إن الاحساس والتذكير المفرط بقضية السن تختلف حسب ثقافات الشعوب أو المجتمعات، فالسؤال عن العمر أو السن قد يكون إشارة مؤرقةً ومحرجة بالنسبة للبعض خاصة في بعض المواطن والمواقف، غير أن ذلك قد يكون أمراً عاديا بالنسبة لآخرين. وربما يكون الأمر مقلقاً أكثر عندما يتعلق الأمر بمجال المعرفة وطلب العلم، خاصة عندما يحاول أحد ما منعك أو حرمانك من متابعة دراستك أو مزاولة مهنة التعليم وأنت في حاجة ماسة لكسب قوتك اليومي. فقد يرى البعض أن طلب العلم وزيادة المعرفة وكذلك مزاولة مهنة التدريس لا يحدهما زمن ولا يقف في وجه طلب العلم ولا مزاولة مهنة التعليم التقدم في السن ولا الحدود الجغرافية كما كان الحال في الحضارات السابقة والحضارة الإسلامية خصوصاً. كما أن هناك فئات من مجتمعات مسلمة مختلفة ترى بأنه لا داعي للتركيز على سن التعلم إذا ما أخذنا بمقولة (ولا أريد أن أقول "حديث") "اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد" رغم أن معظم العلماء لا يجيزونه كحديث. فهذا الحديث لا يصح سندا، على حد رأي أحد العلماء، وهو من الأحاديث المشتهرة على ألسنة الناس، ومثله حديث "اطلبوا العلم ولو في الصين"، ونحوها، وقد أوردها العجلوني في كتابه "كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس". إلا أن معناه صحيح، وقد قال تعالى في محكم كتاب: { وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ {(النحل:78 ). فالإنسان يولد وهو لا يعلم شيئا، ثم لا يزال يتعلم حتى يوارى في رمسه. فهل هناك حقيقة سن محددة لولوج التعليم الأولي أو الروض كما يزعم البعض؟ أم أن الأمر يحتاج إلى مراجعة عميقة نظراً لما له من آثار على الصبية والآباء والأمهات أيضاً، وهل هناك سن محددة لممارسة مهنة التعليم؟ تلك أسئلة شائكة ومواضيع ملحة تحتاج للمزيد من التمحيص والتدقيق ولكن لا ريب إن تكلمنا عن ذلك ولو في عجالة. هل هناك سن محددة لولوج التعليم الأساسي أو روض الأطفال؟: مما لا شك فيه أن ازدياد عدد التلاميذ والطلبة وقلة الكوادر التدريسية المؤهلة للتعليم تعد من القضايا التي يعرفها القاصي والداني وهي ليست السبب الرئيس، كما يقول أحد الباحثين، في فشل التعليم بدليل أن المدارس الخصوصية تمتلك أحياناً بنية تحتية متكاملة وفضاء مدرسي عصري وجميل وأسطول متكامل للنقل المدرسي، ولكن مخرجات التعليم فيها لا تختلف كثيرا عن المدارس الحكومية، فكلاهما يخرج لنا تلاميذ همهم الوحيد وغايتهم هي اجتياز الاختبارات النهائية ولذلك تجدهم في غالب الأحيان (كما يقول الكاتب) يرددون ما يمليه عليهم المعلمون حفظا عن ظهر قلب. وإلى عهد قريب، كانت المدارس الخصوصية هي التي تكرس جهداً كبيراً لاستقطاب أكبر عدد ممكن من الأطفال في صفوف التعليم الأساسي أو الروض، غير أن ذلك لم يصبح مقتصراً عليها بعدما أصبح التعليم الأساسي أحد مهام المدارس العمومية أيضاً. ومما لا شك فيه أيضاً أن دوافع العمل وما آلت إليه مآرب الرأسمالية المتوحشة، أضف إلى ذلك التحول الكبير في العلاقات الأسرية والاجتماعية، أصبح الآباء والأمهات أمام حل وحيد ألا وهو الزج بالصبي في سن جد مبكرة لكي يلتحق بالروض ويعيش لساعات طويلة جدا بين جذران بيت غريب وتحت رحمة مربين ومربيات غرباء، بذلا من أن يعيش في دفء وأمن وأمان بين أحضان أمه وعائلته ودويه. وإلى عهد غير بعيد، كانت الجدة أو الخالة أو العمة أو الأخت هي من تتولى رعاية الصبي إن كانا والديه مجبران على الالتحاق بالعمل، غير أن تلك الظاهرة بدأت حتى هي بدورها تخفت تحت ذرائع وأسباب شتى. وقد كان للمسيد أو "الكُتّاب القرآني" دوراً كبيراً في ضم الصبية وهم حديثي السن (ربما بعد السنة الثالثة أو الرابعة من عمرهم)، وربما كان هو المكان الأنسب لا من ناحية المنهج أو حتى من باب الجدول الزمني، حيث كان يركز بالدرجة الأولى على مهارتي الكتابة والقراءة مع الحفظ. وبالاضافة إلى ذلك فقد كان الجدول الزمني للحصص لا يتجاوز بضع ساعات في الصباح أو المساء أو كلاهما في بعض الأحيان مع ترك وقت جد كافي للعب والمرح والاستمتاع بجمال الطفولة وعفويتها. كما أن الدراسات أثبتت بأن من مروا بفترة الدراسة في الكتاب القرآني أبانوا عن تفوق ومهارات جد عالية ومميزة في المراحل المتقدمة من دراستهم. ويرى جل الباحثين بأن سن الالتحاق بالروض يجب أن لا تكون في سن جد مبكرة لأن ذلك يحرم الصبي من أشياء كثيرة تتعلق بنموه الفكري والجسماني والعاطفي. وإذا كان ذلك "شر" لابد منه، فعلى الآباء والأمهات أن يخصصوا وقتاً كافياً للجلوس مع الطفل وتحسيسه بوجودهم قربه وأن لا يحرموه من تلك العلاقة الفطرية والوجدان الأبوي وحنان الأم الفطري اتجاهه،وأن يُترك له الوقت الكافي كي يلعب ويمرح ويكتسب مهارات طبيعية من خلال تجاربه واكتشافاته الشخصية. ومن المخاطر التي يمكن مصادفتها عند الاعتماد الكلي على ما يقوم به الروض من تربية وتعليم هو عدم وجود مربين ومربيات متخصصون في علوم التربية لدى الأطفال ولهم دراية بطرق التعليم والتعلم ولديهم مهارات كافية في هذا المجال، مما يربك عملية اكتساب المعرفة والسلوك السوي لدى العديد من الأطفال. فالطفل أو العقل كما يصفه جون ستيوارت مل : "يولد كصفحة بيضاء، تأتى التجربة لتنقش عليها ما تشاء"، ولذلك يجب الانتباه والحذر مما يُبث في المناهج الموجهة للأطفال وخاصة في تلك السن المبكرة لأن عقولهم مثل الصفحة البيضاء تستدعي كل الحذر مما يطرح أمامها وحولها. ومما لا شك فيه أن كل طفل هو في حد ذاته فريد ومختلف عندما يتعلق الأمر بقدراته على التكيف مع البيئة الاجتماعية التي تحيط به. هذا هو بالضبط ما يجب أن نفكر فيه قبل تسجيل أطفالنا للالتحاق بالمدرسة أو الروض! كما يجب أن نتساءل عن أفضل سن لبدء رياض الأطفال، فقد توصلنا تلك التسائلات إلى بعض النقاط التي يجب مراعاتها قبل اتخاذ القرار!... وللإشارة، تبدأ معظم دور الحضانة في الولاياتالمتحدةالأمريكية على سبيل المثال في قبول الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 2.5 و 3 سنوات. ويرى الباحثون هناك أن موضوع الاستعداد لمرحلة ما قبل المدرسة يعتمد حقًا على عوامل النمو أكثر من العمر الزمني للطفل ذلك أن كل طفل يختلف عن الآخر في مجال اكتساب المهارات. وتشير معظم الدراسات إلى أن الآباء والأمهات عليهم مراعاة عدة أشياء قبل اتخاذ قرار ارسال طفلهم إلى الروض ومنها على سبيل المثال لا الحصر: قلق الانفصال عن الأبوين لساعات طويلة ومدى تحمل الطفل لذلك؛ هل لدى الطفل رغبة في التنمية ألاجتماعية، أي الرغبة في اللعب مع الآخرين والانخراط في الأنشطة؟؛ هل لدى الطفل تدريب مسبق على استخدام الحمام كي لا يتعب الآخرين؟؛ التنمية الجسدية: هل لديه المهارات الحركية الدقيقة للتعامل مع مواد الفصل، أو المهارات الحركية الإجمالية للتعامل مع معدات الملعب؟؛ مهارات التواصل: هل لدى الطفل أي مشكلة في السمع والبصر وتبقي الاشارات كي يتواصل مع الآخرين؟؛ الحد الأدنى: هنالك متطلبات تعتبر الحد الأدنى لقبول الطفل في الروض فيجب مراعاة ذلك وإتباع نصيحة مسيري تلك المؤسسة أو الطبيب الخاص. ولكي تكون هذه تجربة إيجابية للجميع، فإنه إذا لم يكن طفلك البالغ من العمر أكثر من عامين أو ثلاثة أعوام جاهزًا تمامًا، فلا ضرر من الانتظار حتى يكبر (حتى 4 سنوات أو ما فوق) لبدء دخوله إلى المدرسة التمهيدية. إذا كنت تعتقد أن الطفل على وشك الاستعداد، ففكر في تسجيله في برنامج بدوام جزئي، ولا تنسى فرصة تسجيله بالكتاب القرآني، فقط تأكد من أنه لا يقل عن 3 أيام في الأسبوع حتى يكتسب حقًا إحساسًا بالروتين والتعود على الجدول الزمني الذي تضيفه المؤسسة أو الكتاب إلى حياته. هناك العديد من العوامل الأخرى التي يجب مراعاتها، بالطبع، مثل كيفية تعامل طفلك مع المواقف الجديدة، هل يتعامل مع التحفيز جيدًا، هل يحب التواجد مع أطفال آخرين؟ والقائمة تطول. ولكن إذا بدأت بالإطلاع على هذه المؤشرات الأولى ، فستتمكن على أفضل وجه من تقييم ما إذا كان طفلك مستعدًا للانضمام إلى المغامرات الكبرى. هل هناك سن محددة لولوج مهنة التدريس؟: كثيرا ما تتضارب الآراء حول السن التي تسمح للفرد مزاولة مهنة التدريس، ومن أجل ذلك شهدنا مؤخرا حراكاً وجدلا واسعاً حول قضية تسقيف سن التدريس وجعله لا يتجاوز الثلاثين مما أثار استغراب الجميع!. ومن الملاحظ أن مشروع إصلاح منظومة التربية والتعليم خضع مند عقود مضت لنظريات وقواعد وأعراف سائدة تم تطويعها لتتناسب مع البيئة المحلية المغربية، ونظريات وقواعد قديمة تمتد جذورها حتى ما قبل الحقبة الاستعمارية، وأخرى معاصرة تؤسس وتؤطر العملية التربوية والتعليمية في هذا البلد وتتعلق بمعالجة مسارات وقوانين التربية والتعليم وطرق التدريس والتخطيط لبناء مقررات ومناهج تعليمية صحيحة وسليمة من كل الشوائب الفكرية الدخيلة وتواكب التطور وتبني أجيالاً مسلحة بالمعرفة الكافية والمهارات (Skills) والكفايات (Competencies) اللازمة والمطلوبة في سوق العمل. ولا يسمح المجال هنا كي نخوض في سرد كل تلك النظريات والقواعد لأن معظمها ينصب في الجانب النظري البحت ويعالج في أغلب الأحيان العموميات غير مراع للاختلافات الثقافية وحتى العرقية والجغرافية فضلا عن الفروق الفردية. وفي خضم كل تلك الإصلاحات، يرى البعض أن مهنة التدريس تتطلب المهارة والخبرة أيضاً، ولا ريب في أن يمارس تلك المهنة من دخل في العقد الثاني أو الثالث من عمره. فالرزانة والحنطة والحكمة تزداد مع تطور العمر. وبالنظر إلى عدد المعطلين عن العمل، وخاصة من حاملي الشهادات، تبدو مشكلة تسقيف سن الولوج إلى مهنة التعليم أو التدريس ستقف عائقاً في وجه الكثير من الشباب الذين يطمحون إلى بناء مستقبل وأسرة. ومما لا شك فيه أن المهتمين بقطاع التربية والتعليم لا زالوا يطمحون إلى مشروع إصلاح جذري وفعال ينهض بهذه المنظومة ويعيد للمعلم مكانته في المجتمع، ويرفع من مردودية المدرسة العمومية كي تقوم بالدور المنوط بها، ألا وهو إعداد الفرد الصالح والمساهمة في بناء مغرب الغد الطموح، مغرب الحداثة مع المحافظة على ثوابت الأمة وعقيدتها وتراث الأجداد المشرق المجيد ... والله ولي التوفيق،،،