كتب الأستاذ عمر بن جلون مقالا في شهرية لومند ديلبوماتيك لشهر أكتوبر لسنة 2015 بعنوان "المهدي بن بركة، هذا القتيلُ ذو العمر المديد"، عمّا قد توحي إليه الذكرى الخمسون لاختطاف المهدي بن بركة في مرحلة دقيقة يتأرجح فيه بلدنا بين دعاة النيوليبرالية الهوجاء، والمتمسكين بتلابيب الخطابات المهدوية التي تأتي في الغالب كرد فعل لزيغ النيوليبرالية وتشييئها للإنسان، وسعيها المحموم نحو المال، وتغليبها للفعالية على حساب التضامن وميلها لجعل كل شيء سلعة حتى المرافق الاجتماعية الحيوية.. ألا يكون المهدي بن بركة، يقول صاحب المقال، المرجعَ الأخلاقي لبعث جديد، لأمة عانت الأمَرّين من هذا التقاطب، من أجل رؤية تقدمية تحافظ على إنسانية الإنسان وترعى كرامته، و تتأبى على تشيئه، وترفض التذرع بخطابات الهوية، لما تحمله من أخطار، أيا كانت هذه الخطابات، وأيا كانت أشكالها وتعابيرها ؟ سؤال لا يخلو من وجاهة، ويفترض ضمن ما يفترض أن نغور في سراديب فكر شخص ملأ الدنيا وشغل الناس ؟ ألا يُخشى أن تحجب قضية اغتياله ثراءَ فكره وخصوبة رؤاه ؟ لا يعني ذلك القفزَ على الحقيقة فيما اعتور اختطافه واغتياله، وطمْسَ معالم الجريمة. تظل القضية قائمة لا تبلى ولا يمَسُّها التقادم ما لم يُكشف عن الحقيقة. لها مسلكها، ويظل فكرُ الرجل ونضالُه مرجعا لا تحجبه القضية. لنقمْ بجرد موضوعي لنتاج النيوليبرالية، وخطابها المهدوي الجامح ذي النبرة المتغطرسة ؟ ألم تحملْها أكتاف دعاة من أقطاب مختلفة، من كبار البنكيين، والموظفين الدوليين، ونظرائهم من التقنقراط المحليين، ومن الحاكين، مرددي الصدى من صائغي الرأي، بل ومن الاشتراكيين أنفسهم ؟ ألم يؤد هذا الخطاب إلى انجراف اقتصادي واختلال وجودي، كما في اليونان ؟ يُذكرنا التاريخ بسابقة حينما فقد الرأسمال البوصلة ودخل في حرب محمومة للتحكم في الأسواق والموارد، أن رد الفعل كان يمتح من خطاب مهدوي، يعتمد التنظيم، ويغازل الجماهير ويعزف على وتر الجرح الوجودي. قصة نعرفها، ومن الضروري أن نتذكر مآلاتها. مسأله التفكير في تجاوز هذا التقاطب الذي يغذي بعضُه البعض ويجعلهما وجهان لحقيقة واحدة، ليس خيارا بل ضرورة، ولا عيب أن نولي قِبلتنا واحدا من أبناء هذا البلد، بل لا ينبغي أن نتوزع قِبل المشرق والمغرب، وبلدنا ولود أنجب رجالات أفذاذا من ذوي الفكر أمثال محمد بلعربي العلوي وعلال الفاسي و بلحسن الوزاني والمختار السوسي وعبد الله إبراهيم ، أو قيادات ملأت سجلات الإباء أمثال الهيبة ماء العينين وموحى أُوحمو أزايّي وعبد الكريم الخطابي. فلِم يريد البعض منا أن نتسول على فُتات موائد غثة ؟ فمن هو هذا الرجل الذي ملك شغاف نفوسنا ؟ ألم يكن يذكرنا بأنّا أحفادَ ابنَ رشد وابن خلدون ؟ ألم يكن يحذرنا زيغ توظيف الدين، لنرتبط بتلك الهامات التي نفاخر بها الأمم، والتي لم تتنكر لوجدانها ومقومات حضارتها وزاوجت بين الإيمان والعقل ؟ ألم يكن يريدنا حاملين لمشعل يستنير بنور العقل، ويمتح من عبقرية تربتنا وعمق تاريخنا، وخصوصية بلدنا، هذا البلد الذي صمد لكل محاولات التطويع، رغم ما كلفه ذلك من تضحيات. صمد أمام تحرش الصليبيين ودحر مناوشات العثمانيين..ثنائية قديمة، تذكرنا ثنائية حاضرة، ولو أن المعارك الحالية تخاض بالفكر، وتكسب بالوعي، وتُعبّأ بالتنظيم المحكم. إن من الافتئات في حق هذا الرجل، أن نجعله حكرا لقبيل دون آخر، فهو قد نذر حياته للأمة المغربية، من أجل رؤية عالمية ترفض ثناية تشييء الإنسان، كما يفعل الرأسمال، وترفض بذات الوقت النظرة الميكانيكية التي تنزعه من كل تسامي أو نزوع روحي وأخلاقي. هل يطغى الرأسمال على العمل ؟ وهو زيغ ملازم للمنظومة الرأسمالية، تعددت أشكاله عبر التاريخ الحديث وأفضت إلى أزمات بنيوية متواترة. كيف يستطيع العمل أن يصمد أمام غلواء الرأسمال، وما هي الميكانيزمات التي من شأنها أن تحمي العمل ؟ أسئلة قديمة سعى جيل أن يجيب عليها محمولا بشرعية تاريخية ونضالية، وهي آنية تستلزم التفكير في روية وعمق وتبصر. ومن حق الأمة بل من واجبها، أيا كانت مشارب بنيها، أن تَبرَّ بواحد من أبنائها الأفذاذ الذين طرحوا الأسئلة الدقيقة التي اعتورت عصرهم، ورفعوا راية بلدهم خفاقة ليتبوأ مقتعدا في منتظم الأمم. ابن الشعب لن نغور في سراديب حياة هذا الرجل، في شتى فصولها ..لسنا في إعادة صياغة مراحل عمر، بل في فهم مآل شخص سيرعى توجها على مستوى العالم. تنتهي أصول المهدي بن بركة إلى قبيلة الزيايدة. نزح ذووه إلى الرباط كما ينزح من أعيى بهم الدهر، لجفاف حل، أو وباء فشا، أو لقائد طغى. كان أبوه بقالا يعيش مما يُدرّه عليه حانوته الصغير، ولم يكن شيء ما يهيء الطفل المهدي أن ينال حظا من معرفة فضلا عن أن يتسنم ذُرى فكر طلائعي..نباهة الطفل شفعت له عند زوج مدير المدرسة التي كسرت قاعدة تعليم مخصص لأبناء الأعيان. لم يُخيب الطفل حدس المرأة، وراودت المقيم العام نوكيس الفكرة أن هذا الفتى النابه، ذا النتائج الباهرة ، لربما سيكون عونا لفرنسا، من هذا الرعيل الذي سوف ينهل من حياض فكرها، ويكون حلقة ما بينها وبين "الأهالي"...كسب المهدي أداة ذهنية، وفكرا متنورا، ولكنه أبقى ولاءه للشعب.. في بداية الأربعينات كان المهدي طالبا في العلوم الرياضية في جامعة الجزائر، وكانت الجزائر آنذاك عاصمة لفرنسا الحرة، وكانت الأفكار التحررية تمور، وقد استخلص المهدي أمرين اثنين من تجربته تلك آنذاك، أولا أن عهد الأمبراطوريات الاستعمارية قد ولى، وأن فرنسا ليست مما لا يهزم، والأمر الثاني، تجربة النازية في التنظيم. التنظيم لا يعني تنبي أفكارها. سعى أن يطبق ذلك على تنظيمات الكشفية، وفي خضم هذا الاهتمام، في طريقه إلى الجزائر، قادما من الرباط، توقف بفاس عند معلم كان يُدرّس هناك، سيكون رفيقَه في الكفاح هو عبد الرحيم بوعبيد، يمتحان من نفس المَعين، ويوليان نفس الوجهة، ولا يعبران عن ذات الفكرة بذات التعبير. درّس المهدي فور عودته من الجزائر بثانوية كورو وبالمدرسة المولوية، حيث سيكون من تلامذته فتى يكاد أن يكون تِربا له، شغوف بتاريخ المغرب، هو من سيصبح الحسن الثاني. كان الأمير مولاي الحسن مولعا بالتاريخ أكثر منه بالرياضيات، وتستهويه السياسة أكثر مما يستهويه الدرس ويشاطر الوطنيين ضرورة الانعتاق من نير الاستعمار ويسعي سعيه من أجل ذلك.. من المؤكد أن هذه العلاقة على أرائكة الدراسة خلفت في نفسية الأمير الغضة، تأثيرا مزدوجا حيال أستاذه، يلتقي فيه الإعجاب و التوجس، مع الإقرار بإيمان المهدي برسوخ المؤسسة الملكية في تاريخ المغرب ودورها المركزي، كما ورد في شهادة المرحوم الحسن الثاني في "ذاكرة ملك." في 11 يناير 1944 قدّم الوطنيون وثيقة الاستقلال وكان أصغر ُموقِّع هو المهدي بن بركة فعبد الرحيم بوعبيد... سيدرك المهدي أن الاستقلال ليس هدفا في حد ذاته، وأنه يستلزم آليات ووسائل فضلا عن التنظيم، التنظيم بداخل حزب الاستقلال، و مد الحزب بأدوات، منها الصحافة، ثم التعليم الحر.. لابد أن نتذكر ذلك، ولا بد أن نذكر هذه اللحظة التاريخية التي تعتبر تحولا في تاريخ المغرب، زيارة السلطان سيدي محمد بن يوسف لطنجة في أبريل 1947، ودور المهدي في هذه الزيارة فضلا عما قام به عبد الخالق الطريس من تأطير بمنطقة الشمال. أكد السلطان وحدة المغرب، ونزع المغرب من أي ارتباط بالدولة الحامية، وفي ذات الزيارة، ألقت المرحومة الأميرة للاعائشة خطابا يدعو لتحرر المرأة، والانفتاح على العصر، والتعلم، يحمل ميسم المهدي بن بركة.. في 1948 قدّم المهدي تقريرا للأمم المتحدة عن وضعية حقوق الإنسان في المغرب، ولذلك فهو رائد في هذا المضمار. أدركت الإدارة الاستعمارية ألا أمل يرجى من هذا الفتى الذي اعتبرته أخطر عنصر يتهدد منظومة الحماية، فحكمت عليه منذ 1951 بشتى ضروب المضايقة. منذ ذلك التاريخ أصبح المهدي قرينا للمنافي في منطقة أثّرت فيه، مثلما أثّر فيها، هي الجنوب الشرقي. عرف زمهريرها القارص بميدلت، وعرف الخلوة الممتعة مع رعيل من الوطنيين بمعتقل أغبالو ن كردوس، والتي خلّدها المختار السوسي، في كتابه "معتقل الصحراء"، وذكْره لنباهة المهدي الذي توسم فيه أن يكون حاملا لمشعل دبلوماسية المغرب المستقل، ولم يخطيء حدس العلامة السوسي، إلا في كون إشعاع المهدي لسوف يتجاوز محيط بلده. تلظّى المهدي بالوحدة بتالسينت وببوذنيب، وأخلص للقراءة واكتشف العمل الذي يقوم به ضباط الشؤون الأهلية في معرفة شؤون المجتمع ورصد أحواله. قد يكون المرء معاديا للاستعمار وتوجهه وأساليبه، ولكن ليس من الحصافة أن لا يقف على مواطن قواه. كان يعتمد على أدوات معرفية، وكان المهدي لا يرى بديلا عن تلك الأدوات في المغرب المستقل. بقصر السوق استسلم للتأمل والتفكير، وقد خففت الإدارة الاستعمارية من ضغطها، واستطاع أن يربط الصلة بذويه، ومنهم ابنه البشير وهو بعدُ طفل صغير، فُصل عنه، ولم يعش اللحظاتِ الحاسمة والممتعة في علاقة كل أب وفلذات كبده. تلظى المهدي بالحرمان، ومن الضروري أن نتذكر ذلك، ونُذكّر به قربانا للوطن وضريبة للتحرر ، كما أداها آخرون نَدين لهم من أجل ذلك بالعرفان. بين نصل المنجل ومقبضه لم يشارك المهدي في تلك المحطات التي سبقت الاستقلال لأنه كان رهين الاعتقال، وإن كان مرجعا أخلاقيا للوطنيين وموئلا لهم، مثلما لم يشارك في أوفاق إيكس ليبان التي كرست استقلال المغرب. رأى المهدي أن يزور غداة الاستقلال هذه المنطقة التي قضى فيها شهورا عددا رهن الاعتقال وسط أناس من هذا المغرب العميق، برا بهم وعطفا. ألقى عليه فلاحو تافيلالت حين سألهم ما ذا يعني الاستقلال بالنسبة لهم، هذه الجملة التي درجت مدرج الأمثال، "نَصْلُ المنجل الذي كنا نُحصد به هو هو، ما تغير سوى المقبض" Amguer, Amguer, ghas afus ayas smuttin قول ثقيل، سيشحذ فكر المهدي فيما بعد، في نص سياسي غير مسبوق، في قوته ونفاذه، "الخيار الثوري" لسوف أعود إليه بعد حين. كان المهدي شخصية لافتة غداة الاستقلال. من أي طينة قُدَّ هذا الرجل ؟ يتساءل واحد من كبار الصحافيين جون لا كوتير الذي أفرد كتابا قيّما للمغرب غداة الاستقلال"المغرب في طور الاختبار"، هل من طراز لينين، ثوري يمسح الطاولة ليقيم بناء جديدا، يقطع مع الماضي، أم هو سياسي براغماتي على شاكلة السياسي الفرنسي إيدكار فور، يعرف وجهات الريح وتقلباتها.. لعل في هذه الثنائية اختزالا للرجل. ولعل الصوابَ القولُ بأن العمل السياسي لم يكن ينفصل عنده عن مرجعية فكرية، ولا تصورٍ للمغرب، وهو في هذا يلتقي بأقطابَ سياسيةٍ جعلت من الفكر مَعينها، أمثال علال الفاسي الذي عالج الماضي بمبضعه، في "النقد الذاتي"، وارتأى خيارا خارج قوالب الاستعمار، أو في تشخيص عبد الله إبراهيم للأدواء الكبرى البنيوية التي تعوق بلاد المغرب، حول طبيعة السلطة وتوزيع الأرض، وحل إشكالية اللغة في واحد من أهم الأعمال الفكرية التي أنجبها أبناء هذا البلد "صمود وسط الإعصار"... كان فكر المهدي يحمل ومضاتٍ متناثرةً قبل أن يستقيم في عمل فريد، وإن هو يحمل صياغة محررين عديدين، فهو يحمل فكر الرجل.. يمكن أن نوجز، مع ما لهذه الإيجاز من مخاطر الاختزال، عملَ المهدي خلال هذه الفترة من 1956 إلى 1963 حينما اضطُر للعيش في المنفى، في ثلاث واجهات تُغذى بعضها بعضا : التنظيم، والتنظير والتأطير 1 على مستوى التنظيم : اعتبر المهدي حزب الاستقلال الذي جمع المغاربة ضد الاستعمار قادرا أن يوحدهم في ظل الاستقلال، من أجل البناء. نعم طفت تناقضات مستترة، وحقائق غير بارزة آنذاك، ولكنه كان يدرك أن فكرة ما من دون تنظيم، شعار أجوف. ومن دون شك أن استيحاءه لما كان يسمى بمندوبي الشعب فيما كان يعرف بالديمقراطيات الشعبية، سيمد حزب استقلال من خلال مفتشيه بوسائل تنظيمية غير مسبوقة. لم يكن من المصادفات أن أُطلق على المهدي لقب "الدينامو". ومحاضرته التي ألقاها بالدار البيضاء في ماي 1957 بعنوان "مسؤوليتنا"، تبرز أن المعجزات إن كان يمكن أن تحدث على الأرض، فهي بقدرة تعبئة طاقات أمة، وانخراط مكوناتها، وأن أي تنظيم لا يسلم من أدواء شبيهة بأعشاب طفيلية تتكون من الانتهازيين والمتربصين والحاقدين. 2- على مستوى التنظير : ينطلق المهدي من أولوية التربية التي هي أوسع مدى من التعليم. يعتبر الجماعة القروية النواة الأولى للتربية الأساسية، لترسيخ كيان الأمة. لاحظوا أن المهدي يستعمل مصطلح الأمة. تحيل الأمة إلى ذاكرة مشتركة، ولكنها بذات الوقت إلى المصير المشترك لكافة عناصرها بغض النظر عن الخصوصيات الثقافية. عمل الجماعة، وهي عبارة عن خلية لجسم اجتماعي، لن يؤتي أكله من دون انخراط الشعب فيها. وإذا كان العمل التقني ضروريا لإنجاح المشاريع المرسومة، فإن لن يكون بديلا لا عن الجماهير، ولا دور المناضل، الذي يقوم بدور الصلة ما بين الجماهير والتقنينيين لإنجاز المهام المنوط بها، من خلال التصور، فالإنجاز، ثم التقييم. والمناضل ها هنا هو الحلقة الأساس، هو الصلة بين الجماهير والبنية التقنية، هو شبيه بالمثقف العضوي كما عند كرامشي. والجانب الثاني الذي أكبَّ عليه المهدي مُنظّرا هو التعليم. تعتبر محاضرة المهدي بدير تولمليلين في غشت 1957، من أهم المراجع التي تكشف رؤيته للتعليم، يُذكّر فيها بالمرجعية التاريخية لبلاد المغرب، ولإشعاعها العقلاني، ثم كذلك لارتكاسها، في ظروف تاريخية معينة، أمام هجمات الصليبين ، مما دفعها إلى التقليد والجمود، ولذلك فالانفتاح على العصر ضرورة من خلال إدراك معارف العصر بل من خلال امتلاك ناصية وسائل اكتساب تلك المعارف ومنها اللغاتُ الأجنبية و شحذُ بنية ذهنية عقلانية. بذات الوقت لم يكن المهدي يجافي الإسلام، ويدرك رسالته التحررية، ويدعو من أجل ذلك لتطهيره من شوائب مغرضة ومحبطة جثمت عليها لقرون. نعم التعليم يفترض تكوين أطر كفأة، ولكنه يستلزم بدرجة أولى تعليم الجماهير أو التربية الأساسية بتعبيره. تعليم نخبوي قاطرة من دون قطار. التعليم ينصرف لواجهتين متلازمتين : الأطر والجماهير، والتعليم لا ينفصل عن التربية. والتربية بالنسبة للمهدي لم تكن أولية فقط بل أولى الأوليات. التربية بالنسبة للمهدي تعتمد على قاعدة هي الانضباط، ومن الممكن، يقول المهدي، الاسترشاد بدول مثل تركيا والصين والهند. هذه الدولة الثلاثة أصبحت اليوم ما يسمى باقتصاديات ناهضة، وليس من الصعب ربط هذه المآل بالخيارات التربوية، وليس من العدل في شيء ألا نَذكر حصافة المهدي وبُعد نظره في هذا الصدد. من القضايا الأساسية التي حبل بها تفكير المهدي العلاقة مع الآخر. والآخر هو الغرب، وعلى سبيل الدقة، الضفة الشمالية لحوض البحر الأبيض المتوسط، هذا الآخر الذي كان مالكا لرقاب المغاربة، وما يزل آنذاك مستعمرا للجزائر التي كانت تخوض حربا بطولية للانعتاق. لنا أدبيات عدة في هذا الصدد من تفكير المهدي، نكتفي منها بمحاضرته التي ألقاها بفلورسنا في منتظم ضم فعاليات عدة من مغرب الاستقلال، منها الأمير مولاي الحسن في أكتوبر 1958. يمكن إجمال أفكار المهدي فيما يلي، العلاقة بين الضفتين ضرورة، ولكنها لا يمكن أن تقوم على حساب شعب الجزائر الذي كان يخوض حربا مريرة للتحرر، كي تضطلع بلاد المغرب قاطبة بدور حلقة الوصل ما بين الضفة الشمالية ومنطقة الصحراء. لا حظوا هذا الترابط بين أمن الضفتين، وارتباطه بالعمق الصحراوي. يمكن الجزم بأن أفكار المهدي فيما يخص التعليم، والعلاقة بين الضفتين، وتصوره للأمة، ولربما دور المثقف العضوي في هذه البلورة، تظل ذات راهنية حارقة، لم تُبل جِدّتها الأيام كما يقول المتنبي. 3 أما الجبهة الثالثة التي انصرف لها جهد المهدي فهي التأطير، رعى المهدي مشاريع تعتمد على العمل التطوعي، منها غابات الشباب في المدن الكبرى، التي صمد بعضها لزحف الاسمنت و حملات محاربة الأمية. وتظل طريق الوحدة أهم نموذج ربط مغربين فصلهما الاستعمار، بسواعد شبابه. لم تكن طريق الوحدة ورشا للأشغال العمومية فقط، بل مدرسة للوطنية، وبوتقة تنصهر فيها مكونات الأمة، من أجل أهداف مشتركة، استوحت عبقرية البلد من خلال العمل الجماعي والتضامني للتويزة. كانت خياراتُ المهدي وأساليبُه في العمل غيرَ مسبوقة، تبدو محرجة بالنسبة للماسكين بزمام الأمور الذين كانوا يتأذون من صيت المهدي وكاريزماه، مزعجة للعناصر المحافظة، وكان من الطبيعي أن يقع الانشقاق، بداخل حزب الاستقلال، أولا، وينبثق عنه الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ثم الاصطدام مع البنية المُشكّلة لسدى الدولة، وبخاصة مع الإعلان على دستور 1962، الذي اعتبرته أدبيات الاتحاد دستورا ممنوحا يشرعن للحكم الفردي. ويعتبر الحديث المشترك للمهدي وعبد الرحيم بوعبيد، لمجلة جون أفريك في أبريل 1963 وثيقة مرجعية، تظهر التطور الحاصل في علاقة الزعيمين بالسلطة...التصعيد الخطابي، بل الفعلي، جاء نتيجة تراكمات، وعلاقات صدامية، منها محاولة اغتيال المهدي قرب بوزنيقة، ولو أن المقاوم عبد السلام الجبلي في مذكراته، يعتبر أن المهدي صدف عن خيار المواجهة لفائدة العمل السياسي، لولا أن الموت أعجله. الخيار الثوري من دون شك أن الخيار الثوري يعتبر أهم مرجعية في تراث المهدي بن بركة الفكري، بيد أن قراءة هذه الوثيقة بعد نصف قرن، تفترض وضعها في سياقها، وإلقاء أضواء كاشفة غير القراءة الإيديولوجية أو المبتسرة التي تكتفي في الغالب بعنوانها. لنتذكرْ حكمة المؤرخ مارك بلوك Marc Bloch "فالناس أبناء زمانهم قبل أن يكونوا أبناء آبائهم"، ولْنُذكر بأشياء قد لا تكون معلومة لدى العموم : لم يكن مصطلح "الخيار الثوري" من وضع المهدي بن بركة، بل من لدن مثقف شاب من وجدة ارتبطت عائلته بالمهدي بن بركة لما كان طالبا بالجزائر، كان يُوقع مقالاته باسم مستعار هو البشير بلبشير. يحمل النص فحوى تقرير مؤتمر الاتحاد الوطني للقوات الشعبية لسنة 1962. تحمل الوثيقة من دون شك أفكار المهدي وتصوراته، ولكن دون الذهول عن أن الصياغة كانت جماعية.. إن نحن وضعنا جانبا هذه الملاحظات، عمّ يسفر عنه النص ؟ لعل أهم ما ورد في النص هو تحليل للمنظومة الاستعمارية، أو الحماية من خلال تشريح للوضعية المستشرية غداة الاستقلال، التي أفضت إلى ما أسماه المهدي بالاستعمار الجديد، أو مغربة الحماية بتعبير عبد الله إبراهيم، أو استحضار تلك الحكمة الشعبية التي سمعها المهدي من أفواه فلاحي تافيلالت، والتعبير عنها بأدوات تحليل علمية. يقوم المهدي بتحليل دقيق لمنظومة الحكم والتناقضات التي تطبعها والمخاطر التي تنطوي عليها بالاعتماد على البنية الأمنية، مثلما ينتقد البورجوازية التي تخلت عن مطالبها الديمقراطية واستسلمت لمصالحها الفئوية ووضعت يدها في يد الفيودالية. يحمل النص بلا مراء نفحة ماركسية في التحليل، هي من دون شك صدى صائغي البيان، وتأثير الزمن الذي يضطرب فيه. يُجري المهدي خيارات ويرسم أهدافا تبين من خلال التجربة أنها أخفقت، مثل تجربة الجمهورية العربية المتحدة، أو التسيير الذاتي بالجزائر، ولكنه يحمل كذلك تحليلا رصينا لبنية المنظومة الحاكمة ومكوناتها ومقوماتها، مثلما يجري نقدا ذاتيا قويا للحركة الوطنية، وإلى النزوع إلى التسويات من غير رؤية. ليست التسويات شيئا مرفوضا في العمل السياسي، ولكنها تضحى وبالا على أصحابها، حينما يعدمون الرؤية البعيدة، حينما يستهويهم العاجل ويذرون الآجل. لنتذكر ذلك، مرة أخرى. يحمل النص كذلك، هذا السؤال الذي نقله الصحافي جون لاكوتير، ليس المطلوب إنكار منظومة الحماية، بصفتها أداة، أو تجاهلها، أو نقلها بحذافيرها، بل تجاوزها.. ولم يكن المهدي، من خلال وعيه وتفكيره وثقافته، أن ينكر أهمية هذه الأداة، والإيمان بضرورة، ليس استنساخها ولكن تطويعها لكي يتم تجاوزها. قضيةٌ آنيةٌ تحيلنا اليوم فيما ينبغي أن نتعامل به مع الوصفات التقنية المستنبتة من غير تربتنا، ألسنا مطالبين بامتلاكها عوض استعارتها، من خلال التفكير فيها، وتفكيكها وتحليلها. تظل قلادة النص المومأ إليه، الحكمة التي نضح بها والتي ظلت ردحا غير يسير شعارا للمناضلين الأشداء : " حقيقة السياسية، هي سياسية الحقيقة،" وما عداه، فزبَدٌ يذهب جُفاء. بؤس السياسة إذن حينما تصبح هي سياسة الزيف و التلفيق والتنطع وردود الفعل. يرتبط المهدي بمنظور أرسطو للسياسية، إذ يجعلها أداة الصالح العام، وينأى عن نظرة ماكيافلي التي تقصرها على بلوغ السلطة، بأي وسيلة كانت، بالقوة والتضليل والافتراء، أو الحفاظ عليها بالترغيب والترهيب. يظل النص، رغم إحالاته الوطنية، من أهم الأدبيات الثالثية التي حللت بنية الاستعمار كما في كتاب "معذبي الأرض، لفرانز فانون، وذهنية المستعمر، كما في كتاب "بورتريه المستعمَر" لألبير ميمي. وهذا غيض من فيض. إن هذا السبح المقتضب في فكر رجل فذ، اعتُبر من منظري فكر عالمي ثالثي بديل لتناحر القويتين العُظمتين آنذاك، بترسانتهما العسكرية والإيديولوجية، كما ورد في الكتاب الرصين لRoger Falligot, Tricontinentale, la Découverte, 2013 يروم شيئا واحدا هو التذكير بعمق فكر المهدي بن بركة، مما جعل أقطابَ عالميةً تلتف حوله، بيد أنه ليس من الحصافة في شيء، أن ننظر إليه بنظرتنا الآنية، ونؤاخذه على خياراته من دون أن نضعها في سياقها التاريخي و ظرفيتها السياسية، وليس من الرويّة في شيء أن نلتمس عنده الأجوبة لما يعترينا.. إنّ ما نسعى إليه هو أن نبعث تلك الجذوة كي تصبح شعلة متوقدة، لا أن ننفخ في الرماد. إن ذلك لا يُعفينا من تفكير مترو عما توزع العالم، وما يتوزعه، وما يضطرب في ثنايا المنطقة، وما يتخلل بلدنا من توجهات، قد تكون صدى لرؤى وخيارات خارجة عن بيئتنا. لنُذكرْ بهذه الليبرالية الجديدة التي لم تكتف بأن تكون مجموعة تقنيات، لتصبح إيديولوجيا جامحة، عرفت بالأخص في روسيا ساحة تطبيقها وطفحت على العالم.. لقد أفضت إلى أمرين مَشينين، أولا تفكيك بنية الاقتصاد الوطني من خلال شبكات تنشط في اقتناء المؤسسات المعروضة على الخوصصة، وبذات الوقت إلى بروز ممارسات مافيوزية غدت تهدد بنية الدولة بعد أن طفحت فضائحها المالية و الأخلاقية ..وكان من الطبيعي أن يصدر رد فعل يحمي كيان الدولة ولحمة الأمة. لنُذكرْ كذلك بوصفة الشرق الأوسط الجديد، مع الحرب على العراق، الذي أريد له أن يكون الواجهة الديمقراطية للعالم العربي، كما في حالة ألمانيا واليابان غداة الحرب العالمية الثانية..كان من التقنيات التي أتى بها استراتيجيو السلم الأمريكي Pax Americana تقطيع عشائري وطائفي أريد له أن يكون وصفة للمنطقة كلها، أدخل العراق ومحيطه في أوار حرب أهلية، لا تُبقي و لا تذر. من الضروري أن نُقر بفشل الليبرالية الجديدة، ومن الضروري أن نفهم ردود الفعل لهذا الزيغ بأشكال متعددة، و لا يجوز، والحالة هذه، أن نخلط بين الأعراض ومصدر الداء. فهمُها لا يعني تبريرها. هل نستطيع أن نجري تشخيصا دقيقا لما يتوزع العالم، وما يؤثر على محيطنا ، يجنبنا هذه الثنائية بين جيوب التشيء من جهة وردود الفعل التي توظف عناصر من الهوية، و تفضي إلى هوس بل إلى عُصاب، تكون مطية للطائفيات بأشكالها المتعددة من جهة أخرى، في هدف تجاوز هذه الثنائية كي نترسم سبيلا نأمنه ؟ نعم نحن قادرون إن رسمنا تصورا يحمي حرمة الدولة، ويحفظ لحمة الأمة، ويقيم العلاقة بين مكوناتها على الحق والتضامن والمساواة، ويرعى الكرامة، ولا يدفع بخصوصية ولا يتجافى والتجربة الكونية.. نعم نحن قادرون..بالوفاء لتاريخنا ولرسالة الأبناء البررة لبلدنا والانسجام مع عصرنا. نعم نحن قادرون، إن نحن قطعنا مع الزيف ولم نمالئه، أو نتستر عنه. نعم نحن قادرون، إن تسلحنا بالفكر، و بالرؤية بعيدة المدى وبالعمل الصادق، ولم نَرُغ إلى الأحلام ولم نستكن للأوهام التي قد تدغدغ عواطفنا وتغازل هوانا، و لم نتنكر في ذلك كله لرسالة سابقينا، ولم نخذل تطلعات شبيبتنا. نعم نحن قادرون إن زاوجنا بين أصحاب التجربة وذوي الرأي والعمل، في خندق واحد، لا يزري هذا بذاك، من أجل خيار واع، يعيد للسياسية غايتها النبيلة.. نعم نحن قادرون، أو بلسان أمي: An neghi والسلام عليكم ورحمة الله. *نصّ الكلمة التي ألقاها الأستاذ حسن أوريد في اللقاء حول "مكانة الشهيد المهدي بن بركة في التاريخ المعاصر" (المكتبة الوطنية بالرباط 30 أكتوبر 2015)