ما أروع أن تكون في المغرب أو في أي بلد عربي إسلامي آخر، و أن تستحضر صورا من الذاكرة جرت أحداثها في الضفة الأخرى. إن توالى مشرق الشمس ومغيبها على هذا البيت الذي أسكن فيه في هذا الصيف الحار الراقص على ايقاعات السهر و الأعراس و الفرح و اللقاءات و السمر مع الأصدقاء... إن هذا التوالي لعلامة على أن الحياة مستمرة و أننا نستحق أن نعيشها، بحلوها ومرها... فمرحى! و هنيئا لكم جميعا يا محبي الحياة! كانت أول معرفتي به في عام 2007 شاب في الثامنة عشرة من عمره. نحيل القامة، ضئيل الجثة ، خفيف الشعر، غائر العينين أسودهما، في نظرته يتم و حزن و ضياع و طفولة و ذكاء. المكان فرنسا. المدينة بوردو. الشهر سبتمبر. أين بالتحديد؟ في الحي الجامعي. و مرت أشهر بل اسابيع قليلة، وأصبح هذا الشاب ذو الرابعة و العشرين ربيعا، و أنا اكتب هذه الأسطر الملأى بالحنين و المغموسة في محبرة الصداقة الخالصة،أصبح الصديق رقم 1 بلا منازع... عندما اتحدث عن الصديق رقم 1 فاني أعي جيدا ما اتلفظ به. وجهان لعملة واحدة، إخلاص، و ود بدون مقابل. ليس في المعادلة مال أو مصلحة أو جاه. - أراك دائما يا رشيد في القمة... - اوه حذيفة، هذا كثير.. ما زال أمامي الكثير مما يجب فعله حتى أصل إلى أهدافي... -أهدافك؟ و لكنك أحرزت على شهادة الدكتوراة، و درست بفرنسا، و عدت إلى الوطن و اشتغلت و تزوجت.. هذا في حد ذاته مهم... إسمع... يجب أن ننطلق في رحلة مشوقة... إيطاليا أو البرتغال. ماذا ترى ؟ "حذيفة. إسمي حذيفة، و أنا من مدغشقر. و لكني هندي الجنسية"... اه... هل سبق لك أن زرت الهند ؟ و لا مرة، تصور.. و إنخرط في الضحك... إني أراك بأم عيني، في مشهد تذكري ناصع، أراك راقدا في المستشفى و أنت تئن ألما بسبب رجلك المكسورة الملفوفة في الجبس. و أذكر دون أن أنسى ما احضرناه لك في أول زيارة بالمشفى. البان ويوغرت و عصير، على عادة المغاربة في عيادة المرضى... و ربحت عددا لا باس به من اليوروهات، لم تنفق منه و لا سنتيما واحدا في شراء سجائرك الشقراء المفضلة. و لكن باب النفقات انفتح على عالم مذهل : تملك تحفة فريدة من كتب باولو كويليو. الخيميائي، فرونيكا تقرر أن تموت... و مكتوب... و اشتغلت طوال شهر كامل على متن دراجة نارية كموزع.. كان كل شيء على ما يرام.. و كنت تغرق في سعادة الأطفال بعملك (نصف دوام) الذي يتيح لك ضمان مصاريف الدراسة و السكن و الاكل. ضمان ؟؟ … الضامن هو مولانا يا صاحبي و سقطت سقطتك المنحوسة من على الدراجة في الدوار.. مكتوب... و انكسر الفخذ و العظم في الحال. و كدت تموت ألما، و نقلت على الفور الى المستشفى. و تمت العملية... و ها هو ثغرك يفتر عن ضحكة مجلجلة و أنت تقول معلقا : "انها ليست بالضرورة ذكرى حزينة". أسالك : "ولمه؟ ". تجيبني : "رب ضارة نافعة. إن العام الذى كسرت فيه رجلي، و لزمت فيه المشفى اسابيع طويلة، وانقطعت فيه عن الدراسة شهورا و شهورا، لهو من أفضل اعوام حياتي... كيف ذلك ؟ "خلاله وعيت كامل الوعي أني لم أخلق لدراسة الطب، و أنه وجب علي في أسرع وقت تغيير الوجهة. الفيزياء يا صاحبي حلت محل الطب، و رميت في سلة المهملات حلم والدي بان أصير في يوم من الأيام طبيبا، و ها أنا أشق طريقي بثبات في مجرة الفيزياء." هل تذكر عندما سافرنا الى سان سبستيان و قضينا ليله كاملة بدون مأوى في الشارع لأننا نسينا في بوردو ورقة حجز الفندق التي هي لا غير ورقة الاثبات ؟ ها ها ها... و كيف أنسى ذلك يا صاح...؟؟ وصلنا إلى المدينة الاسبانية المتاخمة لفرنسا، على مبعدة 27 كلم من الحدود، وصلنا في ليل متأخر. و ذرعنا المدينة جيئة و ذهابا. ما أبهج هذي المدينة ! هل لان من قابلناهم كان اغلبهم في حالة سكر ؟ سائق التاكسي الذي اوصلنا إلى سان سبستيان كان أيضا في حالة من النشوة عجيبة. "إذا اردتما الزيارة فعليكما البدء أولا بالمدينة العتيقة". أوامرك مطاعة يا سعادة المرشد السياحي... ذكريات... رغم أنك بعيد عن العين فأنت في صميم القلب. اعترف أن للذكريات طعما خاصا و مميزا... قهوة ممزوجة بالعسل الحر... برودة منعشة فوق وجه حليق ينزف دما... ليل شتوي مدثر بالنسيان... هل يعني التذكر الموت ؟ هل نتذكر لنهرب من عدمية الفراغ و سطوة الوحدة ؟ هل نتذكر لنحنط الزمن و نخلد في الذاكرة سجلاته ؟ لماذا ؟ لماذا نتذكر؟؟ *أستاذ باحث بالمعهد العالي للإعلام و الاتصال الرباط - المغرب [email protected]