يرفض امحمد لقماني، عضو المجلس الوطني لحزب الأصالة والمعاصرة، فكرة وجود "اصطفافات سياسية قائمة على مقتضى المرجعيات الفكرية والاتجاهات المذهبية"، باعتبار أن التجارب البرلمانية والحكومية المتعاقبة منذ حكومة اليوسفي أثبتت نهاية هذا التوجه، وكرست تقاليد سياسية براغماتية". وذهب لقماني ، في مقال توصلت به هسبريس، إلى أن "الملكية مستغنية أصلا عن أي اصطفاف لأحزاب سياسية تبين عدم فطامها بعد"، مشددا على أن البلاد في حاجة إلى "جبهة ديمقراطية حول ملكية ديمقراطية من أجل مغرب ديمقراطي". وفيما لي نص مقال لقماني كما توصلت به الجريدة: جبهة ديمقراطية حول ملكية ديمقراطية .. إمكان دستوري واستحالة ثقافية يعتقد البعض، أو هكذا يبدو على الأقل، أن انضمام حزب التجمع الوطني للأحرار، وقبله التقدم والاشتراكية، إلى التحالف الحكومي إلى جانب العدالة والتنمية، يشكل حالة شاذة فيما يشبه زعزعة لعقيدة سياسية أو اصطفاف مقدس، والحال أنه الوفاء لتقاليد سياسية تشربت بها النخبة الحزبية منذ الحكومة الائتلافية لعبد الرحمان اليوسفي لسنة 1998، وكأن الزمن السياسي المغربي يراوح مكانه مع أن الفارق في الوقت والسياق عظيم ! وقد يقول قائل أن العيب يكمن في نمط الاقتراع الذي لا يسمح بتشكيل أغلبيات برلمانية وحكومات منسجمة، وهو قول مقبول من زاوية علم السياسة والقانون الدستوري، لكن قوته الإقناعية لن تكتمل حتما بدون استحضار البعد السوسيولوجي و الثقافي للمسألة. والقصد من ذلك أن التحليل والفهم لن يستقيم إلا بإضافة عنصر« نمط النخبة » إلى نمط الاقتراع ذاك. لقد أكدت التجارب البرلمانية والحكومية المتعاقبة منذ حكومة اليوسفي، نهاية أسطورة الاصطفافات السياسية القائمة على مقتضى المرجعيات الفكرية والاتجاهات المذهبية، وكرست، بالمقابل، تقاليد سياسية براغماتية لقيت قبولا طوعيا من لدن الأغلب الأعم من التشكيلات السياسية بكل مساحيقها الإيديولويجية وتموقعاتها سواء في السلطة أو المعارضة. من جملة التقاليد تلك، نجد خطابات وممارسات نابعة من اعتقاد واهم بأن النخب المغربية، سياسية كانت أم اقتصادية أم ثقافية أم دينية، إنما تتوزع بين جزء يصطف إلى يسار الملك ( حداثي ديمقراطي)، وجزء ثان يتخندق على يمينه( محافظ)، فيما البقية الباقية تنتمي إلى فصيلة الجند المجند. والكل، في مجمل الأحوال والظروف، يشكل درعا واقيا لنظام هو في أمس الحاجة والحرص على حفظ توازنه ضد تقلبات زمن سياسي غير آمن، مع أن البلاد شدت العزم على إنهاء عهد الطاعة والاستتباع و أصبحت تتمتع بدستور مرجعي به ما يكفي من الآليات الاحترازية لضمان الاستقرار والتنمية، لعل أقواها على الإطلاق هي المؤسسات الديمقراطية نفسها والقيم التي تستبطنها. محاولة خلق الاعتقاد بمرجعية الملك في تحديد الاصطفافات السياسية الجديدة، بدأت تظهر شيئا فشيئا على مستوى الخطاب السياسي لجزء من النخبة الحزبية وبخاصة الحزب الحاكم. إنه اعتقاد خاطئ بكل تأكيد، لا يقابله، قوة، في المنطق والواقع سوى مرجعية الدستور نفسه. ألم ينبّه الملك رئيس الحكومة و معه النخبة البرلمانية غير ما مرة بضرورة العودة إلى الدستور بدل الاختباء ورائه وإقحامه في صراعات حزبية دونكيشوتية ؟ والواقع أن الملكية مستغنية أصلا عن أي اصطفاف لأحزاب سياسية تبين عدم فطامها بعد. الملكية هي بالأحرى في حاجة إلى جبهة ديمقراطية؛ و للدقة وجب القول أن بلادنا في حاجة إلى "جبهة ديمقراطية حول ملكية ديمقراطية من أجل مغرب ديمقراطي". إنه الاصطفاف السياسي الواقعي و الخيار التاريخي الممكن لإصباغ المعنى على ذلك التوصيف الذي بدأ يتسرب خلسة إلى القاموس السياسي المغربي – رغبة في التميز - تحت مسمى "النموذج الديمقراطي المغربي". ولا أعتقد أن هذا الأخير( أي النموذج) يتطلب، لاستيعابه، كبير عناء أكثر من كونه نظاما سياسيا جامعاً و موحِّداً؛ بيد أن استقراره واستمراره رهين بقدرته على التدبير العقلاني لمجتمع متعدد و التوزيع المنصف للسلطة والثروة والمعرفة. وذلك عين ما ينصّ عليه الدستور نصاً و روحاً، فأين المشكلة إذن؟ وجه الغرابة في المسألة أن هذه الأطروحة التي تواتر الحديث بشأنها بعد دستور 2011 ، لم تلق أثرا ذو قيمة في وثائق الأحزاب السياسية، فما بالك بالاجتهاد في رسم ملامحها العامة في أفق صيرورتها رؤيةً لمشروعٍ مجتمعيٍ مغربي ( من ذلك مثلا اجتهادات جنينية في وثائق المؤتمر الأخير لحزب « البام » سرعان ما تم إجهاضها ). ومع الاعتراف بقيمة الطرح وجاذبية الفكرة، إلا أنه مما لا يرقى إليه شك أنه يلزمنا جيلين أو أكثر لإحداث القطيعة مع ثقافة سياسية راكمت ما يكفي من جينات العقم وأسباب الإحباط التي شلَت قدرة النخبة السياسية على تجاوز حالة الانفصام الناتج عن الاعتقاد بالشئ حد التعصب، والقيام بنقيضه بغير قليل من الانتهازية و البراغماتية الفجة. فالظاهر أن الأحزاب السياسية تتعب نفسها بتبني أطروحات فكرية و اتجاهات مذهبية هي أكبر من قدرة نخبها على الاقتناع بها والالتزام بقواعدها، بل وتذهب حد التملص منها عند أول منعرج توضع فيه على المحك. أما المخرج من هكذا مأزق، فهو ثقافيٌ في المقام الأول : ترويض العقل السياسي على الانضباط للقواعد والقيم الدستورية نفسها التي لا خلاف حول ثوابتها المؤسسة رغم ما قد يبرز إلى الوجود من تباين وتوترات لحظية تفرضها وقائع وظروف الصراع السياسي. وحسبي أنها مهمة تاريخية شاقة ينهض بها الديمقراطيون الحقيقيون على اختلاف اصطفافاتهم، إن على يسار أو على يمين الوطن.