بعد مرور سنتين على ما بات يعرف بالجائحة، يبقى دائما السؤال المطروح منصبا تحديدا حول الهوية الأصيلة لهذا الجبار المهول المسمى كورونا، فهل يتعلق الأمر ب: حلم، كابوس، حقيقة، تدبير مقصود، زلة، سياق فعلي، دسيسة، علم، ميتافيزيقا، إيديولوجية، حرب عالمية، نظام جديد، بداية، نهاية، نعمة، نقمة، قطيعة، استمرارية، خطوة، وثبة، أفق، عَدَم، ثورة، تراجع، قيامة، إلخ؟ قد يكون هذا ال"كورونا" أيَّ واحدة من تلك النعوت والأحوال، وقد يعكسها جميعا، مثلما أيضا ربما لا علاقة له بها، مادام سؤال الهوية يظل عويص الإشكالية حتى بخصوص المعطيات البسيطة، فما بال المرء بزلزال يذكر الإنسانية بواقعة قيامة العالم بمفهومها الديني. بعد تراكمات كل هذه الشهور، تبقى أقرب حقيقة لموضعة وتعيين هذا المتبلور/المتحور زئبقيا المشهور منذئذ أساسا بكورونا، كوفيد، الفيروس التاجي، أنه مفهوم غير قابل قط للتحديد والتأطير أو التكثيف الدلالي. مع ذلك، في خضم هذا الإبهام الهوياتي المتزايد، أسمح لنفسي افتراضا، بناء على قاعدة الزواج الجنسي المتباين، الذي شَكَّل أصلا طبيعيا لبناء الكون من خلال البنية العضوية لثنائية ذكر/أنثى. من ثمة، لن يخرج بدوره تحقق كورونا عن هذا المقوِّم البيولوجي ثنائي المنحى. إما الوباء ذكرا، بالتالي تكمن الغلبة في تبلور سيرورته للسمات الذكورية. مثلما قد يكون أنثى، فتأخذ حياته طبعا وجهة مغايرة للإمكان الأول. أيضا، لا يمكننا هنا إغفال حقيقة مهمة تتمثل في ضرورة التغاضي عن المصدرين المعلومين، واستلهام احتمال ثالث يستدعي أحقية فرضية الأسطورة الإغريقية هيرمافروديت (الخنثى)، أي كائنا جنسيا واحدا مندمجا كليا عبر تبايناته الذكورية والأنثوية ضمن بوتقة هوية واحدة مكتفية بنفسها عن باقي العالم. إجمالا، يبدو واضحا من خلال أدبيات وحوليات تراكمات الوباء أن الخلاف التأويلي بخصوص حسم نوعية جنسه، يظل إشكالا قائما بحدة، لأن التوافق النهائي بهذا الخصوص يمثل في نهاية المطاف مدخلا استراتيجيا لا غنى عنه قصد تفعيل آليات المواجهة. ربما تحدَّث عفويا أصحاب النزعة الذكورية عن كورونا ببلاغة تستحضر الواقعة والحالة، وفق صيغة لغوية تنطوي ضمنيا على القوة والبأس والشدة والفخامة والتعظيم، فنعتوا الوباء ب: الإمبراطور الكوني صاحب إكليل التاج، القائد الأوحد، الثوري العظيم...، أو شبهوا ضمن السياق ذاته فظاعة جبروته واكتساحه الشرير للعالم بالغستابو النازي، البوليس السياسي الهتلري، الذي أفزع وأرهب الجحيم نفسه. في المقابل، يشعرك المنحازون أكثر نحو تغليب الجانب الأنثوي برغبتهم الدفينة للرهان على المجال الإكلينيكي، دون غيره من التأويلات الأخرى كما فعل الفريق الأول، وتداولهم بنبرة تضمر اللطف ثم إمكانية الاستئناس بكيفية ما، مع معطيات حالة الشر القائمة. وضع يقتضي ضرورة انتقاء قاموس أنثوي في غاية المداعبة والملاطفة حين مخاطبة المرأة المهولة التي أمسكت برقاب البشرية، فشرعت تُقلِّبها يمنة ويسرة كيفما شاءت، حسب مزاجها وحركية هرموناتها. ألقاب المرأة الأولى في العالم يلزمها مراعاة حدود أدب جمٍّ، من قبيل: السيدة كورونا، الرائعة كورونا، سيدتي كورونا، مولاتي كورنا، العظيمة كورونا، مع تهنئتها بمناسبة إنجابها لكل مولود جديد اتقاء لشرها. من جهة أخرى، كيفما جاءت هوية جنس كورونا، ذكرا أم أنثى، فالقضية الأخرى التي أوضحت بجلاء عن معالمها تشير إلى كائن تميزه خصوبة الولادة، بحيث أنجب إلى غاية الآن أربعة أبناء أو بنات، هم أو هنَّ: دلتا، مو، هيهي، أوميكرون. ومازال الخير أمامنا. السلالة دؤوبة لا محالة تبعا لمآرب وحاجات في نفس يعقوب-حرب مصالح اللوبيات الدولية في صيغة جشعها الإمبريالي المتوحش-لا يدرك مآل قصدها إلى غاية اللحظة سوى يعقوب نفسه، مادامت الأمور صارت أشبه بسيرة حياتية يرويها أحمق، يكابد حالة سيكوباتية لا علاج منها. تكشف بجلاء سلالة هذه الذرية العجيبة ما شاء الله (حسب تعبير الإخوان المصريين) عن ترسخ روابط غرامية حميمة بين طرفي زواج ثنائي، جمع بين الوباء (أمّ/أب) (معلوم حاليا)، وفاعل ثان قد يبدو مجهول المبنى والمعنى (غير معروف عينيا). هكذا، يبدو الوباء وأبناؤه وأحفاده القادمون، مجرد شرذمة عائلة من اللقطاء اللاشرعيين قياسا للخريطة الجينية للعالم الحالي. لكن واقع الحال ليس بهذه البراءة والسذاجة، لأن المعطيات تنمّ حقيقة عن زواج رسمي وموثق لانصهار واع مع سبق الإصرار والترصد، انبثق من رحم جشع مؤسسات الليبرالية بروافدها الاقتصادية والسياسية والمجتمعية، حينما عملت بكل ما تملك من شر ودناءة على تقويض ماهية الإنسان، وأطلقت العنان لأسباب التدمير والقتل، متوارية بجبن خلف يافطة الرخاء والرفاهية، فمن عوالم الديجيتال إلى انهيار الغلاف الجوي والمناخي مرورا بالأتمتة، الروبوتات، الذكاء الاصطناعي، تفاهة المنظومة التكنوقراطية، البروباغندا التوتاليتارية المسعورة، الدولة الحاضنة المجنونة، وصولا إلى نعرات النزعات القومية المتطرفة، الإرهاب، العنف، التهجين الغذائي، التعديل الوراثي، الدعارة الراقية، الفساد المالي، تسيُّد التروستات والمافيات واللوبيات والسيكوباتية والتِّيه والاضطرابات النفسية المتحورة وانهيار القيم الإنسانية... إنه تحلّل جثة العالم: "توشك الرأسمالية على الانتحار، مهددة بأخذنا معها. هل سيكون ما بعدها يوتوبيا اشتراكية عظيمة أم بداية عصر مظلم جديد؟ الأسوأ لم يأت بعد الاحتمالية الحتمية بأن ما من أية نهضة تحررية ستأتي من نسل الرأسمالية النيوليبرالية، بل إن ما سيأتي هو عالم أسوأ بكثير، إلا إذا حدثت معجزة تعتمد على مدى وعينا بما يحدث حولنا. يعلم هذا المديرون التنفيذيون الأثرياء الذين تجهزوا له بشراء المنتجعات والملاجئ المعزولة الآمنة في نيوزيلندا. يعلمه أيضا السياسيون، الذين بدورهم تجهزوا له بتحويل الدول إلى آلات حرب مستعدة للعمل. أما العلماء فهم إما يصرخون بخطورة الكارثة البيئية المقبلة، أو ينتهزون الفرصة لإجراء تجارب متهورة. والمملكة الحيوانية تتقهقر إلى الخلف في صمت مرعب ومريب. ربما لم نبلغ الحضيض بعد، بل على شفا أمر أسوأ. ولربما كانت فرصتنا في النجاة ضئيلة جدا، لكن لايزال هناك احتمال أن ينجو أحفادنا من تبعات الرأسمالية، فقط إن وضعنا نصب أعيننا صورة واقعية لطبيعة الكابوس القادم" (بيتر فليمنغ: الأسوأ لم يأت بعد، دليل ما بعد رأسمالي للنجاة، ترجمة محمد أ.جمال. 2020. منشورات تكوين).