عائلات المرضى وضحايا حوادث السير والنساء الحوامل ضيوف اضطراريون، حلوا مكرهين على المركز الجهوي لتحاقن الدم بالبيضاء بغية الحصول على كيس دم أو كيسين ينقذ حياة عزيز عليهم. امرأة أو طفل محتاج إلى قطرة دم تقيه ويلات المرض القاهر، والمصدر غالبا ما يكون بائعا، احترف الاتجار في دمه للحصول على مقابل مادي يقيه مد اليد ويوفر له قوت العيش. «المساء» قامت بزيارة ميدانية لمركز تحاقن الدم بالبيضاء، حيث شاركت عائلات المرضى محنتهم في إيجاد متبرع أو بائع، يتستر على عمله الممنوع بانتحاله صفة «متبرع في سبيل الله». - الزمان: الثانية عشرة والنصف. - المكان : مركز تحاقن الدم الموجود بالقرب من المستشفى الجامعي عبد الرحيم الهاروشي بالبيضاء. المكان شبه فارغ إلا من عائلات المرضى التي تبحث عن بائع يقايض دمه بأوراق مالية، تقيه الجوع وتزرع الأمل في حياة إنسان نال منه المرض أو تعرض لحادثة سير، إذ أن ما يشغل بال جل العائلات هو إحضار المتبرعين، بغض النظر عما يكلفهم ذلك من مبالغ مالية، اعتبرها بعضهم لا تعادل حياة أم ستترك أبناءها الثلاثة، بعد تعرضها خلال عملية جراحية لنزيف دموي، بينما ينتظر مرضى آخرون وعائلاتهم من يجود بقطرات دمه بغية محبة الله، مادام الأمر محسوما لدى السماسرة والباعة على حد سواء، باشتراطهم مقابلا ماديا لايقل عن 200 درهم. بعد اجتياز المدخل الرئيسي تطالعك أعين الحارس، الذي صار يعرف كل كبيرة وصغيرة في المركز، وحتى وجوه الرواد يعرف إن كانت مألوفة أم لا، حيث تطلع إلينا بشكل مثير وبنظرات تحمل في طياتها مئات الأسئلة. قمنا بمراوغته، بادعائنا البحث عن قريب من أجل التبرع له بالدم، وما أن وطأت قدمانا المركز، حتى بادرت إلينا امرأة في الأربعين من عمرها، وسألتنا عن حاجتنا، وما إذا كنا نرغب في كمية من الدم، مبدية استعدادها للتبرع بدمها في سبيل الله. عبارة مفتاح يستعملها جل الباعة لاصطياد زبون، والدخول معه في مساومات مادية. في سبيل الله.. حيلة باعة الدم «في سبيل الله» عبارة تصادفك كلما توجهت بالسؤال المباشر إلى الوافدين على مركز تحاقن الدم، والذين يقدمون إليه من مختلف المناطق المجاورة للبيضاء في رحلة يومية. إذ يعتبره بعضهم مكانا للاسترزاق وتوفير لقمة العيش وأجرة الكراء، من خلال عرضهم بضاعتهم النفيسة التي يسخرون لها سماسرة يتكلفون بجلب الزبون، الذي يشترطون عليه 100درهم مقابلا لخدمتهم و200 درهم للبائع كمقابل للكيس الواحد، بيد أن هناك من الزبناء من يعجز عن توفير هذا المبلغ، حيث تجده جالسا في قاعة الاستقبال يطالع باستمرار كل زائر، لعله يجد قلبا عطوفا يتبرع بدمه ولا يشترط مقابلا غير «رحمة الوالدين»، كما هو الحال بالنسبة إلى هشام كسيبة، الذي التقيناه في المركز، ولم يتوان لحظة في التعبير عن معاناته التي رسمت ندوبها على وجهه العبوس واليائس من إيجاد ذوي القلوب الرحيمة التي توفر لطفلته الصغيرة ثمانية لترات من الدم، لحمايتها من الموت المحقق الذي أودى بحياة إخوتها. يرابض هشام في المركز من أجل اقتناص متبرع حقيقي، لكنه يقول إنه لم يجد أحدا غير السماسرة، الذين يشترطون مقابلا ماديا قبل إرشاده أو مقابلته بالباعة. يقف إلى جانب هشام شخص نعت نفسه بالصديق، الذي جاء رفقته من أجل التبرع في سبيل الله، لكن إصابته ب«حريق البول»، على حد تعبيره، منعته من إسعاف ابنة صديقه. حجة يخفي وراءها دافعه الحقيقي في استراقه السمع لحديثنا مع زوار المركز، قصد إشباع فضوله القوي في تحديد هوية الزوار، والتعرف على طبيعة الزيارة، كوسيلة منه لاقتناص الزبون قبل غيره من السماسرة والباعة. بدورنا قمنا بمراقبة حركاته الشبه بهلوانية من أجل إثارة انتباه الرواد إلى حين انصرافه، إذ توجه نحو جموع الناس، المصطفة بالقرب من مكتب الاستقبال، واقترب من أحد الوافدين وأخبره بجاهزيته للتبرع بدمه، لكن ذلك الشخص رفض، فانصرف دون أدنى تعليق، فيما ظلت عيناه تراقبان مرتادي المركز، لعله ينجح في اصطياد مشتر لدمه. واصطف وراءه شاب ثالث، وهو من المياومين أمام باب المركز، استرق السمع، إلى أن تعرف على فحوى الحديث، فبادر معلقا: «نفس الشيء حدث معي، حيث أردت أن أمنح الدم لأحد الأشخاص، لكن درجة حرارتي كانت مرتفعة». وأضاف بصوت منخفض: «فضاعت المائتا درهم». يقايضون دماءهم بأوراق مالية وراء كذبة «في سبيل الله»، بالرغم من قناعتهم بأن ما يتاجرون فيه لا يقدر بثمن. هذا الأخير يعي أهميته فليفلة عادل (من مواليد 1979)، الذي يقطن بضواحي البئر الجديد، والذي كان يحتسي كأس ماء بارد، حينما التقيناه، وفي يده حقيبة بلاستيكية زرقاء اللون حيث يعبئ الدم. تسيطر على ملامح وجهه البدوية علامات الانتظار والتعب. وحين سؤاله، لم يتورع لحظة عن الإفصاح عن معاناته مع المرض قائلا: «أعاني من فشل كلوي وأحتاج إلى الدم، لكن لا أحد يغيثني لأن الأمر فيه بيع وشراء، وأنا عاطل عن العمل، ولا مورد رزق لي، وفي كل مرة أزور المركز لعلني أجد متبرعا حقيقيا يمنحني دمه. حين مغادرتنا المركز وجدنا بمحاذاة بابه الخارجي امرأة خمسينية. لم تستأذن من تحلقوا حولنا، لتشاركنا الحديث وعيناها في بحث مستمر، وكأنها تنتظر أحدا يسعف ابنها الذي ستتبرع له بكلية، ليقوم بعملية زرع تبلغ تكلفتها 25 مليونا، بعدما أصيبت كليتاه بالفشل. تصرح الأم المكلومة، والحسرة ترافق كلماتها المبعثرة: «ابني من مواليد 1976 عاطل وأب لطفل، ولحد الآن لم نجد غير ثلاثة متبرعين وأنتظر أحد الأقارب». هناك تكتم، ولا أحد يفصح لك عن عمليتي البيع والشراء، التي تتم خلسة بين الباعة وعائلات المرضى، وعندما تبادر بمساءلتهم يخبرونك بأن الأمر يتعلق بقريب، يتبرعون له بالدم في سبيل الله، غير أنهم في حقيقة الأمر ليسوا إلا باعة يتقاضون مقابلا ماديا، والسبب أحاله أحدهم إلى كون المركز لايتوفر على مخزون من الدم لإسعاف الحالات الطارئة، ويشترط على العائلات مقايضة دم بآخر: «كيس مقابل كيس». سمسرة بمائة درهم في الجهة الأخرى، حيث الحديقة الموجودة أمام دكاكين لبيع الورد تمتد أجساد متعبة، تنتظر إشارة سمسار - بدوره يرابض في المقهى المقابل- بوجود زبون يمنحه كيسا من الدم مقابل 200 أو250 درهما. الدم عملة نادرة في شتنبر حسب إحصائيات المركز الوطني لتحاقن الدم بالرباط، بلغ عدد المتبرعين بالدم على مستوى التراب الوطني 226.825 متبرعا ومتبرعة خلال سنة 2010 مقابل 202.769 سنة 2009 و190.504 سنة 2008 و176.155 في 2007، أي بزيادة نسبتها 13 بالمائة، إلا أن نسبة التبرع تبقى ضعيفة مقارنة بعدد السكان، حيث تصل إلى 0.7 بالمائة، وهي نسبة لا تتعدى الحد الأدنى 1 بالمائة الذي توصي به منظمة الصحة العالمية بالنسبة للدول السائرة في طريق النمو كالمغرب. ومن أجل مقاربة الأسباب الكامنة وراء عزوف المغاربة عن التبرع بدمهم، ارتأينا الحديث إلى ثورية البالغة من العمر أربعين سنة، والتي عبرت بالقول: «ما نتبرعش أبنتي بدمي، لأنهم كيبيعوه وفاش تحتاجو يقولو ليك خلص، وعاد تقدر تصاب بشي مرض». الخوف من الإصابة ببعض الأمراض أو استغلال دم المتبرع لأهداف ربحية أسباب من بين أخرى تجعل المغاربة يرفضون التبرع، غير أن العاملين في القطاع ينفون ذلك «هذا اعتقاد خاطئ، راجع إلى جهل الناس بالمراحل التي يمر منها الدم قبل أن يصل إلى المريض، فهناك العديد من التحاليل التي يخضع لها الدم من أجل التأكد من سلامته من الأمراض المعدية، بالإضافة إلى عزل عناصره، والثمن الرمزي الذي يؤدونه هو ثمن تلك العمليات، حيث يتراوح ما بين 300 و400 درهم حسب فصيلة الدم، يؤكد عبد الرزاق حواش (الكاتب العام للرابطة المغربية لجمعيات المتبرعين بالدم)، مضيفا أن الأزمة تزداد حدتها خلال شهر شتنبر، حيث المدارس مغلقة، والتلاميذ والطلبة في عطلة، لكونهم يتصدرون لائحة المتبرعين بالدم، وكذا المساجد، الأمر الذي يجعلنا، يضيف حواش، نخصص خيما من أجل تشجيع كافة أفراد المجتمع على التبرع بالدم، الذي لا يتم بيعه لعائلات المرضى في المستشفيات العمومية، بل يطلب من عائلة المريض التبرع بدمها في إطار المقايضة، أما ما يتعلق بالمصحات، فالدولة تشرف على مختلف التحاليل، التي تكلفها 2000 درهم للكيس، الذي يحتوي على مايعادل نصف لتر، لتزودهم به مقابل ثمن رمزي لا يتعدى 370 درهما. ويحيل حواش الأسباب التي تعيق التبرع بالدم إلى الشائعات المرتبطة بتخوف الكثيرين من المرض الذي يظنونه ينتقل إليهم من الأدوات غير المعقمة، وهذا خطأ شائع، كما هو الشأن بالنسبة إلى الاعتقاد الخاطئ المرتبط بالأضرار التي تلحق بالصحة جراء التبرع بالدم، علما أن السائل الدموي يتم تعويضه في ساعات قليلة، وبشكل طبيعي فور احتساء كوب من الماء، إضافة إلى مشكل الاستقبال الذي يعاني غالبية المتبرعين من سوئه. والتحليلات التي يتم القيام بها، يوضح حواش، تهم تحديد فصيلة الدم والالتهابات الفيروسية التي من شأنها أن تصيب الكبد كالفيروس «ب» و«س»، والسيدا، والسيفيليس، لكن عموما، يؤكد حواش، يمكننا القول بأن هناك ارتفاعا في نسبة المتبرعين المغاربة، التي انتقلت إلى 0.85 في المائة لتقارب ما تنص عليه منظمة الصحة العالمية والمتمثل على الأقل في 2 بالمائة. أما فيما يخص باعة الدم، الذين يتخذون من مراكز تحاقن الدم سوقا للبيع والشراء، يوضح حواش، فإن المراكز على وعي تام بوجودهم، وتعمل كل ما في وسعها لمحاربتهم، بالتضييق عليهم، لأنه في حالة الخصاص، التي يساهم فيها أيضا وجود غالبية الأطباء في العطلة الصيفية، وبالتالي برمجة جل العمليات الجراحية خلال شهر شتنبر، الشيء الذي يتسبب في أزمة حقيقية، يستغلها الباعة والسماسرة، على حد سواء، مما يجعل المراكز في هذه الحالة تطلب من عائلات المرضى التبرع بالدم من أجل التعويض الذي تم منحه للمريض، بهدف التقليل من حدة الخصاص. و«أؤكد بأن الدم لا يباع ولايشترى، اللهم في المصحات الخاصة، بوصفها قطاعا خاصا يشتري الدم، كما يشتري الماء وغيره من المستلزمات الطبية» يقول حواش. شروط ومخاطر وبخصوص الشروط التي يجب توفرها قبل التبرع بالدم، يؤكد الأخصائيون على ضرورة نيل قسط من النوم (ما يعادل 5ساعات) تناول وجبة غذائية مع ضرورة ألا يقل عمر المتبرع عن 18 سنة ووزنه عن 50 كلغ وخلوه من الأمراض (ضغط الدم، السكري، الفشل الكلوي، تضخم الكبد، الأمراض الصدرية، أمراض الغدة الدرقية، نزيف الدم). أما فيما يتعلق بالمرأة، فلا يجب أن تكون حاملا أو في فترة الدورة الشهرية، وبعد التبرع يوصي الأخصائيون بتجنب القيام بمجهود بدني، خاصة خلال الساعتين اللتين تليان عملية التبرع، إلى جانب تناول السوائل، لاسترجاع الكمية المفقودة من الجسم.
فقر الدم مصير كل متبرع في أقل من 3 أشهر لا يتم قبول الشخص للتبرع بالدم، إلا إذا كان في صحة جيدة، وثبت خلو دمه من مجموعة من الفيروسات المعدية بعد إجراء مجموعة من التحاليل الطبية, إلى جانب الوزن الذي يجب أن يكون موافقا للقامة. أما في ما يخص التبرع فيجب أن يتم مرة كل ثلاثة أشهر، تجنبا للإصابة بخلل في الكريات الحمراء، وكذا الصفائح الدموية. وهذا ما تحرص على احترامه جل مراكز الدم، بقياس الضغط ما إذا كان مناسبا أم لا، ثم الإطلاع على الحالة الصحية العامة للمتبرعين، إلا أن ذلك لا يمنع من وجود تلاعبات يصعب ضبطها لطبيعة العمل في المركز، واستقباله لعدد كبير من الناس بشكل يومي، وإن كان الأمر يحتم مراجعة مستمرة للوائح المتضمنة لهوية المتبرعين، لقطع الطريق على المتاجرين في دمهم، وبالتالي رفض كل من ثبت تبرعه بالدم في فترة تقل عن ثلاثة أشهر حتى نتجنب المخاطر الصحية التي يمكن أن تصيب هؤلاء الباعة، والمتمثلة في إصابتهم بفقر الدم لحدوث خلل في نسبة الكريات الدموية. وفيما يتعلق بالدم المتبرع به، فهو يخضع لمجموعة من التحاليل الطبية، والفحوصات الدقيقة على كل وحدة من الدم لتصنيف الفصيلة الدموية، وكذا التأكد من خلو الدم المتبرع به من الأمراض المعدية التي يمكن أن تنتقل عن طريقه كالإيدز والتهاب الكبد الوبائي بنوعيه («ب» و «س») والزهري وغيرها من الأمراض. محمد التجاني طقطق أخصائي الطب الباطني حسناء زوان