في الوقت الذي يَهتِف فيه بعضهم الآن ويُرحِّب بالتدخل العسكري الأمريكي البريطاني الفرنسي في سورية (إلا أن البرلمان البريطاني قد صوت ضد القرار) من أجل إسقاط نظام الأسد و "إيقاف الإبادة" التي يقوم بها ضد شعبه الأعزل بمباركة روسيا ودول أخرى، في ذات الوقت نتساءل لماذا يعيش هؤلاء على أنقاض ذاكرة مشتتة ليست أبعد من أفق النظر المادي المحسوب على البصر لا على البصيرة. بادئ ذي بدء إن القاعدة العامة في العلوم العسكرية تقضي بِأن الخاسر الأول قبل بداية أية معركة هو الجانب الذي ستدور مجريات الحرب على أرضه. أما في الشأن السوري فقياساعلى ما جرت به العادة خلال أي تدخل خارجي في المنطقة العربية فإن هذا التدخل الغربي في سورية لايغدو أن يكون إلا نسخة كربونية لسيناريوهات الدّمار الذي لحق فلسطينوالعراق وأفغانستان والصومال ومالي و السودان وكوسوفو على سبيل المثال لا الحصر. لما كان الغزاة في العراق وأفغانستان يستهدفون الأبرياء في الطرقات والمستشفيات والمساجد والمدارس والأسواق من مروحيات الإف سِكستين كان الإعلام العميل يصورهم مُشاةً يوزعون الحلوى والورود على أطفال هذه الدول . لو عدنا قليلا إلى تلك اللحظة من أجل استشراف المستقبل لوجدنا أن الإدارة الأمريكية في سنة 2003 كانت قد أعلنت عن كون حربها على العراق ستكون حربا "ذكية" كما وصَفَتها وأنها ستستهدف المواقع العسكرية لنظام البعث المَُؤيَّد من طرف روسيا دون إلحاق أي ضرر بالمدنيين وِفقاً لبروتوكولات معاهدة جونيف بأجزائها الأربعة هذا إذا كان الغرب يلجأ إلى سلطة المعاهدات قبل تبني لغة السلاح بِجِينِها الدارويني الإنتخابي الإنتقائي البِنيوي المؤمن بالتفوق العِرقي والعَقدي أولا وآخرا. كانت نتيجة تلك الحرب "الذكية" باختصارٍ جِدّ شديد أكثر من 1033000 قتيل منذ بداية الإحتلال إلى الآن و أكثر من 2000000 جريح وأكثر من 1000000 أرملة وأكثر من 4000000 مُيتّم وبِنية تحتية مدمَّرة و بلد بكامله مُعادُُ عقوداً من الزمن إلى الوراء ونقص تغذية وتلوث مياه وأوبئة واختطافات واغتصابات وحرب طائفية حَبكتها أمريكا وأزمات نفسية للعائلات واسنزاف ثروات ونهب المتاحف التي تحوي تاريخ البلد وإحراق المكاتب قصد القضاء على التراث الفكري والوعي الجَمْعِي للعقول العراقية واللائحة أطول. ماينبغي أن نفهمه نحن العرب والمسلمون هو أن الحروب ضدنا لم تكن في أي يوم من الأيام ذكية بِقدر ماكنا نحن أغبياء. وكأن التاريخ يزورنا مرة أخرى مع هذا الغزو المحتمل على سورية التي لا تحتاج الآن أبدا إلى خلط الأوراق أكثر وتأجيج الفوضى أبعد مما هو عليه الحال اليوم بقدر ماتحتاج إلى التخلّص من أطماع وحسابات ومضاربات هذه الجهات الأجنبية المترصِّدة لها. صحيح أنه لولا روسيا ودول إقليمية عميلة لما استمر نظام الأسد لكن صحيح كذلك أن التدخل الغربي ليس من أجل تخليص البلد والمنطقة من الظلم ولكنه من أجل شدِّ الحبل مع الغريم الروسي التقليدي بالأساس وإجهاض مخططاته هناك قصد ضمان الهيمنة الأمريكية الغربية لإعادة ترتيب البنية الجيوسياسية للمنطقة العربية لصالح الجارة إسرائيل التي تعتبر ولاية ملحقة في تصور البيت الأبيض.أما سورية فقد قُدِّر لها أن تبقى حلبة صراع و أرض معركة لضمان مصالح هذه البلدان ومقبرة لآلاف السوريين الأبرياء لا لشيء بل فقط لأنهم أرقام حساب مُعتمدة و سهلة في أجندات الوحوش الكبرى التي تتحرّك كما جرت به العادة تاريخيا على إيقاعات الحرب الباردة. لكن السيناريو الأعقد والأخطر المصاحب لهذا الغزو هو التقسيم المحتمل لسورية إلى أربع دويلات أو كيانات أو كانتونات متناحرة (سنية و علوية وتركية ودرزية ) كما وقع مع السودان والعراق من باب القياس في إطار مخطط تفتيت العالم العربي إلى دُويْلات متناحِرة. لما نتحدّث عن برنامج تفتيت العالم العربي إلى كيانات متفرّقة فإن ذلك ليس من باب الهلوسة الفكرية أو التنميق البلاغي لكننا نتحدث عن مشروع قائم وساري المفعول منذ الثمانينات إلى يومنا هذا. نذكر على رأس قائمة المنظرين لهذا المشروع الذي يمكن أن يطلق عليه اصطلاح "سايكس بيكو2 " الأكاديمي و المؤرخ للشرق الأوسط بيرنارد لويس ومستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق زبيغنيو بريجنسكي والرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر. لِجِدِّية الأمر فإن برنارد لويس وحده ألَّف 20 كتابًا عن الشرق الأوسط من بينها "العرب في التاريخ" و"الصدام بين الإسلام والحداثة في الشرق الأوسط الحديث" و"أزمة الإسلام" و"حرب مندسة وإرهاب غير مقدس". . . لقد تمت المصادقة على مشروعه المقَدِّم للخارطة المستقبلية للعالم العربي من طرف الكونجرس الأمريكي بالإجماع سنة 1983م تحديدا لِيَتِم اعتماد المشروع ضمن ملفات السياسات الأمريكية الاستراتيجية للعقود المقبلة. لهذا نقول أن نفس ما يُخطَّط سورية كان ولا يزال يحدث مع العراق والسودان. كما يرى المتتبعون ففي العراق لا زالت تعمل أمريكا ميدانيا على ترسيخ دويلة شيعية في الجنوب حول البصرة و دويلة سنية في وسط العراق حول بغداد ودويلة كردية في الشمال والشمال الشرقي حول الموصل (كردستان) التي تشترك فيها أطراف من الأراضي العراقية والإيرانية والسورية والتركية. أما بخصوص السودان فمُخطّط نظام الدويلات الصغيرة لا زال ساريا: دويلة النوبة و دويلة الشمال السوداني الإسلامي و دويلة الجنوب السوداني المسيحي و دويلة دارفور التي تعمل أمريكا على عزلها نظرا لإحتوائها على اليورانيوم والذهب والبترول. هذا دون ذكر مخطط التقسيم في دول عربية أخرى. إن سورية الآن باتت وشيكة على بدئ التقسيم والإقتتال في الداخل على أساس طائفي ما دام هذا العدوان الخارجي مرتقبا. إن أردنا العودة إلى حيثيات هذا الغزوالمحتمل في ظل هذا الإقتظاب الشديد نأمل أن لا تكون هذه الضربة بنفس درجة "ذكاء" سابقتها للعراق (نأمل ان لا تكون أصلا) ونأمل كذلك أن يكون المرحبون بالتدخلات الأجنبية في المنطقة بعد أخذ العبرة من التاريخ أكثر ذكاءً منذ الآن.