نحو هندسة حكومية بروح خطاب العرش لسنة 2019 وتوجهات النموذج التنموي الجديد يجمع الفاعلون بمختلف مشاربهم، المؤسساتيون منهم أو المدنيون، المحليون أو الدوليون (الاتحاد الأوروبي، صندوق النقد، البنك الدولي، الخ) على أهمية تلافي عائق الهندسات الحكومية الحالية أمام كل طموح تنموي أو برامج تطمح إلى النجاعة ودخول معترك التصنيف بناء على مؤشرات الأثر على البيئة المستهدفة في مختلف مجالات السياسات العمومية. لقد جرب التاريخ السياسي الراهن المغربي خلال العشرية الأخيرة موضة اختزال الحقائب الوزارية في مجرد تجميع مفاهيم ومجالات ليست بالضرورة متجانسة، حيث أبان حاملو تلك الحقائب في عدة مناسبات عن عدم إلمام وفهم لتلك المفاهيم منفردة، فبالأحرى إن ضرب بعضها ببعض في إطار حقيبة وزارية أو قطاع مركب حتى من أربعة واوات العطف والمجالات. هكذا ولدت من رحم موضة القاموس السياسي الحكومي حقيبة سميت وزارة العلاقات مع البرلمان والمجتمع المدني، لم يحفظ لها التاريخ السياسي المغربي أكثر من تنظيم بضع دورات لجائزة سميت قسرا جائزة المجتمع المدني، فيما حقيقتها المؤلمة المغربية جدا- وعلى غرار معظم الجوائز العامة للأمانة- أنها مناسبة لمجاملة مناضلات ومناضلي الحزب المشرف على الاحتفالية بشيكات من المال العام. وخلقت وزارة منتدبة مكلفة بالمغاربة المقيمين بالخارج، تحول أداؤها إلى مجرد واجهة لمحاربة البطالة في أوساط شبيبة المنتدب والمنتدبة، والتسابق مع الوزارة غير المنتدبة على فتح أظرف دعوات للسفريات وحضور التظاهرات والمعارض الدولية لأعضاء الديوان غير دبلوماسي المنشأ والتكوين والكفاءة. وتابع الرأي العام الوطني كيف أجهز وزير على ما تبقى من بدعة وزارية سميت وزارة "الثقافة والاتصال ثم الشباب والرياضة والثقافة"، فانقلبت وعود "ترييض الثقافة وتثقيف الشباب" عبثا وإرجاعا لمؤسسات القطاع إلى عهود اللا-ثقافة وممارسات العهد القديم والشوكة، حيث صار أمر العبث بمسؤولية الآمر بالصرف وكراسي مؤسسات وطنية أمرا سهلا وفي متناول حتى موجزين في الأدب العربي، لا بل متاحا أيضا ل"مساخيط الدولة والحكومة"، وصارت مع هذا الوضع الشاذ مهمة الاتصال العمومي مجرد امتياز لتلميع صورة وزير فاشل، ولاغتصاب ما تبقى من شرف مهنة الصحافي، الذي حول بكسر الواو لمجرد ملحق علاقات عامة بمحلات ومواسم الوزير، بعيدا كل البعد عن الروح الرقابية للسلطة الرابعة. كما تابعنا كيف أن وزارة منتدبة مكلفة بالتعليم العالي لم تقدم للبلد أكثر من تسابق على فتح أظرف الدعوات للسفريات وتركت الأورام والأزمات الوجودية للتعليم العالي، كالفساد وضعف التأطير وضعف الحكامة بالجامعة، والزبونية والرشوة مقابل التسجيل، تنتعش وتتجدر أكثر، فصارت النقابة الحزبية مؤثرة في القرار الحكومي بالقطاع أكثر من برنامج وتصور الوزير والحكومة التي بوأها النظام الدستوري مكانة السلطة التنفيذية المسلحة بالإرادة الأحادية والمفرطة . فكيف يمكن لهندسة حكومة الرئيس المكلف عزيز أخنوش أن تستجيب لاستحقاقات النجاعة التدبيرية كما وجه إلى ذلك خطاب العرش لسنة 2019؟. لمواجهة إشكال ضعف فعالية والتقائية الفعل الحكومي، يتعين على الفاعل المؤسساتي استيعاب أهمية استحضار كل هندسة حكومية المفهوم المركزي المعروف في مجال التدبير العام ب"الهرم المقلوب"، الذي يعني باختصار إخراج الفعل العمومي من ثنائية الإدارة الحاكمة/المواطن المحكوم صاحب طلبات، لتدخل لإطار ارتفاقي مؤطر بأخلاقيات المرفق العام والنجاعة والأداء المبني على مؤشرات الأثر والرضا المواطن. هذا الإطار الذي يجد امتداداته في الطموحات الدستورية الساعية إلى تكريس توجهات الحكامة الرشيدة والإصلاح الإداري والحكومة المفتوحة، وكذا في المقتضيات ذات الصلة بالتنصيص على لزوم عمل أشخاص القانون العام ومؤسسات الدولة على ضمان ولوجية فعلية ومتساوية للحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والبيئية من طرف المواطنات والمواطنين. بناء على ما سبق، من الأهمية بمكان أن يستحضر القائمون على الهندسة الحكومية الجاري وضعها مبادئ مؤطرة سأقتبس لها مفهوما من عالم اليقظة الإستراتجية؛ ويتعلق الأمر بما يسمى العوامل الحاسمة للنجاح لذلك الهيكل الحكومي، التي أجملها في أربعة مبادئ أساسية: أولا : استعجالية القطع مع المونتاج والتركيب العشوائي في اختيار نوموكلاتورا الحقائب الوزارية: على هذا المستوى، تتبع الفاعل المؤسساتي والمواطن كيف اضطرب تسيير عدة مؤسسات في الولايتين السابقتين بسبب اللا- تنسيق والإهمال وعدم تمكن الوزراء من ضمان تدبير عدة مؤسسات وضعت رهينة تحت سلطتهم، بحيث أعطى الأمر انطباعا بوصول الفاعل الحكومي إلى ما يشبه إجهادا منظوميا وصل إلى حد إقدام رئيس الحكومة على التوقيع على مراسيم تعيين مديرين لم يشاركوا في مقابلات الوزراء المفوضين مثلا. ثانيا: الحرص على العودة إلى التصنيفات النظامية المتعارف عليها في العلوم السياسية والتدبير العام، والتي لا تتجاوز عموما 15 قطاعا رئيسيا، مع هامش صغير يتاح لقطاعات ذات أولوية، تخلق لها قطاعات من منظور إرادة الدول النهوض بها وتطويرها، كوزارة مكلفة بالأمازيغية وللانتقال الرقمي والبيئة والنزاهة ومحاربة الفساد بالنسبة لحكومة ببرنامج كبرنامج حزب التجمع الوطني للأحرار. ثالثا: القطع مع المقاربة الريعية في توزيع الحقائب على القطاعات الاجتماعية: إن المتتبع لحصيلة التدبير المزدوج للقطاعات، عن طريق وزير ووزير منتدب، يتأكد مجددا من أن التصور اليعقوبي للسلطة القائل إن "السلطة غير قابلة للتجزيء" يتأكد مجددا، إذ إن الوزارات المنتدبة خاصة في القطاعات الاجتماعية مسؤولة أيضا عن إشكالية ضعف التنسيق والالتقائية وتفشي الزبونية في المرفق الحكومي، وهو ما يجعل من تجاوز هذه المقاربة المبنية على التدبير برأسين أمرا ملحا لتطوير الأداء الحكومي. رابعا: يبدو من الواجب الوطني وضع حد لاستنزاف المال العام من مراكز المدراء المركزيين بالهياكل التنظيمية للقطاعات الوزارية، التي تحولت إلى مراكز بطالة مؤدى لها بتعويضات جزافية غير مستحقة وسكن وظيفي وسيارات، نجد منها مدير الرقمي خلقت لمهامه مؤسسة ضخمة ولم يلغ منصبه في الهيكل التنظيمي الوزاري القطاعي المعني، وترك صنبور مدير العلاقات العامة في قطاع الاتصال، رغم إلغاء القطاع برمته وخلق مؤسسة وطنية للصحافة وناطق باسم الحكومة خارج الهيكلة الإدارية، وترك مدير مركزي مكلف بالجالية بالخارجية رغم أن وزارة منتدبة صنعت بشارع فرنسا وتلتهم ملايين الدراهم من المال العام شهريا؛ كما تركت مديريات للصناعة التقليدية في وزارة السياحة رغم أن الصناعة التقليدية باتت قطاعا وزاريا قائم الذات، وأريد لمديريات المقاولات الصغيرة والمتوسطة أن تعيش بالوزارة الأم لردح من الزمن رغم خلق مؤسسة بعدة طوابق سميت الوكالة الوطنية للنهوض بالمقاولة الصغرى والمتوسطة. على المستوى الوظيفي، ضمانا لأحسن انعكاس للإرادة الشعبية في الحكومة المقبلة، يمكن القول إنه انطلاقا من القطاعات ذات الأولوية في المرجعية التعاقدية للحزب المكلف بتشكيل الحكومة، يمكن تكثيف الهندسة الحكومية في ثلاثة أقطاب محورية: *قطب وزارات السيادة. *قطب القطاعات الاجتماعية. *قطب الحكامة العامة. هذه الهندسة الفوق- قطاعية يمكن أن تترجم قطاعيا من خلال الهيكل الوظيفي القطاعي التالي: -1-وزارة تكنولوجيا الإعلام والاتصال والبريد والمواصلات، ناطقة باسم الحكومة: هذه الحقيبة ستساعد على جمع كل مؤسسات التكوين في مجال تكنولوجيا المعلومات، كما ستسهل مهمة وضع سياسة عمومية رقمية مستقبلا. -2-وزارة الطاقة والمعادن والبيئة والنجاعة الطاقية. -3-وزارة المالية والمقاولات العمومية. -4-وزارة الصناعة والتجارة والشؤون الاقتصادية والشغل. -5-وزارة التربية والشباب والرياضة والمجتمع المدني. -6-وزارة الشؤون الاجتماعية. -7-وزارة الوظيفة العمومية والإصلاح الإداري. -8-الأمانة العامة للحكومة مكلفة بالتنسيق الحكومي. -9-وزارة التجهيز والنقل والتنمية اللوجستيكية والإسكان والتعمير. -10-وزارة تأهيل العالم القروي والتنمية الجهوية. -11- وزارة التعليم العالي والبحث العلمي. -12-وزارة الداخلية. -13-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية. -14- وزارة الشؤون الخارجية والتعاون الدولي. -15-وزارة الصحة والحماية الاجتماعية: هذا القطاع يمكن أن يعزز وظيفيا باختصاصات وموارد مؤسسة الاحتياط الاجتماعي –أكابس- ووكالة التأمين الصحي –أنام- من خلال تحويل اختصاصات الأولى لمفتشية عامة للحكامة الصحية بموارد هامة كفيلة بمواكبة الورش الملكي المهيكل للتغطية الصحية، وذلك من خلال تعزيز آليات الرقابة على متعهدي الخدمة العامة الصحية. (*) باحث في القانون العام الدولي