلك الثكنة العسكرية المغلقة، تَشييدها يعود إلى عهد الاستعمار عندما اختارتها السلطات الفرنسية لموقعها داخل جبال الأطلس..رحل المستعمر ووجدها المغاربة مساحة تصلح لتكوين جيش تنتظره الكثير من الاستحقاقات خاصة نزاع الصحراء والدفاع عن الحدود المغربية، غير أنها انتهت عقابيا بعد انقلاب الصخيرات..ولم تعد لها أهمية باستثناء استمرار جزء منها في إيواء عائلات بعض الجنود..وأشجار هنا وهناك تركها خلفه الكولونيل اعبابو حتى سميت باسمه. المدرسة العسكرية كما يتذكرها إدريس منوار، كانت أقوى مدرسة عسكرية بكل إفريقيا، حيث كانت تتكون من ثلاث فئات: فئة التلاميذ الذين كانوا يلجونها في سنوات التعليم الإعدادي، والذين كان عددهم يزيد عن 1200 فرد، فئة الساهرين على سيرها العام ويتجاوزون 120 فردا، ثم فئة المؤطرين البالغ عددهم قرابة المئة أو يزيد بقليل. جديتها خوّلت لها سمعة وطنية وعربية مشرفة، وهي التي كانت تتنافس مع مدارس مغربية أخرى في الانضباط..وقد ظهر ذلك التنافس جليا يوم الانقلاب عندما انتقم الكولونيل اعبابو من مدير مدرسة مراكش بعدما سبق له أن وصف أهرمومو بكونها مكانا لتخريج الحمير ! بقدوم اعبابو إليها، تحوّلت المدرسة إلى مثال عالٍ في تخريج الجنود المؤهلين، يشير الدخير إلى أن أفضل الجنود بالصحراء المغربية، تخرجوا من هذه المدرسة، ويعود ذلك بشكل كبير إلى السياسة التي اتبعها اعبابو، الذي جهز الثكنة بأفضل المعدات الإلكترونية في ذلك الوقت، وركز بشكل كبير على التكوين اللغوي والمعرفي، ثم على التدريب القاسي الذي يجعل دائما التلميذ في خطر الخروج نهائيا من المدرسة إن لم يقم بما هو مطلوب منه. "على السلطات العليا أن تعطي أمرها من أجل إرجاع هذه المؤسسة إلى ما كانت عليه..أو على الأقل تحويلها إلى شيء آخر متعلق بالعسكر..لا يمكن أن تضيع كل هذه المساحة بسبب خطأ ارتكبه كولونيل ذات يوم" يتحدث منوار. مدينة أمجادٍ بحاضر مؤلم أغلب من تحدثنا إليهم، يؤكدون أن المدينة عاشت بشكل عادٍ بعد الانقلاب، ولم تتم معاقبة ساكنتها باعتقالهم أو التحقيق معهم، إلا أن العقاب كان من نوع آخر، فبعد إغلاق الثكنة، انحدرت الأنشطة الاقتصادية بشكل كبير، ولم يعد للمدينة أي رونق، بل إنها تحولت في جانبها الشرقي إلى بناء ضعيف الجودة، وإلى سوق عفن لا يؤمه في الغالب سوى ساكنة الدواوير المجاورة. في غالبية العائلات هنا، لا بد وأن تجد من يشتغل أو سبق ان اشتغل بالجيش المغربي..من الطبيعي جدا أن تجد متقاعدا عسكريا لا زال يتمشى بملابسه العسكرية القديمة..في التجمعات الصغيرة بالمقاهي والمساحات الفارغة، تجد جنودا سابقون يتحدثون بكثير من الفخر –وكذلك الحسرة- عن إنجازاتهم في الميادين، وعن معاشهم بمدينة، طالبت منذ مدة، برفع الضرر الجماعي، وبعودة اسمها القديم لعلّها تسترجع بعضاً من رونقها. في مزبلة تقتات منها الغربان..ينتصب بناء قديم اجتره الزمن لتبدأ أحشاءه الحديدية بالبروز..هنا كما يؤكد منوار..كانوا يتدربون ويدربون التلاميذ العسكريين على تصويب الرصاص..من أجل بناء جيش مغربي قوي يدافع عن الوطن خلال أوقات الشدة..انتهت الثكنة وانتهى التدريس..وانتهت أهرمومو..وبقي البناء حيا يستقبل أزبال ونفايات المدينة عوض رصاص الجنود..بناء يعبر عن واقع منطقة خلعت مجبرة رداء العسكر..لترتدي جبة التهميش والإقصاء.