لا يتعلق الأمر في العنوان المختار بأي خطأ مطبعي، كما أنه لا ينطوي على أي شكل من أشكال اللعب بالكلمات والتعابير؛ ولكنه عنوان يحيل إراديا على فيروس آخر حقيقي، أكثر خطورة من ذلك الذي تلوكه الألسن هذه الأيام، والذي يختلف عن فيروسنا هذا بحرف واحد ليس إلا، كورونا..هذا الأخير للإشارة هو ما يرجع له الفضل، إن كان له من فضل أصلا، في جعلنا نستكشف فيروس "كُلونا" الفتاك. اكتشفناه عندما توجهنا إلى أقرب صيدلية لاقتناء قناع طبي يقال إنه قد يقي من إصابة أو عدوى طائشة في الهواء، وكان الجواب جاهزا إما بعدم توفر المطلوب وإما بالارتفاع أو لنقل بالرفع المهول في الثمن المفترض للمنتج البسيط، والذي كان إلى حدود أسابيع أو أيام قليلة خلت غير ذي قيمة ولا يكاد يطلبه طالب أو يعيره اهتماما.. اكتشفناه عندما توجهنا إلى نفس الصيدلية أو إلى شبيهتها، البارافارماسي، وطلبنا عبوة صغيرة تضم سائلا معقما لتنظيف الأيادي، لنفاجأ بأن ثمنه تغير من مرتفع إلى أكثر ارتفاعا، بل إن المسؤولين عن تسويقه لم يجدوا أي حرج في تغيير الثمن على ظهر المنتوج بشكل فاضح. ذكرتني هذه الأحداث بما يحدث أيام الأعياد الدينية وأيام العطل على مستوى وسائل النقل، حيث يعمد الناقلون إلى مضاعفة أثمان تذاكر الحافلات والطاكسيات دون حسيب من السلطات أو رقيب من الضمير؛ وذكرتني بأيام عشناها في شهر رمضان، شهر العبادات والتوبة والغفران، حيث كانت تتم المضاربة في أسعار الحليب، ويباع أحيانا كما تباع الممنوعات.. ذكرتني أيضا بأولائك الواقفين على أبواب المصحات والمستشفيات التي لا تفتح أبوابها وغرف عملياتها إلا لحاملي الشيكات القابلة للصرف مسبقا. وتذكرني بتلك المرأة الحامل التي، والحالة هذه، وضعت وليدها في الشارع العام. هذه بعض أعراض وتجليات فيروس "كُلونا" القديم الجديد. ولا بد أن العديدين منا إما يحملون هذه الأعراض أو يعانون بسبب من يحملونها. هي مافيا، بل مافيات حقيقية قررت أن تجعل سعادتها تقوم على سحق الآخرين، وقررت أن تجعل ثراءها السريع يقوم على استغلال عوز وحاجة هؤلاء الآخرين. لقد تم تسليع وتشييء كل شيء، إذ صار كل شيء خاضعا لقانون السوق، عفوا غابة السوق. وأمسى سدنة هذه السوق، من ضباع وذئاب ومن آكلي الجثث، هم من يحددون شروط الحق في الحياة وطرائق ودرجات الولوج إلى هذا الحق. إنهم يأكلوننا! يأكلوننا أحياء!. تضعنا هذه الوضعية أمام سؤال وجودي: هل نحن حقيقة مجتمع؟ هل حقا نجحنا في الانتقال من حالة الطبيعة، حالة حرب الكل ضد الكل بتعبير توماس هوبز، إلى حالة المدنية والمجتمع؟ كيف يمكن أن نرد بالإيجاب ونحن نطالع، بأسف وبعجز في الآن ذاته، كل صور الانفلات والإفلات من العقاب؟ كيف ذلك ونحن نستحضر كل مساحات اللاقانون وكل فضاءات الظلمة التي تلقي بسوادها على حياتنا؟ للأسف، فكلما تهيأت لنا أسباب وشروط وجود مادي أفضل، كلما ظهرت لنا سوءات هذا الوجود على شكل ضمور في الضمير الجمعي وجدب في القيم الإنسانية، يؤديان معا إلى خواء أخلاقي وإلى عبث وجودي. نفهم الآن لماذا تحدث البعض عن نهاية التاريخ، ونهاية اليوتوبيا وموت الإنسان. نفهم ذلك لأن الأمل في وجود وفي حياة أفضل قد يكون مجرد خطاب استغفالي، وصرنا يوما بعد يوم نوقن بأن الأمور لا تزداد إلا ضبابية وإلا خواء. على العموم، إذا كان فيروس كورونا المستجد ينتقل بين البشر عبر المصافحة وعبر العناق، فإن حبله قصير مادمنا مع الوقت، في هذا الزمن الموحش، بتعبير حيدر حيدر، سننسى كيف نصافح بعضنا البعض وكيف ننصهر في بعضنا عبر العناق. نكسوا الأعلام! نكسوا رؤوسكم! *أستاذ باحث، كلية الحقوق، مكناس.