تُدار مفاوضاتُ الحكومة بين عائلة عبد الإله بنكيران السياسية وعائلة صلاح الدين مزوار السياسية، مثلما كانت عائلات المافيا تدير مفاوضات تقسيم مجالات نفوذها: من وراء الأبواب المغلقة، وبعيدا عن أعين أو آذان الناس. ولكي يستطيع المرء أن يعرف ما يحدث خلال تلك المفاوضات، عليه أن يقتحم ذلك المكان مثلما تفعل الشرطة عادة في عمليات المداهمة. قد يبدو هذا التشبيه صادما أو قويا بالنسبة إلى البعض؛ لكن بالنسبة إلى كثيرين فهو صائب، على اعتبار أن رئيس الحكومة تعامل مع مفاوضات تشكيل حكومته الثانية وكأن الشعب غير معني بشيء. فلا الأزمة السياسية حثت بنكيران على الإسراع في التقدير الزمني للمفاوضات، ولا شغل باله ما يمكن أن يصيب المناخ السياسي للبلاد من تأثير غير مرغوب. كنا ننتظر تواصلا منتظما للمتفاوضين، ببلاغات رسمية أو ندوات صحافية قصيرة على الهامش أو حتى «بريفينغ» بسيط؛ لتتمكن عشيرة الصحافيين من نقل الأخبار من مصدرها إلى المغاربة، الذين ينتظرون ميلاد الحكومة الثانية لبنكيران منذ حوالي أربعة شهور. كالعادة، اختار بنكيران، ومن معه، طريقتهم المفضلة في التواصل بتوزيع الأدوار بينهم. بينما التزم رئيس الحكومة الصمت، كان عبد الله بوانو وعبد العزيز أفتاتي وعبد العالي حامي، القياديون في حزب العدالة والتنمية، يقومون بالأدوار المنوطة بهم على أحسن وجه، وإلا فما معنى أن يفاوض الأمينُ العام للعدالة والتنمية رئيسَ حزب التجمع الوطني للأحرار، فيما يطالب أفتاتي بمحاكمة مزوار؟ أو حينما يضع شروطا على أسماء بعينها في وجه مزوار بينما رئيسه في الحزب منشغل في تفاصيل المفاوضات؟، أما حامي الدين؛ ففي غمرة التعتيم، خرج يقسّم بين الصحافيين المهنيين والأبواق، وقال إن من يساند حزبه ويطبل ويهلل لإنجازاته العظيمة فهو صحافي مهني محترم، ومن لا يقوم بذلك فهو عدو يواجه الإصلاح ولا يريد الخير لهذا الوطن. كان على «الحقوقي» حامي الدين، قبل أن يخط ما خطه، أن يطالب رئيسه بأن «يمنح» المغاربة «الحق» في الوصول إلى المعلومة بالكشف عما يجري بينه وبين مزوار عبر بلاغات رسمية تسد الباب أمام سوق المضاربة الذي انتعش أخيرا، حتى سمعنا أسماء استوزرت وأخرى سقطت بقدرة قيادة «البي. جي. دي». في هذه الفترة، كانت الصفحات الأولى لوسائل الإعلام انعكاسا لأزمة عامة في الثقة؛ لأن المفاوضات حينما تدار من وراء الأبواب المغلقة وبتوزيع للأدوار من طرف الحزب الحاكم، فإنها تسمح لممارسات مضرة بالثقة في البروز شيئا فشيئا. التعتيم لم يسلم منه تدبير العديد من الملفات على عهد آل بنكيران، إذ يكاد يكون سلوكا نسقيا لدى الحكومة؛ فإلى حدود الآن، لا نعرف أين وصلت الملفات التي قالت الحكومة إنها قد فتحتها، من قبيل إصلاح التقاعد وإصلاح الضريبة… لكن يبدو أن التعتيم سيكون سيد الموقف في التعاطي مع الإصلاح، كما يؤشر على ذلك قرار العمل بنظام المقايسة الذي يسن معيارا جديدا في تحديد أسعار المحروقات عند الاستهلاك. ففي البداية، كان الحديث عن إصلاح صندوق المقاصة؛ لكن الحكومة ارتأت العمل بالمقايسة، واختارت التعتيم في البداية إلى أن صدر القرار لتطلق حملة تواصلية ماراطونية تفسر فيها وتشرح وتبرر وتعد بإجراءات مواكبة لقرار سوف يتحمله عبئه المستهلك. لم نكن نعتقد أن تشكيل حكومة قد يصيب بالدوار إلا حينما قرّر رئيسها أن يحولها إلى شيء مثير للسخرية. ورغم المزاعم المتكررة بتغير الممارسات السياسية في هذا الشأن، إلا أن بنكيران أعاد عقارب الساعة إلى الوراء، وجعلنا ندرك أن الزمن الذي تغير لم يتبدل حقيقة، وأن حكومة كانت تقدم تشكيلاتها في ليالي القدر أو في إقامات محروسة، لا تختلف عن حكومة لا نعلم كيف تتشكل، وبالأحرى من شكلها. إن أفضل ما فعله بنكيران بالنسبة إلينا، وربما أسوءه بالنسبة إليه، هو أن جعلنا نختبر الطبقة السياسية في البلاد، وأن نستنتج أنهم حينما يطلبون من الشعب أن يصير مصدر شرعيتهم، يهرعون طلبا لثقته؛ لكنهم بمجرد أن ينتزعوها، يديرون ظهورهم ويخادعونه، بل وينظرون إليه كجهة لا تستحق الثقة. إن الأزمة الحكومية، كما أريد لها أن تكون، تحولت تدريجيا لتصبح مرآة لتصور محافظ ومقلق لكيفية إدارة بلاد بأكملها، ولم يعد مهما ما إن كانت بلاد عرضة لأزمة اقتصادية تفتقد لحكومة لأربعة شهور؛ لأن ما هو يقيني في المسألة كلها هو أن الحكومة انهارت عمليا منذ فترة طويلة. وأمام تعتيم آل بنكيران، فإن الحل هو المداهمة. * مدير نشر مجلة "الآن"