في عصر "اليوتوبيا" الوهمية والواهية، ومع حلول كل يوم جديد صرنا نبذل الغالي والنفيس في سبيل رسم صورة مجتمع مثالي يصبو أفراده إلى الظهور بشكل نموذجي كامل، كل حسب إمكانياته. حتّى يحسب من يرانا أننا نعيش على أرض المدينة الفاضلة. كلٌّ مِنّا يبحث عن تلك الحياة المثالية أو بمعنى أصحّ حياة مثالية في نظر الآخرين وحسب معاييرهم. متناسين بذلك أن حياة الإنسان العادية والمتواضعة ستكون مثالية في نظره إن هو قنع بما لديه وتوقف عن الغوص في دوامة المقارنة. فصار البعض يدأب على التنقيب في كتب التنمية الذاتية سريعة المفعول عن أسهل الطرق إلى التفوق وبلوغ الثراء والشهرة، وذلك بُغية رسم صورة مُرضية لدى الآخرين. يطبّق الشخص بالحرف ما ورد بين سطورها ويُذعن للقواعد المتضمنة فيها، مؤمنا حق الإيمان بفعاليتها الفورية وكأنها إكسير السعادة السحري. تهافُتٌ مخيف على الظهور بنموذجية مبالغ فيها وعلى تسويق صورة غير حقيقية لكنها ربما جديرة بثناء ورضا الآخرين، وهذا هو المهم. ولْنَقُل إن كل هذا التهافت نابع من مقارنة الشخص نفسه بالآخرين. فلا يقنع أبدا بما بين يديه حين يرى ما يمتلكه ويعيشه الآخرون، وهو ما يُوَلِّد لديه شعورا مستمرًّا بعدم الرضا، إذ مهما بلغ من نجاح يبدو له دائما أن ما وصل إليه غير كافٍ طالما لم يرْقَ إلى مستوى ما هو متوفر في سوق المثالية. لا أدري من ذا العبقري قصير النظر الذي وضع اللّبنة الأولى لهذه الصورة النمطية في بادئ الأمر، لكنني أعرف أن عددا لا يُستهان به من الأشخاص قد بايعوا التيار ذاته. وعملوا جاهدين على ترسيخ سياسة توحيد النمط. القوالب مسبقة التحضير تلعب دور المرشد الرئيسي لكل من يصبو إلى تسلق سلّم النموذجية. والخطوات نحو قمة السلم مرسومة بدقة ومتوفرة بوفرة على وسائل التواصل الاجتماعي وفي بعض الأحيان على أرض الواقع أيضا. ما عليك سوى اختيار النموذج الذي يتماشى مع أهدافك من "كتالوغ" ما هو متاح. فإما أنك تودُّ ارتداء قناع الثراء والرُّقي في المأكل والملبس وما جاورهما، أو أنك تودّ ارتداء ثوب الملاك البشري فتُغرق حسابك بمنشورات فعل الخير وصُوَر الأطفال "الفقراء" المحتاجين لمساعدتك، تأخذ معهم صورا جماعية لك وصدقتك المتخمة بالرياء. أو لعلك تختار صورة المثقف العميق الذي يأكل الكتب أكلا ويحرص على اقتناء أكبر عدد منها لزوم الصور. وغيرها من النماذج الأخرى. فتفضل مشكورا واختر ما يناسب مقاسك! لكن لا تنس بعدما اخترت الوجه الذي سترتديه يوميا أمام الآخرين، أن تسأل نفسك ما يلي: هل هذا الوجه حقيقي؟ هل يتماشى مع شخصك، رغباتك وقناعاتك؟ هل سيحافظ على عفويتك؟ ثم هل يحترم مبادئك؟ وإن كان جوابك "لا" فاعلم أن ما تفعله بنفسك ما هو إلّا أقصى درجات التعذيب. كيف لا وأنت ترسم أمامك حياة لا تمت لك بصلة، حياة بموجبها سوف تعيش في ظل نفاق مستمر مع نفسك. فما الذي دهاك وبأي ذنب تخنق عفويتك؟ دعني أُجيب عنك أرجوك! ما أنت فاعله هو التخفي وراء قناع صنعته لنفسك، بغية تلقي استحسان الآخرين وسماع عبارات المجاملة والتبجيل. ولأنك غير مقتنع بشخصك ولا واقعك فمثل هذه العبارات كفيلة بجعلك تعيش عظمة كاذبة تنتهي صلاحيتها مع انتهاء المجاملات. يصيبك الظمأ، تشتاق للمجاملات مرة ثانية وتود فعل أي شيء قد يظهرك مميزا، مثاليا ونموذجيا أمام الآخرين وهكذا دواليك. إلى أن تصبح سعادتك واقتناعك بحياتك مرتبطين بالصورة التي تظهر بها أمام الآخرين ومدى استحسانهم لها، ويصبح تخلّيك عن مبادئك وقناعاتك شيئًا سهلا. وهو لَأَمرٌ مرعب أن تربط حريتك وسعادتك بأشخاص غرباء عن عالمك وبأشياء لا تمت لطبيعتك بِصِلة. اليوم نحن في حاجة ماسّة لأشخاص حقيقيين، صادقين وعاديين. فما أصبح المرء يُقابِله من المِثالية يوميا مخيف جدّا. الكلّ صار متشابها ولم يعد هنالك شيء يميز أحدنا عن الآخر، بل انقسمنا إلى صور طبق الأصل عن نماذج لحياة مسبقة الإعداد. ولم تسلم طموحاتنا أيضا من هذا الداء إذ أنها بقيت محصورة في دائرة النموذجية نفسها. وما عاد للتميُّز مكان في ظل كل هاته الفوضى إلّا من رحم ربّي. لقد استحوذ شبح النمطية على كل الأشياء الأصلية المتبقية لنا وألقى بها بعيدا عن أنظارنا. أَسَرَتنا النموذجية ودفعتنا إلى تزييف كل ما هو حقيقي فينا. فأفضى بنا هذا الأمر إما إلى تَبنّي حياة مزيفة مثالية ظاهريا وإما إلى تمجيد حياة أشخاص آخرين يبدون لنا مثاليين في كل شيء. وكلا الأمرين مرٌّ.