يمكن القول بأن من المفارقات التي تطبع المشهد الأدبي العربي، وبالتحديد المغربي الذي يهمنا أساسا، كون معظم الأدباء عاشوا حياتهم أقرب إلى الفقراء، وانتهوا بعد الوفاة أغنياء؛ ذلك أن ما راهنوا عليه وهم يخوضون الممارسة الإبداعية، صناعة الاسم الرمزي الذي يفرض ذاته على مستوى الداخل والخارج. هذا الفرض حتم جرأة المغامرة كتابة وإبداعا، بعيدا عن أية اشتراطات قبلية، مع الإدراك التام بأن الوسط الذي يعيشون فيه لا يفسح إمكانات ثقافية تهب فرص الاختيار. وليس غريبا إن كانت أغلب هذه الأسماء فرضت قوة حضورها من الخارج، إذا ما ألمحنا لطبيعة التقليد الذي هيمن على ميدان النشر والتداول الثقافي داخليا. فقد يحدث أن تكون صيغة الكتابة مغايرة ليتحقق رفضها، وهو ما حدث للأستاذ عبد الله العروي الذي كان قدم نصه المسرحي، أو مثلما عنونه "حوار تلفزيوني"، وأقصد "رجل الذكرى"، لهيئة تحرير مجلة "دعوة الحق" التي رفضته تحت مبرر كونه يتسم بالغموض، وهو ما أكد عليه الأستاذ العروي في تقديمه لهذا النص الذي نشر مستقلا ب"المركز الثقافي العربي/ 2014′′، وكان ألحق من قبل برواية "الغربة" (1971)، مثلما نشر بمجلة "أقلام" المغربية في بداياتها. وكالتقليد، خاصة الإيديولوجيا التي تجعل مادة النص موسومة بالهتاف والتقريرية والاحتماء بأسماء تراثية كأقنعة ورموز يجدر الاقتداء بها، أو أن الرهان يتحقق على إنتاج لغة لا تقول سوى اللغة. على أن يفسر الرهان بالتفجير أو كتابة اللانص. واللافت أن الاستمرارية كأثر لم تظفر بها هذه النصوص التي لم تمثل التمثيل الحق الواقع الثقافي والأدبي بالمغرب، إذا ما نظر للوهم الذي أسست له، وهم سلطة الكتابة وكيف يجدر أن تكون، علما بأن أسماء نزعت هذا المنزع انتهت إلى الصمت وعدم القدرة على مواصلة فعل الكتابة والإبداع إذا ما أضيف فقر ثقافتها وعدم قدرتها على المواكبة. وتجسد هذه المفارقة في نمط العيش الذي خضع له هؤلاء الأدباء والكتاب؛ إذ لولا مرتبهم الذي يتقاضونه شهريا على هزالته، علما بأن أغلبهم من رجال التربية والتعليم، أو من معاشهم إذا ما أحيلوا على التقاعد، حتى إن بعض الأسر تفككت لعامل كون رب الأسرة "أدركته حرفة الأدب". بيد أن اللافت وهنا يكمن الوجه الآخر للمفارقة، أنه وبموت الكاتب، تسارع الأسرة عند نشر مؤلف له أو إعادة طبعه أو ترجمته إلى المطالبة بالحقوق المادية. ويكفي التمثيل بالراحل محمد شكري، حيث توزعت أكثر من دار نشر حقوق طبع مؤلفاته: (دار الساقي، دار الجمل، المركز الثقافي العربي والفنك). وهي وضعية محمد زفزاف رحمه الله الذي كانت دور ك "المركز الثقافي العربي" و"دار الثقافة"...، ترفض نشر إبداعه، وبخاصة بعد تصريحه الذائع "كل الناشرين لصوص" (نستحضر هنا الطبعة الرديئة الأولى من روايتيه: "الحي الخلفي" و"أفواه واسعة"). أما وروايته "محاولة عيش" تصبح مقررة على السنة التاسعة من التعليم الإعدادي، فسارعت أكثر من دار بحثا عن ورثته لإعادة طبعها، بل إن من هذه الدور التي جنحت لإعادة طبع آثاره متفرقة وكاملة (المركز الثقافي العربي ودار الثقافة والجمل ودار رؤية). ونجد أيضا من بين هؤلاء من لم يحظ بإعادة نشر تراثه لمشاكل عائلية كالراحل الشاعر عبد الله راجع. وبذلك، فإن المعاناة التي عاشها هؤلاء الأدباء والكتاب في حياتهم، تحولت إلى رغد عيش بالنسبة لورثتهم الذين يعتبرون على أهبة الاستعداد للتوقيع مع أي ناشر وأينما وجد. إن مطمح الأديب في حياته، وبالإضافة للرمزية، أن يعيش حياة يحس فيها بكرامته وإنسانيته وقدرته على المزيد من العطاء والتعبير عن واقع ينظر إليه في إخفاقاته وتراجعه.