بالطبع، في إطار النظام العالمي الجديد بتمثلات الانفتاح وبسيطرة الشركات العابرة للقارات والمتعددة الجنسيات (سيطرة علمية، تكنولوجية وإعلامية) يطرح بإلحاح سؤال الهوية والسياسة في الدول العربية الإسلامية بصفة عامة وبالمغرب بصفة خاصة. انه سؤال معقد ويحتاج إلى إجابة مجتمعية حاسمة. انه سؤال المعضلة والذي يندرج كذلك في إطار البحث للتموقع داخل العالم المعاصر تحت ضرورة مراجعة الذات لإيجاد صيغ التكيف الملائمة لصنع موقف خاص (موقف مغربي بامتياز). سؤال يجعل الروح الجماعية المغربية (l’âme collective) في خدمة التنمية وتحصين الذات وبالتالي التمكن من الاندماج السهل في المنظومة الدولية. على المغاربة بمختلف شرائحهم الاجتماعية الوعي بضرورة الانفتاح كمجال خصب للتنمية مع جعل الشخصية المغربية ذات خاصيات مقبولة عالميا بل محبوبة وتفرض الاحترام على الآخر. وبذلك فلا مجال بيننا لردود الأفعال العنيفة الملغومة والملففة بنفحات دينية سطحية. ان المغرب بلد يبني بجدية صرح الدولة الحداثية المعززة بمقومات حضارته التاريخية المبنية على أساس العروبة والإسلام. بناء مؤسساتي متحضر ومنفتح على الآخر بدأ منذ مطلع التسعينات يعزز مكانة المغاربة دوليا. لقد أصبحت شعوب العالم الغربي يعتبرون المغاربة موارد بشرية تنموية في بلدانهم. إلا أن بعض التأثيرات الجانبية (effets secondaires) لمسلسل الإصلاح والبناء الذي يعرفه المغرب تثير القلق لأنها تشوش على مسيرة البلاد نحو التنمية والاندماج. لذا حان الوقت للحسم مع سؤال الهوية والسياسة لتحصين الهوية السياسية للمغاربة والتي توفرت شروط إبرازها ابتداء من التسعينات على أساس الحداثة. وعندما نتكلم على مأسسة الهوية بكل مكوناتها، نقصد خلق إطار منطقي يحد من النزعات الأنانية لفرض الذات انطلاقا من الدين كملك مجتمعي. إن الانفتاح السياسي بالحرية والحقوق يجب ان يصخر للتنمية لا لتكريس النزعات الاستغلالية. "" من هذا المنطلق، لا يمكن اعتبار الخطاب الديني في الوقت الراهن ظاهرة مؤقتة وجانبية زادت حدتها من جراء توسيع هامش الحرية والحقوق بالبلاد إلا في حالة مصاحبة الانتقال الديمقراطي والتغيير الاجتماعي الحالي بإجراءات وبحث مستمر للدولة والمجتمع للانخراط الواعي والمسؤول في المنظومة الدولية. انخراط يكون فيه الضمير الجماعي (conscience collective) للمجتمع المغربي رمزا للسيادة. ضمير يفتخر بتاريخه وبمؤسساته الرسمية وبتنظيماته السياسية والنقابية والجمعوية. ضمير بمثابة منظومة مغربية لا تتناقض فيها الهوية والسياسة. وعليه، من أجل الانتقال إلى الديمقراطية، فالنخب المغربية مطالبة بمجهود فكري وميداني من شأنه أن يجعل الجسم المجتمعي قادر على سد الباب أمام النزعات الظرفية والتي تمكنت من استغلال هامش الحرية للانتقال الديمقراطي. إنها تأثيرات جانبية تقوت في سياق الانتقال المثقل بإرث 40 سنة من الصراع السياسي وباعتراض الرجعية للنظام العالمي الجديد من باب صراع الحضارات. حان الوقت لتمكين المغاربة من الإفتخار والحديث عن " مغرب قوي وغني" مقابل تقدم "العالم الغربي" وانتصارات "العالم الرأسمالي". ان مواجهة النزعات الظرفية يستدعي انخراط المكونات الشابة للبلاد في مشروع مجتمعي تتكامل فيه مرتكزات الهوية بالهرم المكون من "الديمقراطية/التنمية". على المغاربة أولا المراهنة على الاعتراف بالذات عالميا ليس من خلال لفت نظر العالم بالتأثيرات الجانبية للانتقال الديمقراطي "كالإنحراف عن قيم الحوار والإرهاب" بل من خلال مشروع مجتمعي منتج للخيرات ومنسجم ثقافيا وسياسيا يكون فيه الخطاب الديني تربويا من مسؤولية الدولة وليس إيديولوجيا او مطية لتحقيق مصالح أنانية ونرجسية. على مشروعنا المجتمعي ان لا يسمح باستعمال كلام الله صبحانه وتعالى في اللغو والديماغوجية. فمأسسة الدين ستفضي إلى خلق التقائية في القيم الدينية من خلال اجتهاد مؤسساتي وليس مقاولاتي. إن خدمة مستقبل الشباب والأطفال والذين يمثلون أكثر من 70% من المجتمع المغربي لن يتأتى من خلال التغرير بهم وشحنهم بخطابات جوفاء وسطحية تتجاوز القطرية والمحلية. إن تحويل أزمة الطفل أو الشاب في فرض ذاته من المحلي إلى القطري والعالمي جريمة في حقه. إن الخطاب الكوني الذي يجب ترسيخه في أذهان أبناءنا ليس المفهوم العنيف لمصطلح "الجهاد" كمسلك سهل المنال لمروجي الارهاب بل "الجهاد" التنموي كضرورة تمكن المغرب من ضمان موقع عالمي يليق بتاريخ المغاربة. إن الجهاد الحقيقي هو العمل الوطني لجعل المغرب قدوة يتحدى بها جهويا وعالميا. إن الافتخار بأمجاد أجدادنا وبالعروبة والإسلام كما يفتخر اليوم الأوروبيون بالعالم الأوروبي والأمريكان بأمركة العالم يبقى مرهونا بمدى قدرتنا على نكران ذواتنا في بناء قيم المواطنة الصادقة أساسها الديمقراطية والحداثة في خدمة التنمية، مواطنة قادرة على استئصال المرجعيات المتطرفة. علينا أن نحدو حذو الصين والهند وارويا واليابان،... في قدرتهم على مقاومة أمركة العالم، مقاومة ليست عسكرية بل إستراتيجية (علمية،تكنولوجية واقتصادية). وبما أن ورش البناء لن يتم إلا من أطار الانفتاح، علينا أن نربي أبناءنا على الاعتراف بالآخر وبحق كل الثقافات في الوجود، حق كل الناس في الانتماء إلى هذا العالم. علينا أن نخلق لهم فضاء يعتزون بالانتماء إليه والدفاع عليه، فضاء خال من الخطابات الديماغوجية الميزاجية كشكل من أشكال مواجهة العولمة (ليبرالية الشركات العابرة للقارات والمتعددة الجنسيات) فلا يتعلق الأمر بضياع الوقت في خطابات شعبوية بالعناوين والكلام الملغوم الغاية منها مواجهة أحادية القطب بوحدة مضادة فارغة المحتوى من الناحية العلمية والتكنولوجية. على عكس هذا السلوك الهجين نجد مشروعية الحديث عن الوحدة الأوربية، مثلا، بالنسبة لإستراتيجية العولمة يستمد مبرره من توفر العالم الأوروبي على فضاءات سياسية ومدنية ناجعة داخل كل مجتمع من هذه المجتمعات. إن تاريخ المغاربة كشعب مسالم، مناضل، منفتح ومتضامن، لا يسمح ولن يسمح بشرعنة الخطابات الفارغة المبنية أساسا على نزعات فردانية في غياب تام للمعرفة كمنتوج وطني وكمصطلح مركزي في الدين الإسلامي. وهنا وجب الاتفاق كون من يستغل الجهل والفقر لتمرير خطابات نزعوية عنيفة الغاية منها اكتساب السلطة، يعتبر خارجا عن التعاليم الدينية السمحة التي تدعو الى التسلح بالعلم والمعرفة. ان المغرب، كبلد متقدم جهويا بشهادة الجميع، دخل مرحلة الفعل التنموي الجاد منذ 1998. وبتراكم المجهودات والانجازات السياسية والحقوقية والاقتصادية والمجالية، أصبحنا نلمس أن دعاة التطرف والعنف ومدبرو الخطابات الشعبوية لأغراض سياسية يعيشون في مأزق الفقدان التدريجي لشرعيتهم السياسية لان ما بني على باطل فهو باطل. لذا، على كل الفاعلين بمختلف توجهاتهم السياسية بهذه البلاد (المسلمين أبا عن جد بالطبع) ان يجعلوا الدين من مسؤولية الدولة من تنظيم الأسرة إلى المدرسة إلى الإعلام،... وذلك من خلال تقوية "مؤسسة إمارة المؤمنين" إلى درجة تصبح الخطابات الدينية الشعبوية بدون جدوى أمام ما تقوم به الدولة كمأطر ديني (التأطير العلمي النافع) إن مأسسة الدين بآليات المعرفة والإجتهاد لمن شأنه أن يفسح المجال الى توفر البلاد على حياة سياسية ذات الأبعاد الإيديولوجية. إن حل إشكالية اللغو في الدين لمن شأنه ضمان استقرار الممارسة الدينية عند المغاربة وتمكينهم من أداء واجباتهم الدينية بكل وعي وعن علم. إن طي هذه الصفحة نهائيا بالمغرب، ستجعل الوطن في مقدمة الاهتمامات اليومية للمواطن المغربي. إن خلق الالتقائية في هذا الشأن سيمكن البلاد من توطين ثقافة حقيقية منتجة تتسع فيها دروب العلم والفلسفة والإبداع. بالتأكيد، إن ما تقوم به الدولة اليوم لا يخرج عن هذا التوجه بل يحتاج إلى دعم كل المكونات الحداثية للمجتمع. إن الدولة رسمت بالفعل معالم المشروع المجتمعي الحداثي. لقد تم إعداد الأرضية الملائمة للاستثمار في هذا المجال: الاستمرار في إصلاح الحقل الديني، الاستمرار في تثبيت دولة الحق والقانون، محاربة الفقر والهشاشة، تأهيل التراب الوطني من خلال توفير البنية التحتية والتجهيزات الأساسية المشجعة للإستثمار،... الى جانب هذه المجهودات القيمة، يبقى من واجب حماة الحداثة التكتل كمؤسسات رسمية وكمجتمع مدني واع بتحديات المستقبل من أجل الرفع من وتيرة بناء هذه الثقافة الجديدة وتطويرها وتثبيتها ومن تم توريثها للأجيال القادمة. ان رهان الرهانات بالنسبة للمغاربة، اضافة الى التسلح بقيم العدالة )الحرية والديمقراطية)،تغلغل شروط وممكنات تحقق قيم المعرفة (العلم، الفلسفة والإبداع) وعندما نتكلم عن المعرفة والعدالة نضع التمدن مقابل التوحش. والتمدن ليس هنا سمة حضرية، بل صفة حضارية، تمس طريقة التفكير ونمط العقلية السائدة ومختلف الابداعات النظرية والعلمية، أي تخص نظام المعرفة والثقافة عموما. وفي هذا السياق، إن أسمى درجات التوحش تتجلى في دفع المغاربة الأحرار لتفجير أنفسهم وسط نفر من ذويهم وأهلهم. وهذا النمط الجديد من التوحش تجاوز كونه علامة على الظلم والاستبداد وتثبيت حقيقة القوة، بل أصبح عنوانا عريضا للظلامية والجهل وعدم إعمال الفكر والإنغلاق في قوقعة الصراع من أجل البقاء. وهنا تطرح إشكالية مواجهة المجتمع لدعاة التوحش. وهنا كذلك وجب التذكير ان صفة التوحش تلغي صفة الإنسان وكذا الحقوق المرتبطة به. بهذا المعنى اعتبر ديكارت أن ما يميزنا عن المتوحشين هي القدرة على التأمل والرغبة في التفكير.