«إذَا أُخذ بالحُسبان أنّ المكانة المركزيّة التي انتهت إلى تبوُّئها "التوراةُ" في اليهوديّة الحاخاميّة، حيث ﭐتَّخذت في بعض الأحيان طابعا إلاهيّا ليس بعيدا جدّا عن طابع الابن في التّقليد المسيحيّ، فإنّ الإسلام يُمثِّل، بالمُقارَنة معها، الصورة الأشدّ خُلُوصا من النّهج التوحيديّ. وليس مُصادَفةً أن يكون التّعبيرُ الأساسيُّ عن الإيمان، في هذا الدِّين، قائمًا في عقيدةِ وَحدانيّةِ اللّه وأَحديّته، التي تستبعد كل شكل من الوساطة بين اللّه والإنسان، بدءا بشخص المُرْسَل ذي الطابع البشريّ المحض. فالإسلام يُواصل نهجا توحيديّا جذريّا يقوم على إقصاء كل مذهب للأسباب الثّوَاني، من حيث إنّ اللّه يَفعل بقُدرته الكاملة مُباشَرةً وفي كل مكان: وأُمُّ الكبائر تتمثّل في أن يُشرَك به ما دُونه سواء أكان شيئا أمْ شخصا. وإنّ ربَّ العالَمين هذا قد تجلّى للنّاس كافّةً في رسالةٍ مُنْقِذة وخاصّة مُتضمّنة في القُرآن الذي هو وحيٌ قُدِّر له أن يكون صالحا لكل النّاس في كل الأزمنة لكي يَهْديهم في الحياة الخُلُقيّة نحو الخيرات التي أعدّها اللّه لعباده الصالحين.» (جيوﭬانّي فِيلُورامو)[1] "الإسلام"، ﭐبتداءً، شهادةٌ بأنّه «لا إلَاه إلّا اللّه»، شهادةٌ هي الأُسُّ في سَفَر الإنسان عبر الوُجود والفعل عبدًا مُختارا برحمةِ خالقه وفاعلا مُستأمَنًا على كل ما/من بين يديه بقضاءٍ وابتلاءٍ من ربِّ العالَمين. وحينما يُسْلِمُ المرءُ مُتلفِّظا بشهادةِ أنْ «لا إلَاه إلّا اللّه وأنّ محمدا رسول اللّه» يكون إسلامُه هذا إعلانًا عن بدء ولادته الحقيقيّة بصفته «الكائن المخلُوق» الذي يَطلُب خلاصَه وحُريَّتَه تعبُّدا وتخلُّقا، وليس بصفته ذلك «الكائن الخالق» الذي يَقُوم جوهرا مُستقِّلا بذاته وفاعلا مُتسيِّدا على غيره. وكلُّ الفَرْق كامنٌ إنسانيّا ودينيّا هُنا مع "الإسلام" لمن كانوا يَعلمون! إنّ عبارةَ «لا إلَاه إلّا اللّه» ليست قولا بسيطا ومُبتذَلا كما يَظُنّ «أنصافُ الدُّهاة»، بل هي عبارةٌ مُركَّبةٌ من قولَيْن مُتلازمَيْن عقليّا وإيمانيّا: قولٌ أوّلٌ («لا إلَاه») فيه نفيٌ لعُموم "الأُلوهيّة" كما لو كانت موضوعا للاشتراك بين مُتعدِّدين (لفظ "إلاه" المُفرَد له جمعُه الذي هو "آلهة")، وقولٌ ثان («إلّا اللّه») فيه إثباتٌ ل"الأُلوهيّة" محصورةً في "اللّه" ومخصوصةً به ("اللّه" مُفرَدٌ بلا جمع: اجتماعُ صفات الكمال في ذاتٍ يَستلزمُ إفرادَها وتفرُّدَها بما يَنْفي إمكان تعدُّد الذّوات بهذا المُقتضى!). والمُشكلةُ كلُّها قائمةٌ في الوُقوف عند القول الأوّل تشهِّيًا وتحكُّما أو العُبور إلى القول الثاني باعتباره نتيجةً لازمةً عقليّا عنه وتعبيرا عن الشُّهُود الإيمانيّ ل«واجب الوُجود» ربًّا خالِقا وإلاها رحيما. وليس كونُ "الإسلام" مَبْنيّا على شهادة «لا إلاه إلّا اللّه» هو الذي يُرْهِب، بل كونُه دينًا خاتما لا تكتمل فيه الشّهادةُ الأُولى إلّا بشهادةٍ ثانيةٍ تُفيد أنّ «محمدًا رسولُ اللّه». فوحدةُ الأُلوهيّة لا تَنْفكُّ في "الإسلام" عن وحدة النبوّة وختمها برسالةِ سيِّد الأنبياء والرُّسل (صلّى اللّهُ عليه وسلَّم). ولهذا، فإنّ الذين لا يستطيعون التّحقُّق نظريّا وعمليّا بالانتقال من قولٍ يُفيد أنّ الإنسان لا يُثْبِت نفسَه ك«ذات فاعلة» إلّا بنفيٍ لإمكان وُجود «الذاتيّة المُتعاليَة» بشريًّا (نفيٌ لما يَتعالى إلاهيّا هو محضُ إثباتٍ لما يُراد له أن يَتنزَّل بشريّا!) إلى قول يقتضي أنّه لا قيام للإنسان إلّا ب«توحيد الأُلوهيّة»، سيجدون صعوبةً كُبرى في التَّسْليم بوُجوب ﭐتِّباع بَشرٍ رسول خُتمت به "النُّبوّةُ" وحيًا قُرآنيّا وسُنّةً حِكْميّةً وﭐكتمل به "الدِّين" رسالةَ هدايةٍ ورحمةٍ إلى العالمين كافّةً. أجلْ، إنّ "الإسلام" يُرْهب لأنّه يقول بأنّ "المَرْكزيّة" لا تكونُ البتّةَ "إنسانيّةً" (لاستحالةِ تأسيس «المُطلَق المُتعالِي» على «المحدود النِّسبيّ»)، وإنّما هي حصرا مركزيّةٌ "إلَاهيّةٌ" تجعل «التّأْنيس/التّأَنُّس» غير مُمكن إلّا بالتعبُّد للّه والاستعانة به وحده، أيْ بإقامة الوجه والعمل نحو ربِّ العالَمين في إطار "ربانيّة" تُمكِّن من "التزكّي" تخلُّقا ومن "التحرُّر" تخلُّصا: فاللّه وحده "الحَقّ"، وكُلُّ ما سواه "باطلٌ" من دُون لُطفه ورحمته سُبحانه وتعالى، بحيث إنّ "العالَم" في وُجوده واستمراره ليس سوى "لامتناهيَةٍ" من تجليّاتِ «الذّات الإلاهيّة» بكُلّ أسمائها الحُسنى التي تجعل المُؤمن دوما أمام آياتِ المُلْك والمَلكُوت والتي لا يرى منها الكافر إلّا ظواهرَ ل"واقع" هو - حسَب ظنِّه- عينُ "الحُدوث" جَوازًا بلا حدٍّ وﭐتِّفاقا بلا حتميّة. وهكذا، فإنّ "التّوحيد" يُعَدّ في الإسلام عينَ "التَّنْوير" و"التَّحْرير" من حيث إنّ توحيد «الذّات الإلاهيّة» وإفرادَها بكل صفات "الكمال" و"الجلال" يَفرض أنّ كل ما سواها من "العالَمين" ليس موضوعا لأيِّ نوع من العبادة أو الاستعانة، بل التوجُّه كلُّه قصدا وعملا يصير مطلوبا نحو ربِّ السّماوات والأرض الذي لا يُعبَدُ أحدٌ من دُونه ولا يُستعان إلّا به. فالمُسلم لا يكون عبدا لغير اللّه ولا يُطيع أحدًا مِمَّنْ يَأْمُره بما لا يُرضي اللّه كُفرا أو طُغيانا. ولهذا، فمن دُون «التّأْسيس الإلاهيّ» كما يَتجلّى في الشّهادتين ليس هُناك سوى "الاجتثاث" الذي طالما أُريد له أن يقوم في صورةِ "إنسيّانيّةٍ" (نزعة إنسانيّة) لا تُفْلِت - بالخصوص حينما تَتّخذ طابعا جذريّا- من "العَدَميّة" نَقْضا مُدمِّرا إلّا لتقع في "النِّسبيّانيّة" (النّزعة النِّسبيّة) اختزالا مُبسِّطا. وأكثر من هذا، فإنّ من يَأبى إلّا أن يقف عند قولِ «لا إلاه» يَنسى أنّه يُتحدّى بتعليلِ نفيٍ لا قِبَل لمَداركه كُلِّها به إلّا أن يكون صاحب هَوًى مُتألِّهٍ لا يَتورَّع عن ﭐدِّعاء أيِّ شيء بُهتانا أو عُدوانا! ولعلّ ما سيَصدم حتمًا «أنصاف الدُّهاة» أن يكون "الإسلام" مُؤسَّسا على "الشّهادة"، كأنّ "الدِّين" يَنْتزع "الإيمان" من القُلوب بالإكراه ولا يَبني "الحقيقة" عقليّا بالاستدلال. ومن يَعترض على "الشّهادة" كما لو كانت خاصّةً ب"الدِّين" وفاقدةً ل"المعقوليّة" لا يَفضح فقط جهلَه بها بما هي فعلٌ معرفيٌّ وعقليٌّ مُؤسِّس، وإنّما يُظْهِر مدى تخلُّفه عن رَكْب البحث العلميّ والفلسفيّ بهذا الخصوص[2]. ف"الشّهادة"، كإخبار صادق عمّا ثَبتتْ معرفتُه يقينًا مشهودا، هي الأصل في كل خطاب والأُسّ في كل دليل ؛ ذلك بأنّ التّواصُل خطابيّا لا يتمّ خُلُقيّا ولا يُفيد معرفيّا إلّا إذَا بُني على "الشّهادة" التي هي بمثابةِ اليقين العَمَليّ المُؤسِّس لإمكان "المعقوليّة" إقامةً للدّليل ومُناقَشةً لقيمة الخطاب والمُمارَسة[3]. ويَعلم الذين أُشربوا في نُفوسهم نُتَفًا من الفكر الحديث أنّ ذلك الإثبات يَتنافى مع «مشروع الحداثة» منذ أن شُيِّدت أُسسُه في فلسفة القرن السابع عشر بالأخص مع "ديكارت" الذي أراد للإنسان أن يَصير «مالكَ الطبيعة وسيِّدَها». ويكفي تقريرُ هذا الأمر ليجعل كثيرين يَنتفضون إمّا فرحا باعترافٍ يَفضح حقيقة "الإسلام" (الذي يُلغي، في ظنِّهم، "الإنسان" من حيث إنه دينٌ يُثْبت "اللّه" مُتفرِّدا بصفات "الكمال" و"الجلال") وإمّا امتعاضًا من فضيحةٍ كُبرى يُخشى أن تُسيء إلى دعوة "الإسلام" (تأكيد وُجود تعارُض جوهريّ بين «رُوح الإسلام» و«مشروع الحَداثة» لا يُفيد، في نظر بعضهم، إلّا أنّ الأمر يَتعلّق بدينٍ تقليديٍّ وماضويٍّ ورَجْعيٍّ كأنَّ "الحداثة" لا يُمكن تصوُّرها، بالأساس، إلّا على نمط واحد مُلْزِم للجميع![4]). لكنّ من يَبْتهج فَرِحًا ببيانِ أنّ «مشروع الحداثة» في تأكيده ل«مركزيّة الإنسان» يُعَدّ نقيضا ل«مشروع الإسلام» في قيامه على «مركزيّة اللّه» لا يفعل شيئا سوى استعادة التّبْسيط الذي يَختزل "الماضي" و"الحاضر" بردِّهما إلى التّعارُض بين ذَيْنك المفهومين (ماضٍ سادتْ فيه «مركزيّة اللّه» وحاضرٌ انطلق نحو تأسيس «مركزيّة الإنسان»)، في حين أنّ من يَبتئس مُمتعضا إنّما يُعبِّر عن مَيْلٍ إلى الاستسهال يَظهر في تصوُّرِ أنّ "التّوحيد" فعلٌ لفظيٌّ يُعطي حقيقةَ الحال القَلْبيّ كإنجاز يُؤتَى مرّةً واحدةً وضربةَ لازِبٍ، وأنّ "الإسلام" يَكفي فيه حفظُ المَظاهر ورفعُ الشِّعارات من دون النُّهوض بمُقضيات «العمل الصّالح» مُكابَدةً لإكراهات الابتلاء ومُجاهَدةً لأهواء النُّفُوس! وبخلاف ما يَلُوكه بعض هُواة «الإنْسيّات السّاذجة» من أنّ «التّوْحيد التّنْزيهيّ» لا يُمكنه - وفقط لقيامه على «مركزيّة اللّه»- أن يُفضيَ إلّا إلى الاستبداد والتزمُّت (كما يُعبِّر عنهما، بالتحديد، «الفكر الأُحاديّ»)، فإنّ ما يُفترَض من انفتاح في «التّعْديد الشِّرْكيّ» ليس - في العُمق- سوى تهرُّب من مُواجَهة تحدِّي التّعليل العقليّ لفكرة «تعدُّد الآلهة»، خصوصا من حيث كونُها عقبةً أمام التّحرُّر والخلاص اللّذين لا يَعُودان مُمكنَيْن إلّا على شاكلة «التّديُّن العاميّ» في نُزوعه إلى الاحتفال بالخُرافة توهُّما وتدجيلا («التّوْحيد التَّنْزيهيّ» أقرب إلى أن يكون ثمرةَ التّجريد العقليّ، في حين أنّ «التَّعْديد الشِّرْكيّ» ليس سوى إذعان لتضارُب الأهواء!). ولذا، فإنّ الأمر يَتعلّق بافتراض لا يَقبل «تعدُّد الآلهة» إلّا لفتح «الوضع البشريّ» - بحُدوده الطبيعيّة وشروطه الضروريّة- على إمكانات "الأُلوهيّة" وآفاقها بِما يَجعلُه يعمل، في الواقع، على تطبيع "الشِّرْك" بتصيير "الأُلوهيّة" مُتنزِّلةً طبيعيّا وبَشريّا كأنّ الإنسان يَخلُق نفسَه بقَدْر ما يَتفنّنُ في صُنع آلهته من خلال تفاعُله مع الطبيعة وتحويله لها! وكونُ "التّوحيد" سيرورةً تعبُّديّةً (صلاة، زكاة، صوم، حجّ) وتخلُّقيّة (مُعاناة أحوال «التّزكِّي السُّلُوكيّ» ومَقامات «التّحقُّق العَمليّ») يَقُود إلى تبيُّن أنّ "الإسلام" لا يدعو إلى "التَّوْحيد" كما لو كان دينًا يُفضِّل الجُمود الشَّكْليّ والمَظْهريّ، بل يدعو إليه بصفته تحدِّيا وُجوديّا وعمليّا يَرتبط ببَذْل أنواع "الجُهد" واستقصاء درجات "القَصد" بما يَستغرق حياة الإنسان بحثا عن "الخلاص" في خضمِّ عالَمٍ تُعاش فيه "الكثرةُ" و"المُكاثَرةُ" ضلالا وتضليلا. ومن هُنا، فإنّ شهادةَ أنّ «مُحمدًا رسول اللّه» تَنطق بإمكان رفع ذلك التحدِّي بشريّا بصُحبةِ من جسَّد حقيقةَ "الكمال" المُقدَّر إلاهيّا للإنسان وَفْق شُروط (وسُنن) هذا «العالَم الدُّنيويّ» الذي لا يعود له، بالتّالي، معنى إلّا في صلته ب«عالَمٍ أُخرويّ» لم يَمنعْ تغييبُ نَعائمه وشدائده من تشهيدها تجربةً وتدبيرًا لا يُنْكِر طابعَهما الدِّينيّ إلّا من نَسي أنّ الوُجود والفعل ضمن شُروط هذا العالَم يَقتضيان استحالة "التّحييد" و"التّزكِّي" بمجرد "التّدْهير" و"التَّدْنيَة" مُتصوَّرين بديلا معقولا عن كل دين يُوصف، عادةً، بالغيبيّة واللّامعقوليّة[5]. ومن ثَمّ، فالعُبوديّة للّه هي وحدها التي تُمكِّن فعليّا للحُريّة الإنسانيّة بما لا قِبَل به لأيِّ نوع آخر من سُبُل "التّحرير" حتّى لو كان تلك "الإنسيّانيّة" التي لا تقوم إلّا بما هي «تسيُّدٌ مُتألِّهٌ» يَجْهَد فيه الإنسان لإخفاء جُحوده بالقَدْر نفسه الذي يَتفانى لإظهار وُجوده ككائن مُستقِلّ ومُتحرِّر. ذلك بأنّ بناء الحريّة الإنسانيّة في صورةِ تلك الذاتيّة المُستقلة جوهريّا لم يَكُن مُمكنًا مع "ديكارت" نفسه إلّا ب«الضمان الإلاهيّ» (لذلك "اليقين" المُقوِّم للحقيقة في "الكوجيطو" وفي كل معرفة)، ولم يُفعَّل في «مشروع الحداثة» إلّا بنفي "التّعالي" تنزيلا طبيعيّا للأُلوهيّة ("إسبينوزا") أو تنزيلا بشريّا لها ("سارتر")، وهو التّفْعيل الذي جعل الحريّة مُلازِمةً إمّا للضرورة الطبيعيّة (الإنسان مُضْطَرٌّ لأن يكون ويَفعل وَفْق الضرورة المُباطنة للطبيعة التي خُلِق بها!) وإمّا للضرورة الإنسانيّة (إمكانُ وُجود الإنسان «بلا إلاه» يَجعلُه مُجبَرًا على أن يكون حُرًّا!). غير أنّ كون «مشروع الحداثة» قد آل، في الواقع، إلى إعادةِ إنتاج "العُبوديّة" من خلال التّأْسيس الاقتصاديّ والتِّقنيّ لاسترقاق الإنسان اغترابا اجتماعيّا وثقافيّا واستلابا سياسيّا وإعلاميّا، ممّا يُوجب الانتباه إلى أنّ "الإنسيّانيّة" ليست بالطريق السالك نحو "التّنْوير" و"التَّحْرير" المطلوبين ؛ إذْ أنّ تصوُّر "الإنسان" كائنا «بلا إلاه» سرعان ما يَتحوَّل إلى «الإنسان-الإلاه» الذي لا يَمْلِك إلّا أن يُنتج ما يَستعبده بالفعل فيجعله في منزلة «الإنسان-العبد»! وبخلاف ما يَزعُمه "المُبْطلون"، فإنّ الحُريّةَ أصلٌ مُقوِّمٌ في "الإسلام" لأنّ اللّه - عزّ وجلّ- قد تعبّد النّاس اختيارًا ولم يُسخِّرهم اضطرارًا على غرار السّماوات والأرض بما (ومن) فيهّن. فمن الدِّين أنّه «لا إكراه في الدِّين» رُشْدًا بلا وصايةٍ وتعبُّدًا بلا وَساطة. وثُبوت الحريّة كأحد الأُصول الكُبرى المُقوِّمة ل"الشريعة" يُبيِّن سُخْف الشِّعار المرفوع أخيرا بأنّ «الحُريّة قبل الشّريعة»، ليس فقط لأن "الحريّة" لا سبيل إليها إلّا في ظلِّ قانون حاكم، وإنّما أيضا لأنّ "الحُريّة" ليست مجرد وَضع يُعطى جاهزا، بل هي وضعٌ يُبنى نسبيّا في خضمِّ مُكابَدةِ «الوضع البشريّ» بشُروطه الضروريّة المُحدِّدة للوُجود والفعل ضمن هذا العالَم، على النّحو الذي يقتضي أن يكون سعيُ الإنسان قائمًا على التّحرُّر تعبُّدًا والتّخلُّص تخلُّقا. إنّ قيام "الإسلام" على عقيدة «التّوْحيد/التّنْزيه» يَجعلُه دعوةً إلى إقامة "العدل" قسطا وإنصافا. إذْ كما أنّ من حقّ "اللّه"، بمُقتضى صحيح الشَّرْع وصريح العقل، أن تَكُون له صفات الكمال بلا انتقاص على النّحو الذي يَقضي بأنّ «الشِّرْك ظُلمٌ عظيمٌ» ([لُقمان: 13])، فمن حقِّ كل عبدٍ ألّا يُظلَم فتيلا لأنّ "اللّه" ليس بظلّام للعبيد (كما يَفتري "المُبطلون")، وإنّما هو «يُحب المُقْسطِين» ([المائدة: 42] ؛ [الحُجرات: 9] ؛ [المُمتحنة: 8]) وأنّه «[...] يأمُر بالعدل والإحسان» ([النّحل: 90]) وأنّه يُوصي «وإذَا حَكمْتُم بين النّاس، أن تَحكُموا بالعدل.» ([النِّساء: 58]) وأنْ «يا عبادي! إنِّي حرَّمتُ الظُّلْم على نفسي، وجَعلتُه بينكم مُحرَّمًا ؛ فلا تَظالَمُوا!» (مُسلم، 2577). ولا يَخفى أنّ ما يُرهب في "الإسلام" ليس تأكيدُه لأهميّة العمل على إقامة "العدل" إلى الحدّ الذي صار مُتداوَلا بين علماء المُسلمين أن يُقال إنّه «حيثما تحقَّقّ العدل، فثَمَّ شرعُ اللّهُ»، بل كونُه دِينًا يُوجب مُقاوَمة "الظُّلْم" والقيام ضدّ الظّالمين إنكارًا عليهم وعصيانا لأمرهم حتّى يَرجعوا إلى جادّة الحقّ إحسانا وإنصافا. ليس "الإسلام"، إذًا، بدينٍ يَأْمُر بطاعةِ من يَغتصب الحُقوق قهرا بلا شُورى، ولا هو بنظام كَهنُوتيّ أو فَقهُوتيّ يُعبِّد النّاس لأيِّ طاغُوت من دُون اللّه. ولأنّ الأمر في "الإسلام" لا يَكُون من دون "الشُّورى" التي يَنعقد بهما الإجماع تراضيًا وتوافُقا بين سواد الأُمّة، فإنّ التَّضْليل بترْجيع أُسطورة «الاستبداد الشرقيّ» المُسوَّغ دينيّا مَثلُه كمَثل المُزايَدة على المُسلِمين باسم «الحُريّانيّة الدِّمُقراطيّة» المُشرَّعة عَلْمانيّا. والحالُ أنّ التّحدِّي المُرْهِب في "الإسلام" ليس سوى أنّ الأُمّة تبقى سيِّدةَ أمرها في تنصيب الحُكّام أَطْرًا لهم على الحقّ أو عَزْلا لهم عن الأمر كُلِّه! وإنْ تَعجبْ بعدُ، فعجبٌ مِمّن لا يزال يَرضى لنفسه أن يَستنسخ "أبا جهل" في تعاقُله أو "أبا لَهبٍ" في تكالُبه فلا تراه إلّا حريصا على اجترار سخيفِ الافتراءات كأنّ إرادةَ إطفاء نُور "الإسلام" لا تَنْفَكُّ عن إرسال الكلام عواهنَ تَتْرى من حوله. ومن كان هذا حالَه، فهو لا يَنْفُخ بما يَستنفد قُواه إلّا في نارِ تَبَابه عاجلا أو آجلا. ذلك بأنّ "الإسلام" نُورُ ربِّ العالَمين الذي لم يَتأتَّ لشانِئيه الأوائل أن يَئِدُوه في المهد حينما كان مُستضعفا، ولن يستطيع أواخرُهم شيئا من ذلك بعد اشتداد عُود هذا الدِّين وظُهور شأْنه بأن صار جزءا لا يَتجزّأ من الوُجود والفعل رُوحيّا وماديّا في مسيرةِ العالَم والتّاريخ منذ أربعة عشر قرنا. وإنّ أكثر ما يُرْهِب في "الإسلام" ليس ازديادُ انتشاره بين النّاس حتّى في قَلْب أُروبا وأمريكا ("المسيحيَّتَيْن" مع ذلك!)، بل كونُه ما فَتِئ يَفرض نفسَه اجتماعيّا وثقافيّا على الرّغم من كل حَملات التّشنيع والتّضليل التي تُخاض عالميّا ضدّه بألسنةِ وأيدي جُيوش من المُرتزقة والعُملاء بين المُسلمين أنفسهم. وإذَا كان هؤلاء جميعا لا يُقال لهم إلّا ما قِيلَ لمن سَبقوهم من أعداء "الإسلام" («يُريدون أن يُطفئوا نُور اللّه بأفواههم، ويَأبى اللّهُ إلّا أن يُتمّ نُورَه، ولو كَرِه الكافرون!» [التوبة: 22] ؛ «ومن أظلَمُ مِمّن ﭐفْتَرى على اللّه الكذبَ وهو يُدعى إلى الإسلام؟! واللّهُ لا يَهدي القومَ الظّالمين. يُريدون ليُطفئوا نُورَ اللّه بأفواههم، واللّهُ مُتِمُّ نُوره، ولو كَرِه الكافرون!» [الصف: 7-8])، فإنّ ما يُخاطَب به المُسلمون دوما إنّما هو هَدْيُ اللّه لهم في عملهم بالإسلام (وعملهم له): «ﭐدْعُ إلى سبيل ربِّك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادِلْهُم بالتي هي أحسن ؛ إنّ ربَّك هو أعلمُ بمن ضلَّ عن سبيله، وهو أعلم بالمُهتدين!» ([النّحل: 125]). _______________ [1] اُنظر: - Giovanni Filoramo, Qu'est-ce que la religion ? thèmes, méthodes, problèmes, trad. Par Noël Lucas, les éditions du Cerf, Paris, 2007, p. 172-173. [2] اُنظر: - C. A. J. Coady, Testimony : A Philosophical Study, Clarendon Press Oxford, [1992], Reprinted 2002. [3] اُنظر: طه عبد الرحمن، رُوح الدين. من ضيق العَلْمانية إلى سَعة الائتمانية، المركز الثقافي العربي، بيروت/الدارالبيضاء، ط 1 وط 2، 2013، ص. 165-179. [4] اُنظر بخصوص إبطال ذلك الادِّعاء: طه عبد الرحمن، روح الحداثة. المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، المركز الثقافي العربي، بيروت/الدارالبيضاء، ط 1، 2006. [5] اُنظر بالأساس: طه عبد الرحمن، رُوح الدين. من ضيق العَلْمانية إلى سعة الائتمانية، مرجع سابق.