من مكر الصدف، وربما من سخرية القدر، أنه يوما واحدا فقط بعد عرض حلقة "مباشرة معكم" التي خصصت للحديث عن إلغاء عقوبة الإعدام، قضت الغرفة الجنائية بمحكمة الاستئناف بأكادير بالحكم بالإعدام في حق مغتصب و قاتل الطفلة فاطمة الغندور بنت السنتين ونصف بتارودانت. ومن مكر الصدف وسخرية الأقدار ايضا، أنه يوما بعد صدور حكم الإعدام أقر الجاني باقتراف جريمة اغتصاب وقتل أخرى طالت طفلا في الثالثة من عمره، قامت الشرطة العلمية فعلا بإخراج جثته. هي مفارقة غريبة بكل المقاييس تؤكد تعدد العوالم في المغرب، بل وتجسد وجود مغربين على الأقل يسيران في خطين متوازيين لا يمكنهما أن يتقاطعا في أية نقطة.. مغرب اليوتوبيا، وتحديدا يوتوبيا الفلسفة، التي تقوم على الافتراض الفلسفي الذي يستند على حركة الذهن التجريدية في عملية بناء النماذج الافتراضية.. (جمهورية أفلاطون والمدينة الفاضلة للفارابي.. مثلا).. ومغرب الواقع المر بمشاكله وكوارثه التي تحتاج إلى حلول عملية وواقعية وليس إلى خيال فلسفي جامح. ولهذا سيكون من باب إضاعة الوقت محاولة البحث عن أرضية مشتركة يلتقي حولها طرفا السجال، خاصة في هذا النوع من القضايا التي تفترض حدا كبيرا من الرفاه الاقتصادي الذي يقود إلى نوع من البطالة الفكرية التي تؤدي بدورها إلى هذا النوع من الترف الحقوقي.. لكن المشكلة التي كشف عنها البرنامج المشار إليه أعلاه، وهي مشكلة قديمة بالنسبة للمغرب الجديد، تتمثل في أن بعض "الفاعلين" الجمعويين والحقوقيين، يعيشون خارج الواقع تماما.. بحيث لو غامت السماء في مكان ما في العالم الحقوقي الافتراضي لفتحوا مظلاتهم في مراكش.. أو حتى في العيون او السمارة.. ولهذا فمن يعيشون حالة "الفصام" هاته لا يمكن لأحكامهم أن تكون منطقية ومتماشية مع الواقع. والمسألة هنا ليست مسألة شعارات حالمة، بل لها ارتباط وثيق بالأمن المباشر للمواطن، وهو جانب حساس له تأثير تلقائي على كثير من مناحي الحياة وعلى الاستقرار بشكله العام في نهاية المطاف. لا أريد أن أصل إلى الحد الذي أجزم فيه بأن هذا النوع من القضايا ربما تحركه دوافع شخصية بحثا عن الأضواء والسفريات والندوات أكثر من الجانب الحقوقي والإنساني.. أو حتى اصابع أجنبية تعرف كيف تنتقي المواضيع الخلافية لصب الزيت على نار الخلافات الفئوية والإيديولوجية.. فمن يسعون إلى إلغاء عقوبة الإعدام في المغرب، يتصرفون أحيانا كما لو أن المشانق منصوبة في الشوارع، وكل يوم هناك حفلة إعدامات، أو كما لو كنا في عالم مثالي يعامل فيه المجرم على أنه مريض نفسي ينبغي أن يعالج، وربما كضحية للمجتمع، من حقه أن يحصل، فضلا عن الرعاية والعناية، على "جبر ضرر". إن المقاربة الموضوعية لقضية الإعدام، ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار كثيرا من العناصر: وأول هذه العناصر أننا أمام جريمة فيها مجني عليه وجاني ومطالبون بالحق المدني، وبالتالي فالاقتصار على زاوية واحدة من الصورة، هو نوع من التدليس والاستخفاف بالعقول. فالذين يطالبون اليوم بإلغاء عقوبة الإعدام يتعاملون مع القضية كما لو أنهم موكلون من طرف قوة خفية بإنقاذ روح الجاني بغض النظر عن الفظائع التي ارتكبها. مع أن قواعد الإنصاف تستوجب في الحالات المماثلة إعطاء الأولوية للمجني عليه، لأنه ضحية الاعتداء، وليس العكس. ولهذا حين أسمع كلام أحد ضيوف برنامج "مباشرة معكم" وهو يتألم لإحساس المحكومين بالإعدام القابعين في زنزاناتهم، عند سماع أصوات الأحذية وهي تمشي في الممرات الصامتة، أو بسبب صرير الأبواب، أو عند إخراج سجين لتنفيذ العقوبة في حقه، أظن أن الحد الأدنى من قواعد العمل المهني كانت تتطلب من الزميل كلحسن أن يتأكد مما إذا كان ضيفه مستيقظا أم غارقا في "الملكوت".. لأن الأمر وصل حد الهلوسة.. والمهم حسب وجهة النظر هذه، هو راحة الجاني، أما المجني عليه فقد مات ودفن، ولن يعيده إعدام قاتله إلى الحياة، وأما ذووه فما عليهم سوى الصبر والنسيان والسير قدما في حياتهم ..فأي منطق هذا؟ ثاني هذه العناصر، يتمثل في أن الذين يحاولون "عولمة" كل شيء، يغيب عنهم أنه من المستحيل مصادرة حق الأمم والشعوب في الاختلاف، وفي التوافق على الأسلوب الأمثل لحماية أرواح الأفراد والجماعات، وأنه لا توجد قوة على وجه الأرض يمكن أن تفرض على جماعة بشرية في إفريقيا مثلا أو في أي مكان ما من هذا العالم أن تنظم العلاقات بين أفرادها بالطريقة نفسها التي ارتضاها الفرنسيون أو السويسريون أو السويديون أو غيرهم، لأن في ذلك مصادرة على حق أساسي من حقوق الإنسان ألا وهو الحق في الاختلاف. العنصر الثالث، يمكن استشفافه من الطريقة التي يتحدث بها بعض المدافعين عن إلغاء عقوبة الإعدام، وهي طريقة فيها غير قليل من الاستعلاء، حيث يطلق بعضهم أحكاما دون احترام ذكاء المتلقي. فعندما يقول أحدهم إن الإحصاءات تؤكد أن الدول التي تطبق عقوبة الإعدام تعرف جرائم أكثر من تلك التي لا تطبقها، دون ان يحيل على مصدر معلوم، فهو يعتبر نفسه في حل من احترام الحد الأدنى من شروط البحث العلمي التي تتطلب التوثيق الدقيق لأية معلومة وليس إطلاق الكلام على عواهنه..(بورندي ألغت الإعدام سنة 2009، ويبلغ عدد سكانها حوالي 9 ملايين نسمة، وسجلت 1726 في سنة واحدة، أما الهندوراس التي لا يتعدى سكانها 8 ملايين فقد سجلت أعلى معدل على مستوى العالم ب 7104 جرائم، بينما السعودية التي يتعدى تعدادها السكاني 30 مليونا وتطبق عقوبة الإعدام لم يتجاوز عدد جرائم القتل فيها 265 دون إغفال توفر إمكانية العفو أو الحصول على الدية بدل القصاص من الجاني، وهذه الأرقام هي من آخر إحصاء لمكتب الأممالمتحدة المعني بالمخدرات والجريمة). ونفس الشيء يمكن أن يقال عن تعليق أحد هؤلاء على حكم الإعدام الصادر في حق سفاح تارودانت، وتأكيده بأنه لن يغير من الأمر شيئا لأن المسألة بالنسبة إليه مسألة "مبدإ"، فكيف يمكن قياس هذا الكلام على الصورة التي نقلتها وسائل الإعلام المحلية من داخل قاعة المحكمة حيث هللت أسرة الضحية وتعالت زغاريدها بعد النطق بالحكم؟ بل كيف يمكن الثبات على هذا "المبدإ" بعد انكشاف جريمة القتل المسبوق بالاغتصاب التي أقر بها المحكوم عليه لاحقا وقد تليها أخريات؟ وبأي حق ينصب البعض نفسه في موقع متقدم حتى على أولياء الدم أنفسهم؟ العنصر الرابع يتمثل في أن أغلب الدول التي ألغت العمل بعقوبة الإعدام، فعلت ذلك بناء على آليات ديموقراطية من قبيل الاستفتاء مثلا، فهل يقبل المطالبون بإلغاء هذه العقوبة عندنا بالاحتكام إلى الشعب في هذا الباب؟ أغلب الظن أنهم لن يقبلوا، لأنهم ينتمون إلى المدرسة التي تفضل ممارسة الوصاية على الشعب، وتنصب نفسها دون أي مسوغ شرعي أو قانوني، في موقع الأدرى والأعلم بمصلحة المواطن من نفسه، علما أن نبرة الاستعلاء التي تسجل لدى كثير من "الحقوقيين" تؤكد فعلا حجم العزلة التي يعانون منها، وإن كنت لا أدري كيف يقدمون أنفسهم لمخاطبيهم الأجانب على مستوى القاعدة الشعبية الداعمة، حين يتنقلون في المحافل الدولية للتسويق لوجهات نظرهم، أم أنهم يرددون أمامهم قول المتنبي: أنَا في أُمّةٍ تَدارَكَهَا اللّ ** هُ غَريبٌ كصَالِحٍ في ثَمودِ العنصر الخامس والأخير الذي يبغي التوقف عنده، يتمثل في التساؤل عما إذا كان أصحاب "المبدإ" سيثبتون على مواقفهم في حالة ما إذا كان أحدهم أب، أو إحداهن أم الطفلة فاطمة الغندور مثلا؟ والجواب عن هذا السؤال له ارتباط بالجانب البشري الموضوعي طبعا، وليس بمنطق "التبرع من كيس الآخرين". وعطفا على هذا، كم تمنيت لو تطوع أحد لافتراض السيناريو التالي على ضيوف "مباشرة معكم" لسماع تعليقاتهم: فلنتصور أننا أمام حالة احتجاز رهائن في مكان حصين..مجرم خطير يحتجز طفلة ويسعى لاغتصابها قبل قتلها أو إرهابي يحتجز ضحية بغض النظر عن عمرها وجنسها وانتمائها الطبقي والإيديولوجي ويهدد بتصفيتها..وتحضر الأجهزة الأمنية المختصة فتجد نفسها أمام خيارين : إما قتل المجرم برصاصة قناص، أو ترك الضحية تواجه مصيرها (القتل حتما) ثم بعد ذلك محاكمة الجاني بتهمة القتل مع سبق الإصرار. في جميع الدول التي ألغت عقوبة الإعدام الأمر محسوم وهو تصفية الجاني وإنقاذ الضحية.. بلا كلام (دون التوقف مثلا عند قضية محمد مراح الفرنسي من أصل جزائري الذي تمت تصفيته بدم بارد لأهداف سياسية وانتخابية، تفاديا لمحاكمته بتهمة قتل ثلاثة جنود وحاخام وثلاثة أطفال).. لكن في المغرب هناك جوابان محتملان.. فأصحاب "المبدإ" إياه سيفضلون ربما إعطاء الجاني حقه في محاكمة عادلة بعد أن يمنح الوقت الكافي لارتكاب جريمته، لأنه ما لم يقتل ضحيته فهو في وضع "المتهم البريء حتى تثبت إدانته"، فضلا عن أن النص القانوني ليس له بعد ديني أو أخلاقي حتى يعاقب على "النوايا" مهما كانت سيئة...وهذه تخريجة ينبغي إسناد الرأي فيها للأطباء النفسيين.. وربما هناك من سيستسلم للأمر الواقع، فيرى أن إنقاذ روح بريئة أولى من التفكير في مصير مجرم أو إرهابي، وهنا سنكون أمام حكم إعدام لم تسبقه محاكمة عادلة، بل ارتكز فقط على أدلة ظرفية يصعب التحقق من مصداقيتها..بل قد يتضح أن المجرم أو الإرهابي كان يهدد فقط ولم يكن يملك لا القدرة ولا الجرأة على تنفيذ تهديده. إن هذه الأفكار المختصرة، تكشف حجم تهافت المطالبين بإلغاء عقوبة الإعدام، الذين يفتعلون نقاشات جانبية واهية بدل توجيه الجهود نحو الإشكاليات الحقيقية التي تعيق تطور المغرب والتحاقه بركب الديموقراطيات الحقيقية.. فمستقبل 35 مليون إنسان يتطلعون إلى حد أدنى من الكرامة وشروط العيش الكريم أهم بكثير من مصير 114 مجرما أعطى كل منهم نفسه سلطة إزهاق روح أو أرواح بريئة.. خاصة حين نعلم أن يد الدولة المغربية أصيبت بالشلل الرعاش ولم تعد قادرة على تنفيذ عقوبة الإعدام.. http://facebook.com/my.bahtat