في كل التجارب الديمقراطية المعاصرة، تولد الأحزاب السياسية بيمينها ويسارها ووسطها، بمتطرفيها ومعتدليها، من أجل الوصول إلى كرسي التدبير والتسيير أو الحكم، وذلك باختلاف درجة تطور الديمقراطيات وارتفاع درجة الوعي السياسي العام. وفي التجارب نفسها يؤهل الحزب الفائز في الانتخابات التشريعية للتسيير أو التدبير أو الحكم؛ ولا تحتمل التجارب المعاصرة تقاسم هذه المهمة بين الحزب الفائز بالصف الأول والحزب الذي بوأته أصوات الناخبين المركز الثاني، وذلك حتى لا تتحول الحكومة الى ساحة لإتمام الصراع الانتخابي على حساب خدمة المواطنين. لذا ففي العادة ما يعلن الحزب الثاني مباشرة بعد الانتخابات عن موقعه الطبيعي – أي كراسي المعارضة، أو المساندة النقدية أو كل ما يفيد العملية الديمقراطية وحمايتها، وانخراطه الكلي في الإعداد للانتخابات القادمة، إذ إن الزمن الانتخابي بالنسبة للأحزاب الجادة والمجتهدة عملية مسترسلة، ويمكن الاشتغال عليها من الموقع الحكومي أو من موقع المعارضة كذلك. في الحالة المغربية الراهنة، ونحن نستعد – بعد انتخابات الثامن من الشهر الجاري- لتوديع فترة سوداء من تاريخنا السياسي، حكمت علينا بها ارتجاجات الربيع العربي وأدخلتنا في متاهة التدبير الجامع بين الدين والسياسة، وكادت أن تنهي تجربتنا الرائدة مع الإنصاف والمصالحة، وأن تقربنا إلى مصاف الدول الرثة، بدت كل الأحزاب المغربية تقريبا (إلا ثلاثة منها) مهتمة بشكل غير طبيعي بالانضمام إلى تدبير شؤون الدولة بمعية حزب التجمع الوطني للأحرار الذي فاز بالانتخابات. إلا أن المثير أكثر، والذي أثار كثيرا من المداد، هو تواجد حزب الأصالة والمعاصرة ضمن هذه الأحزاب اللاهثة للتواجد في صفوف الحكومة المقبلة، ليس لأن هذا الحزب كان قد عبر عن مواقف واضحة من الحزب الفائز، وليس كذلك لأن قادته كانوا قد عبروا عن ضرورة تواجدهم في الحكومة المقبلة مع الحزب النقيض للتطور الحداثي والديمقراطي لبلدنا، أي حزب العدالة والتنمية الذي يصبو إلى بناء دولة دينية، بل فقط – بالنسبة لي- كما قلت سابقا، لأن الموقع الطبيعي للحزب الذي يبوئه الناخبون المركز الثاني هو المعارضة. ما العمل إذا؟ هل من المعقول أن يلهث الكل، وعلى رأسهم حزب الأصالة والمعاصرة، على كراسي التدبير ونترك صفوف المعارضة شبه فارغة مع كل ما يحتمله الأمر من تقوية الحزب الديني مرة أخرى، ومع ما يمكن أن ينتج عنه من مواجهة مباشرة بين الدولة والحركات الاحتجاجية المهيكلة منها وغير المهيكلة؟ لا، أمام بلدنا فرصة تاريخية، لم تتوفر له إلا مع بداية العهد الجديد، لضمان فترة طويلة من السلم السياسي والاجتماعي قد تطول بدون شك إلى ثلاثين سنة إذا عرفت الأحزاب والدولة كيف تتداول على التدبير الحكومي الذكي؛ وهي فترة ذهبية للاشتغال من أجل تحقيق التقدم وتحقيق مطالب المواطنين في العيش الكريم والسعادة، وإبعاد دولتنا عن دائرة الدول الرثة. من هذا المنطلق، ومن موقع مسؤوليتي في الحزب، كعضو مؤسس عضو في مجلسه الوطني، أعتقد أن على الأصالة والمعاصرة أن يعلن نفسه في المعارضة بمعية الاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية واليسار الموحد، ويقود، باعتباره الحزب الذي لديه أكبر عدد من النواب، تيارا يساريا- ديمقراطيا- اجتماعيا يعارض الحكومة ب"المساندة النقدية". لماذا المساندة النقدية وكيف؟ من المؤكد أن الحكومة المقبلة ستستند في اشتغالها إلى برنامجها مرتفع السقف، الذي من أجله صوت لها الناخبون، كما أنها ستستند – بالضرورة- إلى خلاصات وتوصيات "النموذج التنموي الجديد"، وهو عمل ليس سهلا، يحتاج إلى التوجيه والتقويم أكثر من حاجته إلى سياسيين منفذين يمثلون أحزابا تصلح راهنا للعب دور المعارضة البناءة أكثر مما ستصلح للتنفيذ. لذلك فمن الوطنية الحقة – وبدون مزايدات- أن ينخرط حزب الأصالة والمعاصرة معارضا للحكومة المقبلة من موقع في المساند النقدي لها، والاشتغال مع الأحزاب المذكورة أعلاه على القضايا الإستراتيجية للدولة، لاسيما أن الدولة مقبلة على الدخول الى مرحلة ما بعد الكوفيد19، وما يستتبعه ذلك من ضرورة الاجتهاد من موقع المعارضة في البحث عن سبل لا تجر دولتنا الى مستنقع الدول الرثة، وهي دول كارثية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا بالنظر إلى أنها لم تستطع لا مسايرة الآفة ولا محاربتها ولا البحث عن حلول لمستقبلها بعد مرورها. إذا كان هذا مهما جدا فمن المهم جدا كذلك أن تعيد الأحزاب اليسارية– من موقع المعارضة- بناء علاقاتها داخل الشبكات الدولية للأحزاب المماثلة، وأن يفكر حزب الأصالة والمعاصرة في بناء تحالف دولي كبير لأحزاب المصالحات الكبرى، وكل هذا خدمة لقضايانا الكبرى، ولاسيما قضية الوحدة الترابية. ألا ترون كيف تتراجع بعض دول أمريكا اللاتينية عن الاعتراف بوحدتنا الترابية؟. لذا من الذكاء السياسي والوطنية الحقة أن نترك حزب التجمع الوطني للأحرار والأحزاب الصغيرة التي ستساعده عدديا من أجل الحصول على النصاب القانون الضروري يقود النضال على الجبهة الداخلية لتطبيق برنامجه ذي السقف المرتفع جدا، وتطبيق توصيات وخلاصات النموذج التنموي الجديد كذلك، ومن الوطنية والذكاء كذلك أن يقود حزب الأصالة والمعاصرة وباقي الأحزاب التي ذكرت نضالا على الجبهة الدولية لحماية تجربتنا السياسية والحقوقية والدفاع عن قضايانا الكبرى والتواجد على الساحة العالمية. في الخلاصة من يعتقد أن التواجد في تسيير الدولة يقوى الحزب واهم وكسول، ومن كان يعتقد أن التواجد في المعارضة يضعف الحزب فعليه أن يغربل حزبه من عناصر التضعيف!. (*) عضو المجلس الوطني لحزب الأصالة والمعاصرة