عوض أن ينزفوا دموعا من أعينهم اختاروا أن تستنزف الدماء من عروقهم، وعوض أن يبسطوا أياديهم للتسول في الشوارع، بسطوا أذرعتهم لشوكة الممرض تمتص ملمترات من الدم، وتحقنهم لترات من المرارة. جعلوا من أبواب المستشفيات ومراكز تحاقن الدم مقرا لهم فيما يشبه "الموقف". شباب في مقتبل العمر لم يبذلوا جهدا للاحتكاك بالأمل وآخرون اعتزلوا الحياة، طرقوا كل الأبواب، استنفذوا كل الخيارات وباعوا أنفسهم لسماسرة "الذهب الأحمر" في لعبة العرض والطلب. تجارة رائجة طيلة السنة تركد في الحملات الوطنية للتبرع بالدم، وتستأنف حركيتها بنشاط عندما ينفذ مخزون بنوك الدماء. دراكولا العصر الجديد بعد بحث مضن عن مصاص الدماء، الذي "يبزنس" في معاناة المرضى وآلام العاطلين، اتصلت بحارس سيارات مستشفى بن سيناء بالرباط، وبعد أن سألته عن مكان الشخص المعني، أجابني، إذا كنت تقصدين السمسار "راه فطوموبلتو"، فسألته مرة أخرى "مالو كيبيع فالديور ولا فالطوموبيلات"، فأجابني متهكما،"كيبيع ويشري فبنادم". قصير القامة، أسمر البشرة، يقبع في سيارته "المرسيديس" طيلة اليوم يراقب فرائسه، لا يفقه اللغة العربية ولا يميز بين "الألف والباء"، أمي على حد قول حارس السيارات، لكنه يتقن لغة الدماء، ويميز بين الفصائل الدموية منA و B و AB و O- و O+. يحفظ أسماء، أرقام، ورموز زبنائه من ممتهني "بيع الدم". متعدد الاختصاصات، لا يضيع وقته في انتظار الباحثين عن الدم لغرفة المستعجلات فقط . من جهة يتاجر في تزوير شواهد طبية بمساعدة موظفي بعض المصالح داخل المستشفى، ومن جهة أخرى يتوسط للراغبين في إجراء فحوصات "السكانير" ممن استبعدت مواعيد فحوصهم لشهور وأسابيع. تكفي كلمة منه لكي تعمل بشكل فوري، الآلة التي صرف بسبب "عطبها" مواطنون صدقوا الكذبة. "ماكينة" طبية عجيبة لا تختلف عن آلة صنع القهوة ومخدع الهاتف العمومي، فثلاثتهم يعملون بمبدأ " ضع النقود قبل الاستعمال". هاتفه دائما مشغول... على مدى يومين وفي المرة الوحيدة التي أجاب فيها " عفاك اتصلي بي فيما بعد" أثناء تلك المكالمة كان منشغلا بالحديث مع شاب تبدو عليه ملامح الفقر والحاجة، لم يكن إلا بائعا لدمه تقمص دورا وهميا تعاونا مع "هسبريس" . البائع" الممثل" ادعى أنه مرسل ومؤمن من طرف شخص آخر وكونه في أشد الحاجة إلى بيع دمه بأي ثمن كان، نظرا لإدمانه الشديد على المخدرات ليستجيب له السمسار ويطلب منه ترك معلوماته ورقم هاتفه، أو المداومة أمام المستشفى كل صباح كباقي الشبان الذين يتواجدون بالخصوص ما بين التاسعة صباحا إلى حدود الواحدة بعد منتصف اليوم. بعد انتهاء "المشهد" اتصلت به، وأخبرته بأن" والدتي مريضة وتحتاج لتغيير دمها كل شهر، ولم نجد أي شخص من فصيلة دمها، هل من مساعدة، وبأي ثمن ..." لم ينتظر أن تكتمل الجملة ليقاطع قائلا " راه كاينة الحملة دابا ألالة والدم موجود، وأنا ما عندي تا دخلة بهادشي" ويغلق الهاتف بانفعال. انطوت عليه الحيلة الأولى فيما انزعج من الثانية، لأنه لا يرى مخاطبه بشكل مباشر، أو ربما لأن الصوت لم تظهر عليه نبرة الاستعجال والحزن، اللذين اعتاد عليهما في سنوات احتكاكه باستنجاد أقارب مرضى على فراش الموت. بائع دم وأفتخر ثلاث مرات في السنة بالنسبة للنساء، وخمس مرات بالنسبة للرجال، هو العدد المسموح به قانونيا للتبرع بالدم تناسبا مع معدل القدرة الصحية والتحملية لكل شخص، لكن "با السلاك" خرق القاعدة، فمنذ أواخر الثمانينات إلى حدود سنة 2000 "تبرعت بدمي لأكثر من 100 مرة"، يقولها بكل افتخار مؤكدا أنه في كل مرة كان "يتبرع" بدمه، كان يحصل على مقابل مادي يتراوح ما بين 50 و 200 درهم وأحيانا أخرى " كنت أقوم بفعل الخير في سبيل الله وأكافأ بقوة أو مبلغ مالي لا أشترط فيه" "با سلاك" كان معروفا هو و"عصابته" كما يصفهم مازحا، بقوة تحملهم الجسمانية، إذ كانوا يستمتعون بالانتقال من مستشفى إلى آخر والاستجابة لتوسلات أشخاص أقرباؤهم يحتضرون، ويضيف قائلا " كنت في بعض الأحيان أتبرع حتى ثلاث مرات في اليوم، والحمد الله هانا بخيير ما عندي والو، صحيح مع راسي" مستعرضا عضلاته التي ترهلت"إذا مشات الصحة يبقاو حروفها". يبلغ من العمر 63 سنة، أب لأربع بنات، سقطت صورة إحداهن من محفظته وهو يسارع إلى إظهار بطاقة تبرعه التي مزقتها طيات الزمن، يستحضر معها ذكرياته في تلك المهنة " أنا ديك الساعة كنت مبلي الله يحفظكم، واللي عطاوني كنقبل به" لكنه يؤكد كل مرة بأنه كان يقوم بذلك لوجه الله، باحثا عن "الأجر" في الآخرة، لكنه يأخذه نقدا قبل الوصول إليها. فيما السؤال الذي يتحاشى "با السلاك" الجواب عنه هو كيف يعقل أن تتبرع بدمك 3 مرات يوميا، ولا يتذكرك الممرضون المسؤولون عن أخد الدم؟ ليجيب متلعثما "لم نكن نتبرع في مكان واحد، كنا نجوب أقسام المستعجلات في كل المستشفيات إلى أن تتم الدورة لنعود إلى المكان الأول" ويضيف شارحا" وأحيانا كنا نتخفى ونغير ملابسنا لكي لا يتم التعرف علينا. "با السلاك" الذي يعمل حارس سيارات أمام مستشفى الولادة بالرباط يعاني من مشاكل صحية على مستوى الأمعاء، وينفي أن يكون لذلك علاقة بتاريخه في التبرع بالدم " مستعد لأن أعطي دمي وأنا في هذه السن، لكن ما أحزنني أنهم رفضوا أن يجروا لي التحاليل بمركز تحاقن الدم" ويتناقض مع أقواله السابقة " مع العلم أني كنت معروفا في المركز بتبرعي المستمر، لكنهم رفضوا إجراء التحاليل مجانا رغم توفري على البطاقة". بعد الانتهاء من الحديث مع "با السلاك" استدرجنا خفية أحد الباعة المتجولين الذي يتخذ له مكانا دائما أمام المستشفى موضحا " مازال يبيع دمه ويرفض الإفصاح عن ذلك، لذلك رفضوا استقباله في مركز تحاقن الدم". "اللهم نبيع دمي ولا شرفي" هكذا تجيب السعدية التي تقارب الأربعينيات من عمرها والتي تداوم على مستعجلات ابن سينا هي الأخرى، بعدما اختارت الفترة الليلية، إذ تستفيد من حوادث السير التي ترتفع وتيرتها ليلا بسبب حالات السكر، فكلما غرق الجرح كلما نزف الدم واشتدت الحاجة إليها. وجه شاحب ويدان ترتعدان، تحكي السعدية " أقوم بهذه المهنة منذ أكثر من خمس سنوات، وأجد أني في حالة صحية تسمح لي بذلك، ولحد الآن لا أعاني من أي مرض الحمد الله". لا تحتاج لسمسار، تتربص بالحالات المستعجلة وغياب أقارب المريض أو عدم تطابق فصيلتهم الدموية مع قريبهم، للتدخل عارضة خدماتها بشكل سلس دون أن تثير انتباه أي من المسؤولين، وقد يصل الثمن في بعض الأحيان إلى 700 درهم. السعدية وغيرها يستفيدون من عدم تمكن الأقارب من التبرع بالدم، إما لأنهم مسنون أو لكونهم مرضى أو أن المستشفى يحتاج لصنف معين من الدم يكون نادرا، كالفصائل السالبة التي يرتفع سعرها لندرتها في السوق السوداء. يتقدمون على أنهم أقارب للمريض أو متبرعون في "سبيل الله" في عملية تتم بين الوسيط والبائع والمشتري ويأخذ فيها عمولته من الطرفين. مبالغ مالية أحيانا زهيدة وأحيانا أخرى تصل إلى 3000 درهم فما أكثر حسب نوعية الزبون، درجة احتياجه للدم، ومدى نفاذ مخزون الدم من المستشفى. مبالغ يجنيها البائعون لكنهم يجهلون أنهم قد يخسرون الأضعاف المضاعفة منها في معالجة أمراض قد تنتج عن الإكثار من "بيع الدم"، كالنقص في الكريات الحمراء والبيضاء في الجسم، وتزايد احتمال الإصابة بأمراض فقر الدم والأنيميا. مكره أخاك لا متبرع تشرح الدكتورة حجوي بمركز تحاقن الدم بالرباط، كيف يمر دم المتبرع بمجموعة من المراحل الأساسية أولها التسجيل في الاستقبال، ثم وبعد المرور إلى قاعة الفحص وإجراء محادثة أولية مع الطبيب يتم أخذ من 400 إلى 450 مللتر أو ما يساوي 7 في المائة من الكتلة الدموية، توضع في كيس خاص لا يسمح بتسرب الأوكسجين والجراثيم. بعدها يتم إجراء الفحوصات اللازمة على العينة لتحليل مدى خلوها من الأمراض المتنقلة عبر الدم كفقدان المناعة المكتسبة (السيدا)، "السفليس" أو الزهري والتهاب الفيروس الكبدي "ب" و"ج". في حالة كون الفحوصات سلبية فإنه يتم تقسيم تلك العينة إلى ثلاثة أنواع: كريات الدم الحمراء التي تساعد على علاج فقر الدم والنزيف الدموي، و"البلاكيت" أو مركز الصفائح الذي يستعمل لإيقاف النزيف الدموي ثم "البلاسما" وهو العنصر الذي يحتوي على البروتينات المضادة أساسا للتخثر. إذ تختلف مدة صلاحيتهم على التوالي بين 42 يوم، 5 أيام وسنة كاملة. حسب دورية وزير الصحة الموقعة مع وزير المالية والخوصصة سنة 2004، حددت تعريفة الدم البشري في 360 درهم، ويباع كيس الدم ب700 درهم، ويبرر بالثمن المرتفع للأكياس المستوردة من الخارج التي تمنع تختر الدم وتغذي الخلايا، إضافة إلى اليد العاملة وتكاليف التحاليل. ثمن يزداد ارتفاعه مع عدد الأكياس المطلوبة في كل حالة قد تصل إلى 18 كيسا في بعض العمليات الجراحية التي تستلزم حقن الدم. قيمة مالية مقابل كيس الدم يسميها الأطباء والمسؤولون الصحيون "تكاليفا" لتحضير الكيس، فيما يسميها المواطنون "ثمنا" ما دام يؤدى من جيوبهم ولا يتقنون اللعب بالكلمات. بعدما يبدأ عمل الوسيط خارج أسوار المستشفى وفي الخفاء تدخل على الخط عمليات "سمسرة أخرى" فالمحتاج للدم يقدم طلبا موقعا من طرف الطبيب المعالج بالمصحة، يحتوي على عدد الأكياس المطلوبة والصنف الدموي للمريض، تؤدى فاتورتها في الصندوق التابع للمراكز الاقتصادية للمستشفى. "في حالات عديدة ورغم توفر مخزون مهم من الدم يرفض تسليمها إلى المريض بدعوى نفاذها" يقول أحد المصادر من داخل مستشفى ابن سينا بالرباط. ويضيف شارحا " هي عملية متفق عليها بين الوسيط والمكلف بتسليم الأكياس وبائعي الدم" عدم وجود الدم يدفع المريض إلى البحث عنه من مصادر أخرى أقربها سماسرة يتربصون به يتفاوضون على ثمنه، وفي لحظة الاتفاق يظهر البائع تحت غطاء المساعدة الإنسانية، إذ يصاحب المريض أو عائلته باعتباره متبرعا أو من أسرة المحتاج، وتقتسم الحصة بين المسؤول الطبي، الوسيط، والبائع، بدرجات متفاوتة يعتبر المزود بدمائه فيها الحلقة الأضعف. هو مثلث يحافظ على قاعدة السوق ومبادئ العرض والطلب، واحتكار الفصائل الدموية النادرة ك O- التي لا تأخذ إلا من نظيرتها إضافة لO+ التي يتزايد الطلب عليها لإمكانية تزويدها كل الفصائل الأخرى. في زمن التصنيع مازال الدم مادة ثبت علميا أنه لا يمكن إنتاجها ويبقى الإنسان الوحيد القادر على "التبرع به" لمساعدة الأشخاص المصابين بالسرطان والأمراض المستعصية، وكذا زراعة الأعضاء والعمليات الجراحية التي يحتاج أصحابها إلى الحقن بالدم. 16 مركزا جهويا لتحاقن الدم، و24 فرعا للتحاقن، و13 بنكا للدم هي عدد المراكز المنتشرة في المغرب تلجأ إلى تعويض 40 في المائة من الدماء المخزنة إليها، بأن تطلب من عائلة وأقارب المريض التبرع لحسابه لتعويض النقص الحاصل في مخزونها. "غياب ثقافة التبرع بالدم يجعل أقارب المرضى أحيانا يتهربون من ذلك، بل وقد ينكرون صلة القرابة، إضافة إلى ارتفاع العجز في فصل الصيف بفعل تزايد عدد حوادث السير." يصرح أحد الأطر الصحية بمركز تحاقن الدم. عجز الميزان الدموي حسب آخر الإحصائيات فنسبة تبرع الفرد من مجموع السكان لا يتجاوز 0.85% ، فيما منظمة الصحة العالمية تضع نسبة 3% كحد أدنى من أجل الاستجابة للحاجيات والاطمئنان على مخزون البنوك الدموية. في المقابل تشير إحصائيات وزارة الصحة أن استهلاك الدم ومشتقاته يرتفع سنويا ب28 في المائة، في حين لا يرتفع التبرع بالدم سوى ب7 في المائة سنويا من السكان ما بين 18 و65 سنة، مما يحتم ضرورة البحث عن تغطية الحاجيات من كميات الدم. بنوك دموية في حاجة مستمرة للتبرع على مدار السنة، إذ لا تكفي الحملات الموسمية لتعويض "فساد الدم" بعد 42 يوما من التبرع به وخمسة أيام ل"بلاكيت". الجهود المبذولة تهدف إلى الحصول على ما يقارب 200 كيس يوميا لتحقيق نسبة مطمئنة من الاحتياطي، فيما لا يتجاوز عدد الأكياس 100 كيس يوميا، دونما حساب الحالات الاستثنائية كحدوث كوارث طبيعية أو وقوع حوادث سير خطيرة . وتسجل أغلب حالات التبرع بالدم في حوادث السير وجرائم القتل والعمليات الجراحية التي تحتاج الحقن بالدم، كفقر الدم واللوكيما التي تستوجب على المريض استبدال دمه كل شهر للبقاء على قيد الحياة. أن تكون بصحة جيدة تزن 50 كيلوغراما أو أكثر، خالي من أي مرض ينتقل عبر الدم ولا تتناول أي دواء هي الشروط التي تكفل لك حق التبرع لبنك الدم، مقابل بطاقة تخول المتبرع الحصول على نفس عدد الوحدات التي تبرع بها عند الحاجة، لكن صفاء طالبة من مدينة المحمدية تؤكد كيف أنها تبرعت بالدم لمرات عديدة لكنه وبعد مرض أحد أقربائها لم يشفع لها ذلك في الحصول على أكياس دم مجانية. دم "سيدنا" "تنبشون، تنبشون في كل شيء ولا يرتاح لكم بال إلا بعد أن تغلقوا جميع ثغرات رزق الناس" هكذا ينهرنا أحد حراس الأمن بالمركز الاستشفائي السويسي بعدما اشتم رائحة الصحافة. قبل أن يعود من جديد " بيني وبينك تا الحملة ديال سيدنا قطعت الرزق هاد اليامات". الحملة الوطنية التي انطلقت على إثر تدشين المركز الجهوي لتحاقن الدم من مدينة فاس من طرف الملك محمد السادس يوم 8 مارس، والتي تستمر إلى غاية 24 من الشهر نفسه" اتخذت من " كل حملة للدم تساهم في إنقاذ 3 أشخاص.. يمكننا جميعا أن نكون أبطالا" شعارا لها وتهدف إلى استقطاب 40 ألف متبرع، الذي يعادل استهلاك أربعة أسابيع. جملة تلتها خرجات إعلامية لمجموعة من الوزراء ورجال السياسة وهو في لحظات تضامن لحظية. حملة سدت الباب أمام مرتزقة الدماء من جهة، وجعلت سوقهم تركد ولو لبضعة أسابيع، لكنها من جهة أخرى أبانت عن الوجه الخفي لمسؤولين لا يربطهم بالتضامن إلا "الملك" . فبعد حملات دأبت وزارة الصحة على إطلاقها، ولم يسبق أن اجتذبت كل مكونات المشهد السياسي، كان على المغاربة أن ينتظروا مد ذراع الملك ليمدوا أيديهم للتضامن. " يمتصون دم الشعب، ويحرمون على غيرهم فعل ذلك" يصرح حارس الأمن ساخرا. قبل أن يضيف وكأنه يحدث نفسه غاضبا "، وليتبرعوا ببعض أموالهم للشعب، فلن يمرض بعدها ولن يحتاج لدمهم أو لدم غيرهم".