لن يحتاج الوزير الجديد لوزارة التربية الوطنية السيد شكيب بنموسى لأسابيع كي يتعرف على المشكلات الحقيقية لقطاع التعليم، فالرجل قد سمع ورأى الكثير على أرض الواقع في جلسات الاستماع التي جال فيها مدن ودواوير المغرب لينسج خيوط نموذجه التنموي، ولعله توصل إلى قناعة راسخة أنه بدون قاطرة تعليم صلب المدخلات والمخرجات لن يسير قطار النموذج التنموي المفترض فيه جعل المغرب نمرا اقتصاديا شرسا في الدفاع عن مصالحه أمام جيران متربصين وفضاء إقليمي ودولي متقلب. إننا إذن أمام تحول استراتيجي ومفصلي في إدارة وزارة التربية الوطنية من رجل يحمل على كتفه مسارا غنيا وكثيفا في وزارتي التجهيز والداخلية، ولديه نظرة عميقة لصناع القرار السياسي والاقتصادي الدولي من خلال إدارته لسفارة المغرب بفرنسا لسنوات، وتوفر لديه بنك معلومات حقيقي لأعطاب المغرب السياسية والاقتصادية والاجتماعية في جولاته لإنتاج نموذج تنموي مستجد، كما أنه يملك قربا خاصا من الجهات العليا بحكم الثقة المولوية لعقود في مناصب حساسة، ما سيجعله وزيرا ذا شخصية مستقلة وقوية يستطيع معها فرض رؤيته الخاصة لشكل التعليم المستقبلي وفق الخطوط العريضة للنموذج التنموي المعتمد والرؤية الاستراتيجية لإصلاح التعليم 2015-2030. ولأن الذين كانوا سببا في المشكلة من الصعب أن يكونوا جزءا من الحل، فإن تغيير الأشخاص الذين يعششون في المصالح المركزية للوزارة والأكاديميات منذ 2002 رغم فشلهم في تنزيل البرنامج الاستعجالي والرؤية الاستراتيجية، أصبح ضرورة مستعجلة لمسح المائدة نهائيا من لوبيات أضحت تشكل ضغطا مقاوما لكل إصلاح جوهري يمس مصالحها، كما أنه لم يعد لديهم ما يضيفونه كتربويين أو بيداغوجيين للمنظومة التعليمية، وأقصد هنا بالضبط مديريات المناهج والتقويم والرياضة المدرسية والتخطيط والمركز الوطني للتجديد التربوي وتوابعه في الأكاديميات. إنها فرصة كبرى لكي تغير وزارة التربية الوطنية جلدها بالكامل بعناصر جديدة على رأس المديريات المركزية والأكاديميات، تمتلك الحس التكنولوجي عوض الخلفية الورقية التي لم يبق لها مستقبل في عالم التحولات الرقمية المذهلة، وفي هذا تفكيك سريع لمراكز قوى في الوزارة والأكاديميات تستهلك كل إصلاح جدي في خدمة مصالحها الخاصة، وكذا تخفيف للأعداد الهائلة من الموظفين غير المنتجين في أروقة الوزارة ومندوبياتها الجهوية والإقليمية، وها هي قد مرت ست سنوات كاملة على بداية تنفيذ الرؤية الاستراتيجية دون أن نرى تحسنا واقعيا وعلى الأرض لمستوى تعليمنا، وليس ممكنا الآن لأي مسؤول تربوي إقليمي أو جهوي أو حتى مركزي أن يكذب على الوزير ويعطيه أرقاما مغلوطة ومغلفة للواقع المر الذي تعيشه المنظومة التربوية مادام أنه يعرف التفاصيل المضبوطة لمؤشرات جودة التعليم ببلادنا. لقد أصبح توافق مخرجات التعليم مع سوق الشغل هو العلامة الفارقة لنجاح أي مشروع تربوي عالمي، وإذا علمنا أن وزير التربية الوطنية لا يتحكم في سوق العمل ومتغيراتها السريعة، فإن المنظومة التربوية مدعوة اليوم لأن تواكب هذه الطفرات بأن تخلق لنا جيلا منتجا يمتلك مهارات تتكيف مع سوق الشغل من أدنى مستوياتها التقنية حتى أعلاها عوض تخريج أفواج من الشباب تتسول وظائف في القطاع العام المنهك، وهذا يتطلب من الوزير الجديد جرأة في تغيير وجه التعليم المغربي تخطيطا ومناهج تعليم ولغات تدريس وطرق تقويم وصيغ توجيه وزمنا مدرسيا، فالمستقبل للبرمجيات وعلوم الإحصاء والبيانات والتحول الرقمي وقضايا المناخ والبيئة والتنمية المستدامة. واليوم ليس عيبا أن يكون أكبر هموم وزير التربية توفير أياد تقنية مؤهلة للشركات الصناعية والفلاحية والخدماتية وذات التقنية الرفيعة من خلال التكوين العلمي والمهني بعدما كان الهدف الأسمى في الماضي هو أنتاج الأطباء والمهندسين، بل أن يزيد السيد الوزير في أعداد التلاميذ والطلاب ذوي المهارات العالية في علوم الكمبيوتر والبرمجة واللغات الحية ليواكبوا تغييرات أسواق الشغل بعد سنين معدودات. وهذا يتطلب بناء متينا يبدأ بتعميم التعليم الأولي، ثم تمكن جميع التلاميذ بدون استثناء من التحكم في المهارات والتعلمات الأساسية في القراءة والحساب واللغات نهاية المرحلة الابتدائية، لتنطلق مرحلة إعداد التلميذ الرقمي والمهني والبيئي في المرحلة الإعدادية والقادر على حماية الأمن الغذائي والأمن الصحي والأمن الطاقي والأمن البيئي لبلده في حدودها المعقولة، بعدها مرحلة التوجيه في الثانوي كأهم وأخطر مرحلة في تهييء مواطن الغد المتمكن من التحولات الرقمية والتكنولوجية العالمية والمؤهل بمهارات متجددة لولوج سوق الشغل والتعامل مع تقلباتها السريعة. ولتحقيق كل هذه المتطلبات لا بد للسيد الوزير من الالتفات بجدية للعنصر البشري العامل بالمؤسسات التربوية في شقيه الإداري والتدريسي من خلال رفع كفاءته البيداغوجية والتدبيرية والتواصلية، وتوفير أمنه المادي والنفسي، وتجويد ظروف عمله، سواء بالقطاعين العام أو الخاص، وكذا تقليص الفوارق التي تزداد شرخا بين التعليمين العمومي والخصوصي والتي قد تنتج جزرا اجتماعية معزولة تهدم الأمن الاجتماعي مستقبلا، ونشهد اليوم رداءة كبرى في مستوى الأساتذة في الجانب اللغوي والمهاري لا يمكن تغطيته بالغربال، بل أحيانا يمتد الهزال إلى الجانب المعرفي، وهذا يتطلب من الوزير وقفة صارمة لإعادة الهيبة لرجل التعليم بتحصينه معرفيا ومهاريا ثم ماديا، ففاقد الشيء لا يعطيه، وهذا ما سيعيد ثقة المجتمع بالمدرسة المغربية ومنتوجها ويجعلها فعلا رافعة اقتصادية واجتماعية وقاطرة للنموذج التنموي الجديد، فهل سيكسب السيد شكيب بنموسى هذا التحدي الجديد؟ (*) باحث في قضايا التربية والتكوين