عذرا يا من يقرأ ما كتبه علماء المسلمين عن موضوع التشويق إلى البيت العتيق، إني لست منه منفرا. ومهلا يا من يخال أني مجار من يحث في مواعظه الحجاج على الصبر، وتحمل ما يعده لهم من محن بسبب عجزه عن تدبير رحلة قصده منها العير لا النفير، والغنم لا الغرم...إنما أنقل الوقائع، ليُتَدارك الأمر فقد اتسع الرقع على الراقع... لعل كتب الفقه تعج بما يفي بالغرض ليعلم الحاج كيف يؤدي مناسكه على الوجه المطلوب، لكن موضوع الحج في عصرنا في أمس الحاجة إلى دراسات أنتروبولوجية وسوسيولوجية واقتصادية وسياسية وأخلاقية وبيئية وصحية ونفسية... تستفيد منها الأمة الإسلامية ربطا لهذه الشعيرة الدينية بمقاصد الإسلام الكبرى، ويستفيد منها الحاج المسلم في دينه ودنياه، مغتنما ما سخره الله لعباده في هذا الزمان من وسائل الراحة والتنعم، ليعيش أويقات سعادة الدين والدنيا في كنف "فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف". في إحدى ليالي ذي الحجة من العام المنصرم (1434 هجرية)، على سطح المسجد الحرام، وضيوف الرحمان يتأهبون للذهاب إلى منى يوم التروية، دنوت من مجموعة من الحجاج المغاربة، يحدثهم واحد منهم، يبدو أنه حج من قبل وله دراية بأمور الحج. فسمعته ينصحهم بما ينبغي فعله بمنى للذهاب إلى عرفة، وعند الرجوع من عرفة إلى المزدلفة، ويوم العيد وأيام التشريق. فكرر غير ما مرة: وإذا حان الموعد، وتأخرت وسائل النقل، فإنكم لن تجدوا بجواركم محاورا ولا مخاطبا من البعثة المغربية، ولا مسؤولا مغربيا عن وفد الحجاج يحل مشكلتكم. بل إنهم يختفون عن الأنظار حينها. فعليكم عندئذ بالاعتماد بعد الله على أنفسكم. توجهوا صوب أهم وأقرب طريق فأوقفوا به حركة المرور، وامنعوا جميع وسائل النقل من التحرك ذهابا أو إيابا عبره، إلا سيارة الإسعاف أو رجال المطافئ. فحينها ستتحرك السلطات السعودية لتجد لكم حلا، لأنها تسلمت أجرا مقابل توفير وسائل النقل في كل مراحل المناسك. تلك هي الموعظة النظرية، أما تطبيقها العملي فسمعت عضوا من البعثة المغربية المكلفة "بخدمة" الحجاج يقول لصاحبه وهما يربطان الراية المغربية على خيام الحجاج المغاربة بمنى: احزمها بالأسلاك جيدا، وإلا فستستعمل لقطع الطريق أثناء الاحتجاجات. الكل يعلم إذن أن ثمة دواعي للاحتجاج. فهل يحتج جميع الحجاج؟ وهل تحول الحج إلى احتجاج؟ هل يحتج الأندونيسيون وهم أكثر عددا من المغاربة بأضعاف مضاعفة؟ هل يحتج الأتراك والإيرانيون والماليزيون؟ هل يحتج الأفارقة؟ لم أر ذلك ولم أسمع به وقد يحدث ولا علم لي به...كنت في منى بمخيم طبقي، به خيمة كتب عليها "خاص بوزارة الخارجية" وأخرى عليها "الوفد العسكري" كانت الوجبات تأتي القوم في أوقاتها، ولم يكن لديهم زحام ولا اكتظاظ كما عليه الحال في بقية خيام الشعب. ثم جاء أهل السودان فسكنوا في نصف المخيم، ثم جاءت وفود من الحجاج المغاربة أصحاب تأشيرات المجاملة غير المحصيين ضمن الوفد الرسمي، ثم دخل المخيم حجاج آخرون من بلدان أخرى (حجاج لبوا نداء سيدنا ابراهيم عليه السلام، بلا تأشيرة سعودية). فتأزمت الوضعية ونام الناس بجوار المراحيض وفي الممرات، وبدأ التوتر وانشغل الناس بمأساوية الظروف أكثر من انشغالهم بالذكر والعبادة. وغابت البعثة المغربية عن الأنظار... ولما بلغ السيل الزبى، نزل المتضررون إلى الشارع فأوقفوا به حركة المرور مستعملين شريطا أحمر من الثوب تتوسطه نجمات خماسية، إنها الراية المغربية، ربما نزعوها من المخيم رغم الأسلاك والعقد المحكمة التي ربطت بها، وقد يكون بعضهم مجهزا بكل ما يحتاجه الحاج للاحتجاج من لافتات ومصورات ومكبرات صوت...إنه "زاد الحجاج عند ضرورات الاحتجاج"...جاءت السلطات السعودية في وقت متأخر من الليل، فأدخلت قواتها العمومية إلى المخيم، وأخرجت منه الوفود الطبقية، وأدخل المحتجون. ما ضاع حق من ورائه حاج محتج. وبعد لحظات خرج الشريط المصور على مواقع التواصل الاجتماعي على الشبكة العنكبوتية: حجاج مغاربة محرمون ملبون محتجون على الطبقية واحتلال المخيم. أخلد المحتجون إلى النوم لحظة استراحة المحارب للظلم والحيف، أما الذين حكم عليهم "بالإفراغ"، فمجرد حكمة تدبير الأزمة. لقد كانوا أول من التحق قبل الزحام بعرفة. واختاروا كعادتهم أفضل مكان، وكانت أقواتهم تأتيهم رغدا في مواعيدها. ولما انفرجت الكربة وبدأ الرحيل إلى عرفة، ظهر بعض المكلفين ب"التنظيم" من أعضاء البعثة المغربية ليخبروا الحجاج بالاستعداد للرحيل. متى؟ وكيف؟ لا جواب. المهم هو الاستعداد، والجواب الصحيح ما سترى من هول المشهد حين تقف الحافلة الأولى بباب المخيم، فيتسابق الأقوياء للركوب على متنها، مخلفين وراءهم ضحايا التدافع والازدحام من الشيوخ والعجزة، غير مبالين بما يسمعون من صيحات، وانتقادات، ومناشدات...." الأسبقية للمسنين والنساء والمرضى والعجزة يا حجاج.." ولسان حالهم يجيب "الأسبقية لمن سبق، والأولوية لمن تسلق والتصق" "سابقوا، سارعوا...." انطلقت الحافلة الأولى، والتحق بمئات المنتظرين من أيقظه ضجيج التدافع على الحافلة الأولى، وظل المشهد يتكرر عند وصول كل حافلة من تلك الحافلات المهترئة، التي تذكر المغاربة بمحطة "كراج علال" و"ابن جدية" أيام زمان. أثارني مشهد أحد الحجاج يرافق أمه المقعدة المسنة وهي على العربة، يحاول عبثا أن يقحمها وسط الزحام عله يجد مساعدة لحملها لتركب، لكن دون جدوى. وفي باب الجزء الذي أقام به حجاج السودان حافلة جيدة فارغة تنتظر حجاجا يأتون فرادى أو مثنى وثلاثا في سكينة ووقار. فسألت أحد المسؤولين السودانيين إن أمكن أن تركب معهم هذه المرأة العجوز وابنها، فقبل الطلب مرحبا مبتسما، وقال "إننا ننتظر حجاجا قالوا إنهم لن يغادروا منى قبل طلوع الشمس كما ورد في السنة النبوية، ومعنا وزير الأوقاف والإرشاد السوداني، بدوره قال إنه لن يغادر المخيم حتى يركب آخر حاج سوداني ليطمئن على وصول كل الحجاج السودانيين إلى عرفة. حينها تذكرت الحاج نبيل، وهواتف المسؤولين عن البعثة المغربية حيث تجيبك سيدة مؤدبة بعد الترحيب "يتعذر الاتصال بمخاطبكم الآن، الرجاء إعادة النداء لاحقا"، وتذكرت حجاجا مغاربة في سنوات خلت لم يتمكنوا من الوصول إلى عرفة. فسألت المسؤول السوداني كم يدفع حجاج السودان مقابل هذه العناية، حيث المسؤولون الكبار في الدولة معهم في الميدان؟ فإذا بالثمن أقل مما يدفع المغاربة وهم أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام...قال لي أحد من حاورتهم في الموضوع بأن السر في البعد الجغرافي، فتذكرة الطائرة من الخرطوم إلى جدة أقل ثمنا. قلت له بل في النهب الجزافي. ما بال التذكرة من فرنسا ومن بريطانيا أيضا أقل ثمنا؟ .....وصلنا إلى عرفة، ولكل قصته، ومنا من كتم قصصه. منا من جاء به سائق مصري مبتدإ غير مستوعب لخريطة عرفة، وظل يحوم بالحافلة حول مخيمنا أزيد من أربع ساعات، ولما كل السائق فر، وترك الحجاج والحافلة. مع كل هذا لم ينس الحجاج الدعاء بما في ذلك الدعاء على الظالمين وناهبي المال العام والخاص، والدجالين، والنصابين، والمحتالين...وأفضل الدعاء دعاء عرفة. وكلما دعا أحد الحجاج بصوت مرتفع التف حوله الآخرون يؤمنون، فإذا انتهى عاد كل منهم إلى مذكراته وتسجيلاته الصوتية، بما في ذلك أدعية الشيعة الأكثر تأثيرا من التسجيلات الإليكترونية لموظفي وزارة الأوقاف، التي تحاول أن تعلم الحاج الأمي الدعاء بخمس لغات في خمس دقائق بدون معلم، الطبيعة تخشى الفراغ. أما البعثة فاستفادت من دروس منى، وكلفت من يقف بباب المخيم لمنع الدخلاء من الدخول. وأما المرشدون والمرشدات فرأيناهم دخلوا تلك الخيام الخاصة ودعوا مع أهلها، وربما وجهوا لهم توجيهات خاصة للانسحاب بهدوء إلى أماكن تنتظرهم فيها حافلات لا صخب فيها ولا ضجر(الحيلة احسن من العار). وما أن غربت الشمس، وجاءت الحافلة الأولى حتى تجدد مشهد التدافع والازدحام بشدة غير مسبوقة بين حجاج الشعب وشعب الحجاج. فأما الأقوياء كعادتهم فاستولوا واستوواعلى المقاعد، وأما الآخرون فكانوا لهم بالمرصاد(لا يلدغ الحاج من جحر مرتين)، حيث استولوا على الطريق، وتوقفت حركت المرور، وجيئ بالراية المغربية كالعادة، وبحبال الخيام لمنع أي كان من التحرك، وجيئ بالزرابي ليفترشها من لا يقو على الوقوف مع المحتجين، وتحركت آلات التصوير، وتحول الحجاج إلى مصورين وصحفيين، وبدأت التصريحات والشعارات والدعاء، والشبكة العنكبوتية المباركة تنقل مباشرة ما يفضح أكاذيب الإعلام الرسمي، وتكشف حقائق الظروف المزرية للحج الذي تؤطره وزارة الأوقاف المغربية. بدأ الأقوياء يتصببون عرقا داخل الحافلة المهترئة الممنوعة من التحرك، وانتهى الأمر ببعضهم إلى النزول للتضامن مع باقي الحجاج. مكره أخاك لا بطل، والمطلب: لا حركة حتى يأتي من الحافلات ما يكفي لسائر حجاج المخيم. بعد أربع ساعات من الانتظار جاء سرب من حافلات انتهت صلاحيتها منذ الحرب العالمية...وصعد الحجاج وتوقف الاحتجاج. وبدأ الموكب في الدفع صوب المزدلفة، فمن مناسك الحج صلاة المغرب والعشاء جمعا وقصرا بالمزدلفة والمبيث بها. لكن بطئ حركة المرور، ورداءة تنظيمها جعلت حجاجنا يقضون ليلتهم بتلك الحافلات فجلهم لم يصل المزدلفة قبل طلوع الشمس، وأتموا المسير راجلين صوب منى وتاه الآلاف منهم في الطريق، ولم يعرفوا كيف يلتحقون بخيامهم، ولم تكن لديهم خريطة المخيم. ومنهم من قضى يوم العيد بحثا عن الخيمة، ومنهم من قضاه بحثا عن مرافقين تائهين...لا تسأل في تلك الظروف عن المناسك وأنت ترى شيوخا وعجائز ضعافا أنهكتهم الحافلات المهترئة التي تتحرك بأقل من كيلومتر واحد في الساعة بدون مبالغة، ولهيب الشمس الحارقة بين المزدلفة ومنى، واستحالة العثور على الخيمة...فسلامة الأبدان والأرواح مقدمة في مقاصد الشريعة...ويسأل التائهون من حجاجنا وهم ينظرون إلى وفود الأتراك والماليزيين والإيرانيين يمرون منظمين زرافات ومواكب عليها هيبة ووقار: "أين البعثة؟" زمن البعثة قد مضى، والموعد مع البعثة يوم البعث...والسؤال ما البعثة يا أهل البعثة؟ ومن بعثها؟ ولم؟ وبم؟ وكيف؟ الله والبعثة أعلم.