غادروا المغرب نحو العراق بعد أن باعوا كل ما يملكون، وأعمارهم تقل عن خمس وأربعين سنة، ليعودوا إليه نازحين وهم شيوخ، بعد أن تركوا وراءهم في العراق كل ما يملكون، ولم يحصلوا إلى حدود اليوم على تعويضات. بعدما طرق العديد من الأبواب استلقى في سكنه المؤقت في شبه استسلام، بجانبه إبريق شاي وفي الجانب الآخر منفضة بها اعقاب سجائر كثيرة. هكذا أصبح رياض المهاجر القادم من جمهورية العراق. الفلاح ذو الجسم النحيل الذي كان قد عمل في العراق لأزيد من عشرين سنة، لا يجد اليوم ما يسد به رمقه وعائلته الصغيرة. "ها نتا كاتشوف" هذا هو جوابه كلما سئل عن أحواله اليوم في المغرب. أما ابنه الشاب يوسف فقد شمر على ساعد الجد مجربا العديد من المهن، لكن النفقات تلتهم كل ما يربحه في الشهر ولسان حالها يقول: "هل من مزيد". أسرة رياض واحدة من الأسر المغربية التي عادت من العراق، إما بسبب حرب الخليج الثانية التي غزا فيها العراقالكويت، أو هروبا من الغزو الأمريكي على العراق. فكيف تعيش اليوم هذه الأسر؟ وكيف وجدت حربا أخرى بانتظارها بعدما هربت من الحرب هناك في العراق؟ سواعد الإصلاح الزراعي في الثمانينيات من القرن الماضي استقدمت الجمهورية العراقية عشرات الفلاحين من المملكة المغربية في إطار ما سمي آنذاك في العراق ببرنامج الإصلاح الزراعي، وقد تم ذلك على عهد صدام حسين رئيس الجمهورية العراقية والحسن الثاني ملك المغرب آنذاك، وفق بروتوكول وقع بين البلدين سمي ب"بروتوكول اتفاق بشأن العائلات المغربية الموفدة إلى القطرالعراقي قصد الاستيطان والعمل في ميدان الفلاحة". الحاج القاسمي رجل ثمانيني كان من بين الفلاحين الذين هاجروا إلى بلاد الرافدين آنذاك، رغم أن السنون عملت به عملها وفقد بصره، إذ لم يعد يرى إلا البصيص، إلا أنه مازال يتذكر بعض التفاصيل. "كانت الوقت زينة" و"كانت الظروف في العراق مزيانة". ما يجعل الحاج القاسمي يتحدث بهذه الطريقة هو ما تنص عليه بعض مواد البروتوكول الموقع بين البلدين خصوصا المادة الرابعة التي تقول: "تمنح لكل فلاح رب عائلة مغربية تنتقل إلى القطرالعراقي، دار للسكنى مؤثثة تحتوي على أربع غرف وجميع المرافق الصحية الضرورية، دون مقابل، بما في ذلك الإعفاء من مصاريف الماء، وتملك له بعد عشر سنوات". لكن الحاج القاسمي، الذي غزا الشيب لحيته وشعره، يتأسف كلما ذكر أحوال أبنائه الشباب، خصوصا عبد القادر الذي حصل على شهادة الباكلوريا في محافظة واسط بالعراق، وتابع دراسته في كلية العلوم السياسية بجامعة بغداد سنة 2002. لكن الغزو الأمريكي على العراق جعل الشاب رفقة عائلته ينزح نحو بلده المغرب منقطعا عن الدراسة، تاركا وراءه كل الوثائق التي تثبت تسجيله في كلية العلوم السياسية، اللهم بطاقة الطالب الخاصة به. لكنها لم تسعفه في متابعة دراسته بالمغرب، بعد أن رفضته كل الجامعات ليتحول اليوم إلى عامل بسيط بالعاصمة الاقتصادية. نقمة الفرنسية اختلاف المنهجين الدراسيين العراقي والمغربي جعل المدرسة المغربية ترفض عبد القادر وغيره من الشباب القادمين من العراق. في 1991 قدم الشاب محمد رفقة عائلته نازحا بسبب حرب الخليج الثانية، كان في مستوى الباكلوريا آنذاك، لكن عدم تمكنه من اللغة الفرنسية كان أكبر عائق أمام استكمال دراسته. اللغة الفرنسية التي تنعدم في المناهج الدراسية العراقية حرمت يوسف رياض كذلك من متابعة دراسته، فبعد أن قدم من العراق سنة 2003، سمح له بمتابعة دراسته في الجدع المشترك الأدبي، "تفاجأت عندما دخلت أول مرة إلى حصة اللغة الفرنسية فوجدت التلاميذ يحللون الرواية، وأنا لم أدرس اللغة الفرنسية قط" يقول يوسف. وبعد ثلاث سنوات من التعثر قرر أن يغادر المدرسة ويبحث عن عمل، خصوصا أن عائلته كانت في حاجة ماسة إليه. لم يأت الحاج القاسمي إلى المغرب نازحا هروبا من الحرب، بل إنه قدم إلى المغرب في زيارة خاصة إلى إخوته سنة 2001، تاركا أبناءه هناك في العراق، لكنه لما فكر في الرجوع إلى العراق تفاجأ بإجراءات معقدة فرضتها عليه سفارة العراق، الأمر الذي منعه من مغادرة التراب الوطني. ليظل أزيد من سنة وهو يتنقل بين الإدارات،" مللي بدات الحرب في العراق كنت غانتصطى، ولادي فالعراق والاتصال معاهم مقطوع، ما عرفتهم حيين ولا ميتين" هكذا قال وأصابعه تعبث بلحيته البيضاء. لم يهنأ للحاج القاسمي بال إلا بعد دخول أبنائه إلى المغرب. في أحد مقاهي مدينة زاكورة يتأرجح النادل اسماعيل بين الجالسين، وقد رسمت شفاهه ابتسامة مصطنعة تخفي الكثير من المعاناة. هذا الشاب الذي لم يعمل طول حياته إلا في ميدان الفلاحة وجد نفسه مضطرا للعمل نادلا في المقهى ليعيل أسرته. اسماعيل لا يتأسف على وضعيته كثيرا، بل ما يحز في نفسه هو حال أخيه سليمان الذي حصل في العراق على دبلوم من كلية العلوم التطبيقية، لكنه لم يسعفه في متابعة دراسته بالجامعة المغرب أو العمل في سوق الشغل. ليسلم الروح لبارئها متأثرا بمرض الربو قبل أن يجد عملا. يستغرب اسماعيل للطريقة التي استقبلهم بها المسؤولون بعد أن عادوا من العراق. فبعد أن غزت بريطانيا والولايات المتحدةالأمريكيةالعراق، اضطرت العديد من العائلات المغربية إلى النزوح إلى دولة الأردن التي ظلوا فيها لشهور في مخيم للنازحين. في ذلك الوقت، يقول، أحد الشباب الذي عاش تلك المرحلة ل"هسبريس: "كنا نتواصل مع سفير المغرب في الأردن، الذي كان يزور المخيم بين الحين والآخر". إذ الأسر المغربية النازحة إلى الأردن لم تكن لديها في البداية نية الدخول إلى المغرب في ذلك الوقت، بل إن كثير منها كان ينتظر أن تضع الحرب أوزارها ليعود إلى منزله وأرضه الفلاحية بالعراق، لأنها أصبحت ملكا له وفق البروتوكول الموقع بين المغرب والعراق. لكن استمرار الحرب وإلحاح سفير المغرب بالأردن جعلا الأسر النازحة تتوجه إلى المغرب. "أقنعنا مسؤولو السفارة المغربية بالأردن بالدخول إلى المغرب، بعدما طمأنونا بأننا سوف نجد فور وصولنا إلى المغرب منزلا مؤثثا وأرضا فلاحية نعمل فيها، ويستمر وضعنا كما هو في العراق تماما" يقول يوسف أحد الشباب القادمين من العراق سنة 2003. بعد وصول العائلات المغربية إلى المغرب تفاجأت بالكمين الذي أوقعها فيه السفير المغربي في الأردن، فلا أرض فلاحية في المغرب ولا منزل مؤثث، بل إن كل ما في الأمر حيلة استعملها السفير هناك في الأردن لجعل الأسر المغربية ترحل عن الأراضي الأردنية. لتجد نفسها في المغرب مكدسة في مخيم بشاطئ طماريس بالعاصمة الإقتصادية، الذي ظلت فيه خمسة عشر يوما. رغم أن ظروف العيش قاسية جدا، إلا أن الأسر المغربية النازحة من العراق اختارت أن تظل هناك ولا تبرح مكانها إلا بعد أن يجد لها المسؤولون حلا، أو يقدموا لها ضمانات. لكن تعنث الأسر قابله عنف وقوة من المسؤولين، فرجال الأمن هم من تكلفوا بإخراج هذه الأسر وترحيلها نحو العمالات والأقاليم التي تتحدر منها، وهي عمالات زاكورة ورزازات والرشيدية. ليجدوا أنفسهم مرة أخرى في مآوي لا تليق بالسكن. فالمتحدرون من مدينة زاكورة وضعتهم السلطات المحلية في مقر جمعية خيرية لثلاث سنوات قبل أن تؤجر لهم بيوتا في حدود 500 درهم للشهر، الشاب محمد الجبوري يرى في تعامل السلطات معهم تنصلا تدريجيا منهم. فهذه الأخيرة خصصت لهم مؤنا شهرية تقدر بحوالي 700 في كل شهر، لكنها اليوم تتنصل منها، فقد اضطر أب محمد إلى العمل رغم أن من في سنه أحيلوا على التقاعد، أما أخته فقد فضلت العمل في دولة قطر بعدما لم تجد عملا في المغرب. "هذا ماشي حل، الناس اليوم كايطالبو بتعويضات، باعتبارهم ضحايا حرب تركوا أملاكهم هناك في العراق" هكذا قال أحمد وهو شاب يعمل اليوم نادلا في المقهى. وهو الكلام الذي يؤكده كل من التقته "هسبريس" من العائلات القادمة من العراق. فكلهم ترك في العراق منزلا مكونا من أربع غرف وحظيرة وأرض فلاحية من عشرة هكتارات، ومنهم من يمتلك جرارا ورؤوس ما شية باعها بأبخس الأثمان نظرا للحرب. ناهيك عن أرصدتهم البنكية التي تجمدت هناك ولا يعلمون مصيرها. اليوم وعدتهم السلطات بأن تسلمهم مأذونيات نقل، فتنصلت من وعدها بعد أن أعطت لكل أسرة رقما على أساس أنه رقم مأذونية النقل التي سوف تحصل عليها. المادة الثانية من البروتوكول الموقع بين المغرب والعراق تقول:" ..يجب ألا يزيد عمر الفلاح رب العائلة الموفدة عن خمس وأربعين سنة، وألا يكون مالكا لقطعة أرض زراعية في القطر المغربي"، هذه المادة جعلت العديد من الفلاحين المغاربة يبيعون كل ما يملكون ليتمكنوا من الهجرة إلى العراق في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، ما جعل معاناتهم تصبح مضاعفة لما عادوا إلى المغرب نازحين. سابقون ولاحقون قبل أن تنزح أسر مغربية من العراق في اتجاه المغرب في سنة 2003 بسبب الحرب الأمريكية على العراق، كانت قد نزحت أسر قبلها في سنة 1991 بسبب حرب الخليج الثانية. إثنان وعشرون سنة كانت كافية لكي يندمجوا وأبناءهم في المجتمع المغربي، ويجدوا موارد رزقهم، لكن ذلك لا يعني حسب الحاج أحمد،أحد هؤلاء، أن "نسمحو فحقنا". هذه الأسرة النازحة من العراق في سنة 1991 لم تيأس من المطالبة بتعويضاتها عن الأملاك التي تركتها في العراق، هذه التعويضات التي تقدمها الأمم، وليس على السلطات المغربية إلا أن تقوم بالإجرءات اللازمة وتقدم ملفات هذه الأسرة كي تصلهم تعويضاتهم. فبعد أن توصلت وزارة الخارجية من الأممالمتحدة بملفات التعويضات الخاصة بضحايا حرب الخليج بداية التسعينيات، صرح الفلاحون النازحون من العراق بالأضرار التي لحقتهم جراء حرب الخليج. ولم تكن الأضرار ما تركوه من ممتلكات فقط، بل إنهم تركوا أرصدة بنكية هناك، إذ كان يسمح لهم حسب البروتوكول الموقع بين الدولتين بتحويل 50 في المائة من أموالهم فقط نحو المغرب حسب المادة العاشرة من البروتوكول. وقد سبق لمحمد الشدعي وغيره من الفلاحين النازحين في التسعينيات أن قدموا طلبات بالحصول على تعويضات إلى الهيئة الأمميةجنيف تتوفر "هسبريس" على نسخ منها، لكن جواب هذه الهيئة كان آنذاك بأنها لا تتعامل مع الأشخاص الذاتيين، بل إنها تتعامل مع المؤسسات فقط. الأمر الذي جعل هذه الأسر تنتظم في جمعية سميت "جمعية الفلاحين النازحين من العراق"، التي راسلت العديد من الجهات منها وزارة الخارجية المغربية والسفارة العراقية، لكنهم إلى حدود اليوم لم يتوصلوا سوى بتعويضات عن النقل بين العراق والمغرب لم تزد عن خمسين ألف درهم للأسرة. في 2006 راسل الفلاحون النازحون من العراق مؤسسة الحسن الثاني المكلفة بالجالية المغربية المقيمة بالخارج مستفسرين عن تعويضاتهم. من مخيم الرويشد بالأردن إلى مخيم شاطئ طماريس بالعاصمة الاقتصادية، إلى مقر إحدى الجمعيات الخيرية بزاكورة، إلى بيوت مكتراة. هكذا تنصلت الدولة المغربية من الأسرة النازحة من العراق سنة 2003. أما الأسرة التي نزحت في حرب الخليج الثانية سنة 1991 فلقد تنصلت منها الدولة منذ وقت بعيد. لكن المطلب الذي يجتمع عليه اليوم هو تعويضاتهم عن الأضرار التي لحقتهم جراْ حربي العراق.