لم يتردد المؤرخ الجليل الدكتور عبد الهادي التازي، وقد جاوز التسعين من عمره، في قبول دعوة مهرجان «بني عمار» خلال العام الماضي، فشدَّ الرحال إلى تلك القرية الجبلية المجاورة لمدينة زرهون، دون أن تنال منه صعوبة المسالك المؤدية إليها؛ كُلُّ ذلك من أجل مشاركة أبناء القرية هدفهم النبيل: الاحتفاء بالحمار وردّ الاعتبار له، بالنظر للأدوار المهمة التي يقوم بها في حياة الناس اليومية، ولاسيما في البوادي. ولكن الدكتور التازي (أطال الله عمره) لو دُعي إلى «موقعة الحمار» التي شهدتها العاصمة الرباط يوم الأحد الماضي، لاعتذر غالباً عن عدم الحضور بلباقته المعهودة، حتى وإن كانت لا تفصل بين منزله ومكان «الحدث» سوى مسافة زمنية قليلة. الشاعر والإعلامي والفاعل الجمعوي النشيط محمد بلمو، الابن البار لقرية «بني عمار»، اختار منذ أزيد من عشر سنوات أن «يكرّم» الحمار على طريقته الخاصة، عبر تنظيم مسابقة لهذا الحيوان الأليف رفيق الإنسان وخادمه المطيع، وكذلك عبر تنظيم مباراة لاختيار "أجمل" حمار و"أجمل" أتان، أي أنثى الحمار... (تستغربون؟ الجمال يوجد حتى ضمن سلالة الحمير). وتضم لجنة تحكيم المسابقة عادة أطباء بيطريين ونشطاء في مجال الرفق بالحيوان وحماية البيئة وأدباء وفنانين وإعلاميين... بلمو، وهو يدافع عن الحمار ويحتفي به، يدعونا ألا نقول عن هذا الحيوان «حاشاكم»، لأنه لا يغش ولا يكذب، ومن ثم «علينا أن نعمل مثل الحمير»، أي بكل جدية وتفان وإخلاص في العمل، كما صرح بذلك لإذاعة «ميدراديو» خلال الدورة الأخيرة من مهرجان «بني عمار». أما حميد شباط (أمين عام حزب الاستقلال) فقد ارتأى أن يوظف الحمار في صراعه مع رئيس الحكومة، ويحمّله ما لا يحتمل، فجعله (أي الحمار) سخرية للساخرين خلال مسيرة الأحد المنصرم، حيث ألصق به عبارة عبد الإله بنكيران الشهيرة «فهمتي ولا لا؟» التي صارت نكتة تتداولها الألسن ويتفنن في استعمالها رسامو الكاريكاتير. ولكن السحر انقلب على الساحر، فانشغل الناس بمشهد الحمير التي جِيء بها من تمارة، وانصرفوا عن الشعارات والمطالب المرفوعة من لدن المتظاهرين، مثلما انصرفوا عن الوجوه الحزبية التي حرصت على تصدّر المشهد الاحتجاجي. ولعل شباط، وقد خذلته التقديرات في تجييش الملايين ضد حكومة بنكيران، ارتأى الاستعانة بعشرات الحمير، حتى يكتمل النصاب! غير أن الإهانة التي ألحقها القائد الاستقلالي الحالي ب(خادم الإنسان المطيع) لن تمر مرور الكرام على سفارة الولاياتالمتحدةالأمريكيةبالرباط، التي قد تكون بعثت إلى الرئيس باراك أوباما (المنتمي للحزب الديمقراطي صاحب رمز الحمار) برقية مستعجلة، تفيد بأن شباط أرغم الحمير على حشر أنوفها في الصراع السياسي، عوض أن تحشرها في حفنة شعير...! ولا يُستبعد أيضا أن ينقل بنكيران شكواه إلى أصدقائه أبناء "العام سام" خلال وجوده هذه الأيام في الديار الأمريكية. لا ريب في أن «موقعة الحمار» هذه أحرجت نبهاء «الاستقلاليين» أمام المراقبين المغاربة والأجانب، أكثر مما أحرجتهم أمام خصوم اليوم/ أصدقاء الأمس، شركاءهم في البرنامج الحكومي مؤجل التنفيذ حتى إشعار لاحق. "الاستقلال" حزب تاريخي عتيد، يتوفر على سياسيين محنكين، كما يتوفر على العديد من الأدباء والفنانين والإعلاميين... ما في ذلك من شك؛ فلماذا تخلّف كل هؤلاء عن إبداع أشكال مبتكرة وحضارية في الاحتجاج والنضال وحتى السخرية من رئيس حكومة يتقن الفرجة والأقوال، أكثر من إتقانه الأفعال والمبادرات الملموسة لمصلحة المواطنين؟ غاب الخيال الخلاق إذنْ، فأمسى جزء من النخبة السياسية المغربية أضحوكة أمام العالمين، وانضافت "موقعة الحمار" إلى سلسلة المهازل التي تقود فريقيْ اللعبة حكومةً ومعارضةً إلى درجة الصفر في السياسة، وتقود الشعب إلى المزيد من العزوف عن المشاركة السياسية. [email protected]