يتبرع 2 في المائة من المغاربة سنويا بالدم، وهو رقم ضعيف مقارنة بالحاجة اليومية المتزايدة للدم. مشاهد أشخاص يقفون أمام مراكز تحاقن الدم أصبحت مألوفة، هم خليط من المرضى وأقاربهم وسماسرة وجدوا في الدم صفقة مربحة لهم، تجعلهم يحكمون قبضتهم على من يحتاج أكياس الدم لإنقاذ حياة مريض راقد في المستشفى.. غير بعيد عن مستشفى الأطفال بالدارالبيضاء، لا تخطئ عين المارة رجالا ونساء يقفون بشكل دائم أمام بوابة المركز الوطني لتحاقن الدم، وعيونهم تترصد بانتباه كل من يقصد المركز. العارفون بخبايا التبرع بالدم أكدوا ل«المساء» أن عددا من السماسرة يتمركزون أمام المركز بحثا عن «ضحايا»، ومن الصعب على أي زائر التعرف عليهم أو معرفة نواياهم. يشرح أحد حراس السيارات طريقة عمل التجار موضحا: «أغلبهم ينحدر من حي شعبي في الدارالبيضاء، يختار عددا من الأشخاص العاطلين عن العمل أو الذين لا يتوفرون على مصدر عيش قار ويرافقونهم إلى المركز ل«يبيعوا دمهم» مقابل عمولة للسمسار يحصل عليها من عائلات المرضى». سماسرة الدم طريقة عملهم منظمة ولا تدفع أي شخص للريبة، فالسمسار ينتظر زائر المركز لدى خروجه من البوابة بعد أن يخبره أحد المسؤولين أنه بحاجة إلى متبرعين لكي يتمكن من الحصول على أكياس الدم الضرورية لقريبه، ويطمئنه السمسار بأنه قادر على إحضار أشخاص أصحاء قادرين على التبرع مقابل أن يدفع مبلغا ماليا يتراوح بين 100 و300 درهم، وقد يصل إلى 700 درهم بالنسبة لفصائل الدم النادرة مثل O سلبية. يحضر أصدقاء السمسار ويبدؤون في الإجراءات الإدارية الخاصة بالتبرع، وبعد ثلث ساعة، يغادرون المكان وقد حصل كل واحد على 50 درهما مع وجبة غذائية غنية بالسكريات لتعويض كمية الدم التي تبرعوا بها. حكاية ابراهيم مع «الذهب الأحمر» بدأت تفاصيلها قبل ثلاث سنوات. بعد أن طرد من أحد معامل الاسمنت فتغيرت دفتا ميزان حياته إلى الأبد.. نشبت الخلافات بينه وبين زوجته لتنتهي حياتهما الزوجية بالطلاق، ويتحول إلى معاقر للخمر مع أصدقائه قبل أن يعود ليلا إلى منزل العائلة. ذات يوم، فوجئ بصديقه يقترح عليه أن يحذو حذوه ويبيع دمه، بقي ابراهيم حائرا، بعد أن تذكر أنه لا يستطيع الحصول على المال من والده الذي أقسم أن يتوقف عن منحه إياه مرة أخرى. «أصر صديقي على اصطحابي معه إلى مركز تحاقن الدم، بعد أن نجح في إقناعي بأنها أفضل طريقة للحصول على المال وتوجهت معه للتجربة. حصلت في ذلك اليوم على 100 درهم» يردد ابراهيم قبل أن يتابع مضيفا: «كنت آتي مرة كل أسبوعين، وعندما يسألني الطبيب عن آخر مرة تبرعت فيها بدمي كنت أجيب قبل شهرين وكنت أحمد الله أنه لم يتمكن من التعرف علي». أحس ابراهيم أن الدم الذي يراه أصدقاؤه ذهبا أحمر أصبح مع مرور الأيام مصدر ضغط نفسي، وبدأ يحس بالدوار وعدم القدرة على التركيز والتعب السريع. يحرك رأسه بأسى وهو يتابع دخول إحدى سيارات الإسعاف إلى مستشفى الأطفال قائلا:«لولا احتياجي للمال لما اضطررت لبيع دمي». بعد مرور ثلاث سنوات، أصبح ابراهيم بائعا للسجائر والمناديل الورقية غير بعيد عن سوق الورد. لم يعد «الذهب الأحمر» يحمل نفس البريق الذي كان عليه في الماضي، إنه يعلم الآن أن هناك مئات المرضى يوميا يعانون بسبب عدم توفرهم على دماء كافية، وتتوقف حياتهم على أكياس دم حولتها بعض النفوس الجشعة إلى تجارة يومية.. وازع إنساني من المتعارف عليه علميا أن الدم لا يمكن إنتاجه اصطناعيا، لأن أي شخص هو الوحيد الذي يمكنه التبرع به. الدم ضروري جدا بالنسبة للطوارئ المتعلقة بالحوادث ولمعالجة الأمراض المستعصية، ومساعدة الأشخاص المصابين بداء السرطان و كذلك بالنسبة لزرع الأعضاء، إلى جانب العمليات الجراحية التي تحتاج اللجوء إلى عملية الحقن بالدم. بإمكان كل شخص بصحة جيدة و يزن 50 كيلوغراما التبرع بالدم، وقبل عملية إعطاء الدم لوازع إنساني، يمكن ملء مسودة خاصة تتعلق بصحته من خلال معاينة طبية سريعة، وإذا كان المتبرع يستعمل الدواء، فيمكنه التبرع بالدم في وقت لاحق حسب نوع الدواء الذي تناول. لتجنب نقل عدوى الأمراض الموسمية إلى المريض، يجب على المتبرع بالدم أن يكون قد غادر بلد العدوى، وهي في العادة إحدى دول جنوب الصحراء، على الأقل منذ سنة. وصل إلى المركز شاب في أواسط العشرينات من عمره، يبدو قوي البنية ويحمل في يده كومة من الأوراق الطبية. اتجه نحو قسم الاستقبال بمركز تحاقن الدم، ليظهر مرة أخرى وعلامات الحيرة واضحة على محياه تعني أنه بحاجة إلى متبرعين. سأل سيدة تقف قرب الباب عما إذا كانت تنوي التبرع بدمها، فردت عليه أنها تنتظر وصول ثلاثة متبرعين منذ الصباح، ليعتذر منها ويسأل الرجل الجالس إلى جانبها نفس السؤال، فرد عليه بالإيجاب بتوجس قبل أن يجذبه جانبا ويغادرا المكان، ليعودا بعد عشر دقائق وقد تغيرت ملامح الشاب وبدا أكثر هدوءا وثقة. صفقات سرية عينة لا بأس بها من المتبرعين بدون عمل وفي أمس الحاجة إلى المال، يتذكر أحد المتبرعين البيضاويين القدامى حكاية كهل «اصطاده» أحد السماسرة بعد أن فطن إلى أنه يدمن شرب «الماحية»، وجعله يبيع دمه بمعدل مرتين أسبوعيا في نقاط مختلفة للتبرع بالدم لكي لا تنكشف الحيلة. يتميز هذا النوع من «الصفقات» بسرية التطبيق التي يتفق عليها المستفيدون من عملية البيع، فالمريض حريص على إيجاد أكياس الدم بأية وسيلة، فيما يسعى المتبرع جاهدا ألا يخبر أحدا عن المقابل المادي الذي حصل عليه لأن القانون يحرم بيع الدم. النواة الأساسية لهذه الصفقة «البشرية» هو السمسار الذي يطبق مبدأ السرية على تفاصيل العملية، ويتضاعف هذا الخوف إذا كان يشتغل بالوسط الصحي. النسبة المتبقية من المتبرعين هم أناس طغت عليهم إنسانيتهم واتخذوا قرار التبرع بالدم لمرضى لا يعرفونهم لعلمهم فقط أنهم بحاجة ماسة إلى الدم. بالنسبة لكل عملية للتبرع بالدم، يستعمل الأطباء تحاليل المراقبة الطبية للمتبرع وتتبع حالته الصحية بالمجان، ويكون مطلوبا منه لهذه الغاية أن يكون صائما على الأقل لمدة 8 ساعات ويمكن شرب الماء قبل إعطاء الدم. فصيلة نادرة أكد مصدر طبي ل«المساء» أن فترة تخزين الدم يجب ألا تتجاوز 45 يوما، يصبح بعدها الدم غير صالح للاستعمال، مشيرا إلى أن هذا يعني أن بنوك الدم الموجودة في المدن هي بمثابة «مخازن» لحفظ الدماء وليس لتسويقها في التجارة غير القانونية. يتبرع حوالي 2 في المائة من المغاربة بالدم سنويا، مقابل 6 في المائة في فرنسا، وتبقى الحاجة ملحة للعديد من الفصائل الدموية النادرة في بنوك الدم بالمغرب. ولحد الآن، لم يعلن المغرب عن وجود مغاربة يحملون اسم«مجموعة بومباي» وهي الفصيلة الدموية النادرة على مستوى العالم وقد توجد بنسبة تراوح بين 1و3 لكل مليون نسمة. وفي قارة أمريكا اللاتينية وحدها تم اكتشاف سبعة أشخاص فقط يحملون هذه الفصيلة، والمريض الذي يحمل فصيلة دم«بومباي» لا يقبل نقل الدم إليه مطلقاً سوى من الفصيلة نفسها بخلاف بعض الأشخاص الذين يحملون الفصائل الدموية النادرة الأخرى.. وتزداد الحاجة لكميات مخزنة من الدماء في فصل الصيف الذي يشهد ارتفاعا في عدد حوادث السير على طرقات المدن المغربية. وتشير الإحصائيات إلى أنه في حالة عدم استعمال أكياس للدم بعد انتهاء مدة صلاحيتها البالغة 45 يوما، تعمد السلطات الصحية إلى إحراق تلك الأكياس غير الصالحة للاستعمال، وتتكبد خسائر تبلغ 750 درهما للكيس الواحد من الدم. ويوجد في المغرب 17 مركزا جهويا لتحاقن الدم و13 بنكا للدم. «كتيبة» الدم تبلغ نسبة المتبرعين حسب المركز المغربي لتحاقن الدم 55 في المائة من المتبرعين، 70 في المائة منهم يتم جمعها عبر فرق متنقلة، و30 في المائة داخل مواقع قارة. وتلجأ المراكز الجهوية للتبرع بالدم إلى تعويض 40 في المائة من الدماء المخزنة لديها بأن تطلب من عائلة وأقارب المريض الذي يحتاج لنقل الدم، التبرع بأكياس من الدم من أجل تعويض النقص الحاصل في مخزونها. وحددت المنظمة العالمية للصحة عدد مرات التبرع بالدم للجنسين، إذ بإمكان الرجل أن يتبرع بالدم 5 مرات في السنة، مقابل 3 مرات في السنة بالنسبة للمرأة. تتمثل وسائل الحصول على الدم في المغرب في التبرع الانساني من الناس العاديين الذين يتمتعون بصحة جيدة من خلال حملات جمع الدم الموسمية التي تنظمها وزارة الصحة، إضافة إلى تبرع المريض لمركز تحاقن الدم الذي يجري فيه المريض الجراحة أو يتلقى العلاج مقابل توفير الدم للمريض وهو تبرع تعويضي، لأن المستشفى يأخذ الدم من الأقارب مقابل توفير دم المريض من نفس فصيلته. أقارب المريض يدفعون ضمن فاتورة العلاج ثمن أكياس الدم التي يأخذها المريض باعتبارها جزءا من الخدمة الطبية المقدمة له. يستقبل المركز الجهوي لتحاقن الدم بالدارالبيضاء 160 تبرعا بالدم يوميا بشكل مجاني، ولا تستغرق عملية أخذ الدم سوى 10 دقائق ليمتلئ كيس 400 مللتر بالدم، وتظهر النتائج الخاصة بالفصيلة الدموية وتحاليل الايدز والالتهاب الكبدي الفيروسي. يتم نقل كل عينة متبرع بها إلى مختبر التجزئة ليتم فصل ثلاثة عناصر أساسية: الصفائح الدموية الحمراء، والبلازما والكريات الحمراء. محاربة السمسرة إجراء مقارنة بين دم المتبرع لهدف إنساني ودم المتبرع ذي الأهداف المادية تكشف أن الدم المأخوذ من المتبرع الأول ذي مزايا أفضل نظرا لأنه يقدم معلومات صحيحة في بياناته الشخصية، وتاريخه المرضي الذي يدلي به للطبيب قبل قبوله كمتبرع، عكس الشخص الذي يتبرع بدمه مقابل هدية أو مال، فغالبا ما يكذب في بياناته الشخصية وتاريخه المرضي حتى يستطيع أن يتبرع أكثر من مرة. وبالتالي لا يمكن الاعتماد عليه حيث عادة ما يتسبب في الإضرار بصحة المريض الذي ينقل له هذا الدم ويصيبه بأمراض كثيرة. عدم احترام التعليمات الطبية الخاصة بالتبرع بالدم طرح أكثر من سؤال حول طريقة تسجيل بيانات المتبرعين في مراكز تحاقن الدم. مصدر مسؤول في المركز الجهوي لتحاقن الدم أكد ل«المساء» استحالة قيام شخص واحد بأكثر من 5 عمليات تبرع للدم في السنة لأن الدم في نظره مادة حيوية لا يمكن التهاون في التعامل معها، وبرر ذلك موضحا: «يتوفر المركز على وحدات معلوماتية مركزية تسجل كل المعلومات الخاصة بالأشخاص المتبرعين يوميا وسوابقهم الطبية، لذا فعندما يحضر أحدهم قبل شهرين من تاريخ آخر تبرع له يرفض المركز السماح له بالتبرع»، ويتابع ذات المصدر معلقا:«يتم ضمان حماية المتبرعين والمرضى بشكل تام ولا يمكننا أن نعرف هل حصل المتبرع على الدم أم لا. مازال المغاربة بحاجة إلى خلق قيمة الوفاء في التبرع لكي يتبرعوا أزيد من مرة واحدة في السنة». يشرف على متابعة الحالة الصحية للمتبرعين 6 أطباء يعالجون يوميا 160 متبرعا يتابعون ملفاتهم المرضية قبل إصدار قرار قدرتهم على منح دمهم للمركز، وبلغ عدد المتبرعين السنة الماضية أزيد من 55 ألف متبرع. ساعات العمل المتواصلة في المركز تجعله أقرب إلى الفرن، فالطلبات مستمرة ومسترسلة لا تتوقف، ويتولى المراقب المالي للمركز متابعة التحويلات المالية بين المستشفيات والمصحات الخاصة مقابل الحصول على أكياس الدم، دون أن يدفع المريض أي مقابل مادي بشكل مباشر إلى المركز. المتبرعون بالدم مجانا أو بالمقابل يمثلون مصدرا مهما لعمليات نقل الدم تشكل عمليات نقل الدم عنصراً مساهماً صغيراً في انتقال الأمراض المعدية، ولكنه عنصر يمكن الوقاية منه، وذلك مقارنة بالأنماط الأخرى الموثقة المتعلقة بانتقال الأمراض. وقد يلعب نقل الدم مباشرة دوراً أكثر خطورة في انتشار فيروس السيدا، حيث يفوق في خطورته بواقع مائة مرة استخدام حقنة ملوثة في تعاطي المخدرات عن طريق الحقن الوريدي. عملية نقل الدم من العمليات التي تسهم في إنقاذ الأرواح وتحسين صحة الناس، غير أنّ ملايين المرضى الذين يحتاجونها لا يستفيدون من الدم السليم في الوقت المناسب. ويقضي الكثير من أولئك المرضى نحبهم بسبب عدم توافر الدم السليم، حتى في بعض المرافق الصحية الموجودة في المناطق الحضرية. ويتم، كل عام، جمع أكثر من 81 مليون وحدة من وحدات الدم المتبرّع به في جميع أنحاء العالم، إلا أنّ البلدان النامية والبلدان التي تمرّ اقتصاداتها بمرحلة انتقالية، حيث يعيش أكثر من 80 في المائة من سكان العالم، لا تسهم إلاّ بنسبة 45 في المائة من مجموع تلك الوحدات. ولا يزال أفراد أسر المرضى أو المتبرّعون البدلاء، فضلاً عن المتبرّعين الذين يتلقون أجراً مقابل تبرّعاتهم، يمثّلون مصدراً هاماً لعمليات نقل الدم في كثير من البلدان. ولا يمكن ضمان مخزونات كافية من الدم السليم إلاّ من خلال التبرّعات التي تتم بانتظام من قبل متبرّعين لا يطلبون أجراً مقابل تبرّعاتهم، ذلك أنّ نسبة انتشار أنواع العدوى المنقولة بالدم تبلغ أدنى مستوياتها لدى تلك الفئة. وبإمكان صاحب فصيلة دم O أن يتبرع بالدم، خلايا الدم الحمراء وليس الدم الكامل، لكل أصحاب الفصائل الأخرى، وذلك لأنّ خلاياه الحمراء لا تحمل مضادات الأجسام A أو B ، وبالتالي فإنّ الأجسام المضادة من نوعي anti-A أو anti-B الموجودة عند المتلقي لن تؤثر على هذه الخلايا. أمّا إذا كانت فصيلة الدم من نوع AB فإنّ صاحب هذه الفصيلة لا يستطيع التبرع بالدم إلا لأصحاب نفس الفصيلة، لأنّ خلاياه الحمراء تحمل نوعي الأنتيجينات A وB وعندها سترتبط الأجسام المضادة من نوعي anti-A أو anti-B الموجودة عند المتلقي مع هذه الخلايا وتؤدي إلى انحلال خلايا الدم.