في خضم التوتر السياسي المتنامي بين الجارين المغرب والجزائر، يحاول الشاعر ياسين عدنان أن "يسبح عكس التيار"، مؤمنا بضرورة الرهان على مستقبل مشترك بين البلدين، وهما اللذان يجمعهما أكثر مما يفرقهما من تاريخ وعادات وجغرافيا.. في هذه الورقة، التي ساهم بها في ندوة نظمتها مؤخرا مؤسسة "الفقيه التطواني" بسلا، يقارب الشاعر والإعلامي ياسين عدنان رهانات المستقبل بين المغرب والجزائر، في سياق مجهود المؤسسة المذكورة لتشكيل جبهة مدنية لرأب الصدع المغربي الجزائري. هذا نص الورقة كما توصلت بها جريدة هسبريس الإلكترونية: يُعتبر تنوُّع المغرب من حيث عناصر هويَّته مصدرَ غنى للشخصية المغربية. فاختلافُ الأمة رحمةٌ وتنوُّعُها نعمة. لذا لم يُضايقني قطّ تماهي فئاتٍ من المغاربة بعناصر بعينها من عناصر هويتنا. فترى من يقدِّم نفسه كأمازيغي أساسًا، أو كصحراوي، أو كعروبي قومي أو إسلامي. ثم هناك من يُفاخِر بمتوسِّطيته أو بإفريقيته، بأندلسيته أو بانتسابه للطائفة اليهودية. لكن العِبْرة في النهاية بمدى نجاح الدستور في الاعتراف بكل هذه الأبعاد الهوياتية وصيانتها من جهة، ثم بمدى قُدرتنا كمواطنين مغاربة على التعايش السِّلمي والتفاعُل الخلّاق من داخل هويتنا الوطنية الحاضنة. بيد أنني كنت أستغرب دائمًا كيف لا يوجد بيننا من يُقدِّم نفسه لأهله وللعالم كمغاربي. لماذا لم نُفلح قطّ، أو لعلّنا لم نرغب أبدًا، في بناء سردية مغاربية وحدوية تدعم هذه الخلفية وتستند إلى هذا الانتماء؟ قد يبدو السؤالُ للبعض مشاغبًا غايتهُ الاستفزاز. لكنه فيما يتعلّق بي شخصيًّا ليس سؤالا نظريا ولا فكرة طوباوية ولا تطلُّعًا إرادويًّا، وإنما هو انشغال جدّي صادرٌ عن انتماء حقيقي ملموس ويعكس واقعَ حالٍ عشتُهُ وخبِرْتُه. من ذلك مثلا أنني اعتبرتُ نفسي دائمًا كاتبا مغاربيا. وليس في ذلك أيُّ ادّعاء أو تحذلُق. فأنا فعلًا كاتب مغربي ببدايات جزائرية. فقد أُعلِنَ عن اسمي كشاعر أول مرة في الجزائر وليس في المغرب على إثر فوزي بجائزة مفدي زكريا المغاربية للشعر في دورتها الثانية، سنة 1991. كنتُ طالبًا بكلية الآداب بجامعة القاضي عياض بمراكش. وحين استقللتُ الطائرة لأول مرة في حياتي باتجاه الجزائر لاستلام الجائزة، كانت سيرتي الأدبية لا تتضمَّن سوى نصَّيْن يتيمَيْن منشورين في الملحق الثقافي لصحيفة "الاتحاد الاشتراكي". كانت جزائر الشاذلي بن جديد. اتحاد المغرب العربي حديث التأسيس. فقد تمَّ الإعلان عن قيامه في مدينتي، مراكش، في فبراير 1989. لكن هذا القرار السياسي كان يحتاج إلى مضاعفة المجهودات على عدّة مستويات لتجاوز القطيعة الطويلة المُزمِنة التي عشناها مع الجزائر على امتداد سنوات حكم الهواري بومدين. لذا ما إن انتهى حفل التتويج، الذي تمَّ الإعلان فيه عن اسمي شاعرًا لأول مرة في محفلٍ ذي قيمة، حتى وجدتُني أستلِمُ أوّل مهمة لي في مجال الصحافة. ذاك أن جريدة "السلام" طلبت منّي أن أراسلها من المغرب. وهو ما قمتُ به لبضعة أشهر قبل أن تتأسَّس "الشروق" الجزائرية لألتحق بها. ولعلّي كنتُ أول وآخر مراسل ل"الشروق" من المغرب. قصدتُ الجزائر إذن طالبًا في الحادية والعشرين، يتلمَّس خطواته الأولى في درب الكتابة، وعُدت منها "شاعرا" و"صحافيا" تتعامل معه المؤسسات الأدبية الجزائرية باحترام، وتدفع له الصُّحف مقابلَ ما يكتب، هو الذي كان يحلم فقط بأن يرى اسمه على الصفحات الأدبية لبلده. ولأنّ الدينار الجزائري كان أضعف من أن يُحقّق لي بعدَ تحويلِه إلى الدرهم ثروة ذات بال، كنتُ أطلب من الجريدة الاحتفاظ بنقودي. وما إنْ تحلّ العطلة حتى أستقلَّ قطار المغرب العربي وأسافر من مراكش إلى الجزائر بالقطار عبر فاس ووجدة ومغنية ووهران. هكذا صرتُ أبرمَجُ بشكل تلقائي من طرف أصدقائي الجزائريين في مهرجانات الشعر التي تنظّمها مختلف المدن الجزائرية كل صيف. كنتُ الضيفَ المغربي المُتاح، أقضي الصيف كاملا هناك، وأقطع الجزائر من أقصاها إلى أقصاها، من وهران إلى الجزائر، من تيزي وزّو إلى قسنطينة، ومن باتنة إلى عنّابة. مرةً في صيف 1994، كنت قادما رفقة الشاعر بوزيد حرز الله في سيارته من وهران إلى الجزائر العاصمة، حيث كنا في ضيافة الراحل العزيز بختي بن عودة. في الطريق إلى العاصمة، سقطنا في فخّ "باراج مُزوّر". كانوا أربعة إرهابيّين مسلّحين يرتدون أحذية رياضية وسراويل جينز وسترات عسكرية من فوق. سترات "كاكية" من النّوع الذي كنا نشتريه من أسواق الملابس المستعملة في المغرب ونرتديه أيام المراهقة وبدايات الشباب. أوقفوا السيارة وطلبوا الأوراق؛ لكن ما إن اطَّلعوا على جواز سفري المغربي حتى بادرني أحدهم: "مرُّوكي خو؟"، بصوت خافت مضطرب أجبتُه. تبادل مع رفاقه النظرات، ثم اتّجه نحوي بملامح سمْحَة: "اخْيَار الناس خو.. اخْيَار الناس". قبل أن يضيف: "هيَّا.. طريق السلامة." لم يُصدّق بوزيد نفسه، لم يُصدّق أننا نجونا بهذه السهولة في زمن كانوا يقتلون فيه الكتّاب والصحافيين بلا شفقة؛ لكنّني تأكّدتُ ساعَتها من أمرٍ واحد، هو أنّ كلَّ الجزائريين، حتى المارقين منهم، يُكنُّون مشاعر خاصة لأهل المغرب. بعد عودتي إلى مراكش ببضعة أسابيع فقط، وقعَت حادثة أطلس أسني الإرهابية الشهيرة، وأُغلقت الحدود البرّية. وبعد بضعة أشهُر، اغتيل مُضيفي الوهراني بختي بن عودة بتسع رصاصات غادرة، ثم اغتيلَتْ تباعًا أشياء كثيرة بين بلدين شقيقين الحدودُ المغلقةُ بينهما عارٌ علينا جميعًا. بعد إغلاق الحدود عاد الجفاء إلى العلاقة بين البلدين. هكذا مثلا انصرفَتْ عنّي "الشروق" وانصرفتُ عنها بدوري إلى منابر عربية أكثر إشعاعًا. لكن ظل أدباء ومثقفو البلدين يخلقون جوًّا رافضًا لهذا الجفاء مُقاوِمًا له. ظل الأديب الكبير الطاهر وطّار مثلا يدعو المغاربة إلى جاحظيته. فعُدنا إلى الجزائر في أكثر من مناسبة رغم البرود السياسي المُستحكم. لكن في إحدى المناسبات، قرّرنا أن نخرج من دائرة المُمانَعة الصامتة إلى إشهار الموقف. حصل ذلك في قسنطينة حينما اختيرَت عاصمةً للثقافة العربية عام 2015. كان الصديق الشاعر بوزيد حرز الله قد كُلِّف من طرف وزير الثقافة الجزائري عز الدين ميهوبي بالإشراف على تظاهرة شعرية ضخمة أطلقوا عليها "مهرجان ليالي الشعر العربي". وحين جاء دور الجار الغربي دُعيتُ ضمن نخبة من الشعراء المغاربة. وفي لحظة حماس، اقترح عليّ الشاعر محمد بنطلحة أن نُطلق نداءً مغاربيًّا بروح وحدوية من قسنطينة، فاستحسنتُ الفكرة وتطوّعتُ لصياغة مُسَوَّدة البيان بسرعة قبل أن أقرأه على أصدقائي الشعراء، مغاربة وجزائريين، ونحن على طاولة الغداء بمدينة سطيف. أجازَهُ الأصدقاء بتلقائية شديدة. طبعًا أجازوه لأنه كان نداءَ شعراء، صادرًا أولًا عن إصرارهم الطبيعي على الأخوّة التي جُبِلنا عليها، وفيه أيضًا بعضٌ من انفلات الشعراء الذين لم يعتادوا على استشارة سياسيِّي بلدانهم قبل أن يحلموا. بوزيد حرز الله بالذات كان منهمكًا في أشغاله كمنسِّق للتظاهرة الشعرية التي التأمْنا فيها. لكنّه وقّعَ البيان بروحهِ الشاعرة، ودون كبير تدقيق. ولعلَّ أهمّ ما جاء في نداء قسنطينة، الذي وقَّع عليه أيضا كل من الشعراء محمد بنطلحة، بوزيد حرز الله، محمد الصالحي، أحمد عبد الكريم، صباح الدبي، إيمان الخطابي، لميس سعيدي، احميدة عياشي، عبد الرزاق بوكبة وعبد السلام يخلف، هذه الفقرة: "لقد كابد المغاربة والجزائريون لعنة الاستعمار. وأبان رجالات الحركة الوطنية في المغرب والجزائر عن الكثير من البطولة في نضالهم المرير من أجل التحرّر. نضالٌ وعى منذ الثورة بأن لا سبيل إلى الحرية والاستقلال خارج خيار التضامن والوحدة بين شعوب المنطقة. فإذا كانت السياسة وتقلُّباتُها تجدُ أكثر من مبرّر لإذكاء الخلافات العابرة، مهما عمّرت طويلا، إلّا أننا نحن الشعراء والأدباء المُلتئمون في ليلة الشعر المغربي هنا بقسنطينة، من البلدين، نهتمّ بالأساسي الذي يشكّل وجدان شعوبنا... هذا الأساسي الذي انصهر عبر تاريخٍ من الكفاح نتشبّثُ به لرأب صدع حلمنا الجماعي وتجسير الهوة بين بلدينا- ونحن في مدينة الجسور المُعلّقة قسنطينة- لترميم مصيرنا المشترك من أجل مستقبل مغاربي مُوحَّد وأكثر إضاءة". لم يكن في منطق البيان ولا في منطوقه ما يَشين. ومع ذلك جاء الردُّ عليه قاسيًا. تمّت إزاحة بوزيد حرز الله من موقعه كمُشرف على تظاهرة "ليالي الشعر العربي" من طرف وزير الثقافة. هذا القرار المباغت جاء بعد توجيه رئاسة الوزراء بالجزائر "تحذيرًا شديد اللهجة" إلى وزارة الثقافة، على خلفية خوض مسؤولين في "مهرجان ليالي الشعر العربي" في "قضايا سياسية ليست من صميم اختصاصهم ولا علاقة لهم بها من قريب أو بعيد"، في إشارة إلى ندائنا التلقائي الذي وصفته السلطات الجزائرية مع الأسف الشديد بالسياسي. كما رأس وزير الثقافة الجزائري اجتماعًا مغلقًا مع مسؤولين في محافظة قسنطينة عاصمة الثقافة العربية 2015، وألزمهم بمضاعفة الجهد لإنجاح هذه التظاهرة العربية و"تجنُّب إثارة المشاكل وعدم الخوض في قضايا سياسية أو دبلوماسية ليست من اختصاصهم". كما أمر الوزير الجزائري المشرفين على التظاهرة "بالاهتمام فقط بما يعنيهم من قضايا ثقافية وتنظيمية". ثم بدأت معاناتُنا بعدها. معاناة بوزيد هناك ومعاناتي أنا هنا. فقد فوجئت بالعديد من التَّحريفات التي طالت نداءنا في بعض المواقع الإلكترونية المغربية وتحميله أكثر مما يحتمل، ثم الهجوم على بوزيد حرز الله في مواقع أخرى، جزائرية هذه المرة. كان واضحا أنّ هناك في البلدَيْن معًا من يُريد مُعاقبتنا على مبادرتنا التلقائية تلك لكي نستسلم للخرس. وهو ما تصدَّيتُ له شخصيًّا بردٍّ جاء فيه: "اتركوا الشعراء يساهمون، بهمّةٍ وتواضع، في بناء الوجدان وتأسيس المشترك. ولمُحبِّي الصيد في الماء العكر أن يحملوا صنّاراتهم- المُطعّمة بسوء النية وبالفهم الضيق للأشياء- بعيدا عن ماء الشعراء. فماء الشعر دائمًا زُلال. وتأكّدوا من أنّنا لن نتنصّل من أحلامنا. والمستقبلُ بيننا." لكن ما بال المستقبل يأبى إلّا أن يخذلنا هو الآخر؟ وها نحن لم نكتف بإغلاق الحدود فقط، بل تجاوزناها إلى قطع العلاقات أيضا. أمر مؤسف. وها نحن نرى مدى الاحتقان الذي خلّفه هذا القرار المُتسرِّع بقطع العلاقات، سواء في الصحافة المحلية بالبلدين أو على وسائل التواصل الاجتماعي. هناك انفلاتٌ غير مقبول والكثير من التجاوزات. لحسن الحظ أنّ الأدباء كانوا هناك يمارسون تغريدهم المنفرد خارج السرب. أو على الأقل يحاولون تنسيب الأمور ومقاربة الموضوع بلغة راقية وروح وحدوية. ولقد تابعنا بيانات الأدباء ذات المضمون المغاربي الوحدوي، منها العريضة التي وقّعها أزيد من مائتي شخصية مغربية وجزائرية وعربية تحت عنوان "نداء إلى العقل" وفيها دعا الموقعون، وهم مثقفون وأكاديميون ونشطاء من المجتمع المدني، إلى "وقف التصعيد وتوطيد أواصر المحبة والتعاون وبناء الغد المشترك". هناك أيضًا "نداء مراكش من أجل السلم"، الذي أطلقه الكاتب والسينمائي فؤاد اسويبة ووقّع عليه العديد من الأدباء والمبدعين. وتضمّن النداء دعوة لعدم الإذعان "لدعاة التفرقة وللأصوات النشاز التي تحرّض على الحرب"، مطالبا بتوحيد الكلمة المغاربية حول هدف واحد موحّد يروم ضمان حياة كريمة للإنسان المغاربي وتأمين مستقبل أبنائه. أمّا الأديب الجزائري المُزداد بالمغرب كبير مصطفى عمّي فقد بعث رسالة مفتوحة إلى الرئيس الجزائري نبّهه فيها إلى أن قرار غلق الحدود مع المغرب يعدُّ خطأ أخلاقيا. فيما وجّه الكاتب المغربي إدريس اكسيكس رسالة مفتوحة هو الآخر "إلى صديق جزائري" كتبها بحبر إنساني يضع المغرب الكبير في إطاره الإفريقي، لافتا الانتباه إلى فرص التكامل الاقتصادي بين البلدين التي نمعن في تبديدها ونحن نصرُّ على القطيعة والتنافر. أما الأديب الجزائري أمين الزاوي فقد جاءت رسالته للنُّخب الجزائرية والمغربية المنشورة في صحيفة "إندبندنت عربية" شجاعة قوية، وعميقة في فهمها لخصوصية دور المثقف: "أيها المثقفون في الجزائر والمغرب: السياسة عابرة والثقافة دائمة. السياسة موسمية والفكر الإنساني عابر للأزمنة وللجغرافيات. السياسي ذئب والمثقف التنويري رمز ولو كان في حالة رجم. أيها المثقفون في المغرب والجزائر، احذروا خطابات الغوغاء كما يقول التوحيدي، حين يستند المثقف العميق على أصوات العامة فإنه يكرِّس لأمرين أساسيين: الحماقة أو الانتهازية. أيها المثقفون، أعرف جيّدًا أن جراح السياسة ستبرأ بسرعة أو بعد حين. يكفي قراءة ما حدث في الماضي، عندنا أو عند غيرنا من الأمم، سيجلس السياسيون غدًا حول طاولة واحدة، سينتصرون على أنفسهم، وسيتعانقون وينصرفون لأمر آخر، لكنَّ جراح الثقافة تظل طويلًا، لذا على المثقفين أن يمنحوا هذا الوضع الحساس نقاشات أخرى ونفَسًا آخر، أن يجعلوا مسافة الأمان بينهم وبين قاطرة هذا النظام أو ذاك." إن المثقف النقدي الواعي بدوره الحقيقي يعرف أنه مطالبٌ بحراسة الوجدان. إذا كان السياسيون والصحافيون يبحثون عمّا يصنع الحدث ويُلهب المشاعر ويخلق التوتُّر، الذي يساعد الصحافي على بيع مادته والسياسي على توجيه الناس والتَّلاعب بمشاعرهم وعقولهم، فإن دور المثقف والأديب مختلفٌ تماما. فهما يشتغلان على ما يجمع الناس لا ما يفرِّقهم. على المُشترك. على الوجدان العام. لذا عليهما ألّا يتورّطا في الخطابات الحاطّة بالكرامة والمضامين المثيرة للفُرقَة. فإذا ارْتَأت الحسابات التكتيكية لأحد دبلوماسيّينا التعريض بأهلنا في القبايل والتحدُّث عنهم كما لو كانوا شعبا بمصير مستقل خارج الجزائر، لا يجب علينا أن نُسايره. بل أن نُواجِهَهُ بمبدئية. والمبدأ لدينا هو وحدة الأقطار المغاربية في أفق وحدة المغرب الكبير. من حقِّ السياسي أن يُناور، لكن من واجبنا أن نُنبِّهه إلى ما يُباطِن مناوراته من لعبٍ بالنار. ثم إننا نرفض كل مناورة تنالُ من وحدة التراب الوطني لأيٍّ من الأقطار المغاربية. فالوحدة الترابية مُنزَّهة عن العبث. ثم إنَّ الشعب الجزائري صنوُ شقيقه المغربي. قوَّتُه في تنوُّعه الخلّاق. في تعايُش مكوّناته العربية والأمازيغية والأندلسية والصحراوية. هذه الفسيفساء الخلاقة مكسبٌ للمغرب مثلما هي مكسبٌ للجزائر. وإذا كان الموقف السَّمج للنظام الجزائري من الوحدة الترابية المغربية يدفع بعض سياسيّينا ودبلوماسيّينا إلى اختيار المُناكفة والمعاملة بالمثل، فإن الموقف الثقافي يرفض التَّلاعب بالمبدئي. والمبدأ هو أننا نروم الوحدة ونتطلّع إلى المزيد منها. ونرفض نهج التفرقة وإثارة النعرات. وإلّا فها نحن نرى كيف أنّ مُثيري النعرات لا يتورَّعون عن العبث بالمشترك بيننا ليحوِّلوه إلى عنصر تفرقة، فيختصمون حوله بمنطق قطري ضيق. هكذا مثلا حوَّل العابثون الكسكس والقفطان والبرنس والجلباب والطرب الغرناطي، وهي رموز شخصيتنا المغاربية ودلائل ساطعة على الوحدة المغاربية، إلى مبرّرات للتَّنازُع والتجاذب والاختصام. لكن غدًا أو بعد غد، سيعود الماء المغاربي إلى مجراه، وستُفتح الأرض والسماء معًا في وجه أبناء المغرب الكبير. حينها سيختفي سعاة الشؤم، وسيصير من حق أدباء ومثقفي البلدين ممن ظلوا قابضين على الجمر وقادوا مبادرات وحدوية عبر فعاليات ثقافية أو عبر منشورات شخصية أو جماعية أن يفخروا بأنفسهم لأنهم احترموا الطبيعة والمنطق وآمنوا بالمستقبل.