قالت مارلين مسعد، باحثة لبنانية-فرنسية في الفكر والفلسفة، إن "فلسفة ما بعد الحداثة ينبغي أن تتجاوز التحدي الجديد الذي يضعها مرة أخرى في خانة العلوم القديمة التي عفا عنها الزمن على حساب التقدم التقني والعلمي والرقمي". وأضافت مسعد، في حوار مع جريدة هسبريس الإلكترونية، أن التراث يجسد العادات والتقاليد والأخلاقيات والمقولات وغيرها، وليس ذاك التحجر والتصلب واستقامة الرأي والثأر والعنف، وغيرها من العادات التي عرفتها الشعوب في عهودها الأولى. وأوضحت الباحثة أن "ما يمكن أن ينقذ البشرية والإنسان المعاصر من آفة الجهل المتصاعد في هذا العالم الحديث، هو التحكم بتعقيداته وتطوراته الجمة المتسارعة والمتفاقمة، الذي يتطلب فكرا عميقا وثقافة فعلية وتربية صحيحة تؤدي إلى المعرفة المنشودة لبناء القدرات والمجتمعات". وإليكم نص الحوار: طرحت مجموعة من الأفكار النقدية بشأن مفهوم "الحداثة" المتشابك وصلت إلى درجة التأصيل لما أسميته "الحداثة السابعة" التي لم تتحقق بعدُ بالمنطقة الإقليمية. بداية، ما هي شروط تحقق "الحداثة السابعة" بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا؟ يشتق مصطلح الحداثة من "حديث" بمعنى العهد القريب. كانت الحداثة في القرن الثامن عشر، ونشأت على أسس رئيسية وهي حقوق الإنسان، السوق والديمقراطية، وأخيرا ديناميكية العلوم التقنية. تُحددُ الحداثة مكانًا في الغرب وزمانًا في عصر النهضة، أما طبيعةً فيعبر عنها الانفصال الجذري الذي يعتبر أن كل ما لا يمت إليها بصلة مباشرة هو عشوائي وتقليدي وقديم. فهناك فعليا حقبة الحداثة، وحقبة ما بعد الحداثة، ومن ثم الحداثة الفائقة. إذن، نتكلم عن حداثات ثلاث في الوقت الحالي. وقد ظهر عصر ما بعد الحداثة بعد الحرب العالمية الثانية كخطوة للرد على ما اعتبر عيوبا وشوائب في حقبة الحداثة، حيث ارتبطت مشاريعها الفنية الراديكالية بالشمولية، وكانت من وحي الثقافة السائدة آنذاك. لكن حقبة "ما بعد الحداثة" أخطأت بدورها، ليس في الأداء بل بعلاقتها بالحقبة السابقة؛ إذ بدت وكأنها الحداثة عينها، لكن بتخطي مكوناتها ومبادئها الأساسية، وبالتفوق عليها في كل من المجالات التالية: العلوم الديمقراطية، الاقتصاد والسياسة والثقافة... إذن، هي حداثة ثانية، وليست حداثة جديدة، متصلة بالحاضر المباشر وبالفورية، سهلت لها ثورة الاتصالات والاستهلاك الشامل، فأنتجت قيما جديدة تتميز بالذاتية والرفاهية، مستفيدة مستمتعة بالسهولة والفراغ، لتحتل مكان القيم الماضية. أما ما بعد الحداثة فهي "الحداثة الفائقة/المفرطة" ذات المجتمع الليبرالي الذي تميز بمنطق ينقض ما تميزت به الحداثتان، فيه تتعايش التناقضات، التوتر والمواجهة والعقلية والتقوقع، كما الحفاظ على الهوية والعودة إلى التقاليد المتأقلمة مع منطق الحداثة من جهة، والحركة والمرونة والانفصال عن مبادئها الأساسية كالدولة والدين والأسرة من جهة أخرى. وقد تجاوزت هذه "الحداثة الفائقة" بشكل كبير وجديد كل ما بنيت عليه الحداثة، لتتعداه إلى المبالغة والإفراط، كما وصفها إدغار موران في كتابه "لا ميتود" بكونها حلقة فيها التأثيرات والمنتجات هي نفسها مُنتجة لما أنتجها. أكثر ما يحدد هذه الحداثة هو شخصية وسلوك الإنسان المعاصر، فمن منطلق الملاحظة، وكما حللها هاروش، نستنتج أن السطحية والكآبة وضيق الاطلاع والأفق، والغرور الزائد والمغالاة وعدم الاكتراث بالآخر، وفقدان الوعي الذاتي، والهمود الذي اكتنف الفكر، وعدم الالتزام الأخلاقي والسياسي، وتقلص قدرة الضمير، تطغى على سلوك الأفراد. أما الحداثة السابعة فهي افتراض شخصي، واختيار العدد السابع دون غيره يعود إلى رمزيته في العديد من الديانات والكتب القديمة، كأيام الأسبوع، وعدد القارات والمعادن الرئيسية في الأرض، واكتمال عملية الخلق في اليوم السابع، وجدته يتناسب مع حداثة قادمة حتما في مستقبل يصعب تحديده بدقة. إنما نظرا لعوامل وإنجازات الحداثات الثلاث وتياراتها، قد يكون الخلق الجديد في غضون حداثة وشيكة، وفق التسلسل العددي، وتكون ربما السابعة، ولم لا؟ وقد لا تتوقف عند منطقة معينة أو شعب ما أو حضارة، فنحن في إعصار العولمة الذي يشمل كل بقاع الأرض دون استثناء، ما دامت الحداثات الثلاث قد لفت الكوكب وكل مناطقه. أعطت التصورات الفلسفية والاجتماعية معاني مختلفة لمفهوم "الإنسان" من منظور فلسفة الحداثة وما بعدها، حتى أصبحنا نتحدث عما يسمى "رقمنة الإنسان" في ظل الجائحة العالمية. بناء على التحول الحاصل بخصوص التصورات المفاهيمية التي أدت إلى "تنميط الإنسان"، ما هي أبرز التحديات التي تواجه فلسفة ما بعد الحداثة في ظل جائحة "كوفيد-19′′؟ أظن أن هذه الجائحة لا تستهويها الفلسفة ولا الفلاسفة، علما أن الفلسفة ترتكز على المنطق والعدد، فالفيلسوف الإغريقي أفلاطون كان يعتمد مثلا ويعتبر أن الرياضيات أداة ثمينة للمعرفة، فهي أثبتت أنها الأقرب إلى كل حقيقة، متأثرا بأتباع التيار الفيثاغوري الذين طبقوا أبحاثهم في مجال الأعداد والأرقام والرياضيات على حقول شتى مثل علم الفلك والموسيقى والسياسة. وها هم علماء عصر الحداثة الفائقة يطبقون مبدأ الرقمنة ويقيمون أبحاثهم على الكائن البشري ذاته هذه المرة، مجردين إياه بذلك من كل سمة وصفة إنسانية فريدة من نوعها، لدمجه في نظام رقمي على غرار الصور والملفات، وتحويله من كائن له خصوصيته وطباعه وسماته وجيناته إلى مجموعة رموز رقمية، أو رمز شريطي تحت السيطرة والمراقبة، بحجة التحكم بانتشار الجائحة، ومحاولة إيقافها. كان أبقراط يعتبر أن الأطباء والفلاسفة يجتمعون حول الظواهر الطبيعية ويسعون لفهم مبادئ الحياة. لكن في يومنا لم يعد بالإمكان الأخذ بعين الاعتبار هذا الفكر وهذا الاعتبار، كما أن العلاقة بين الفلسفة والطب شبه منقطعة ولم تعد كما كانت عليها في العصور القديمة والعصور الوسطى. ففي القرن الحادي والعشرين غدا كل علم له خصوصيته واعتباره الخاص. ما أدى بطبيعة الحال إلى وضع الفلاسفة جانبا، هي تلك الشكوك التي بدت كبيرة، والحلول التي بدت مستعصية لدى الأطباء والعلماء في مطلع عهد كوفيد-19 الذي أقبل يبسط سلطانه على العالم أجمع. فما كان على الفلسفة والفلاسفة سوى تناول الأمر العصي من الناحية الأخلاقية فقط، وتحليل ظاهرة "الذعر الأخلاقي" الذي ينشأ عادة، وخاصة خلال الكوارث والأزمات، وإثر الحروب. ثم هناك مسألة أخلاقية أخرى عنيت بها الفلسفة، تتعلق بالقرارات التي اتخذت للإنعاش وفرز المرضى، وكذا ممارسة التجارب العلاجية وشرعية تقديم العلاجات التي اعتقد أنها فعالة دون المرور بإجراء تجارب سريرية خاضعة للرقابة. ينضاف إلى ذلك، مسألة الصحة النفسية للأفراد وللمجتمعات التي عانت من الحجر المنزلي، والخشية والمجهول الذي لفها على مدى أشهر. كما من هجروا مكاتبهم ومؤسساتهم وعمدوا إلى العمل من منازلهم بواسطة الأنترنت، خدمة وإنقاذا لاقتصاد يحتضر بسبب الإغلاق. لذا، كان لا بد للفلسفة أن تطرح سؤالا حول مدى تأثر النفس البشرية بهذه الظروف الضاغطة. أخيرا، ينبغي على فلسفة ما بعد الحداثة أن تتجاوز هذا التحدي الجديد، الذي يضعها مرة أخرى في خانة العلوم القديمة التي عفا عنها الزمن على حساب التقدم التقني والعلمي والرقمي. فمن كان فيلسوفا في هذا الزمن الحديث عليه تجاوز هذا الجدار الجديد، بالبحث بالرؤية وبالتحليل العقلي والمنطقي، وبالعودة إلى جذور الفلسفة وحكمتها، إلى الروحانية والطبيعة الكونية التي كانت منها العلوم الإنسانية، كما عليه السعي لتخطي عثرات مستحدثة بإمكانها أن تجعل من الفلسفة سلعة كما تسلعت حياة الإنسان الحديث. في سياق حديثك عن الحداثة أشرت إلى نقطة أساسية تتعلق بالثورة التقنية ذات الصلة بالتدفق الهائل للمعلومات والبيانات عبر "الشبكات الافتراضية"، ما أدى إلى تواري "الثقافة" تحت هذا الكم الضخم من وسائل الاتصال الحديثة؛ ومن ثم، ظهور "ثقافة مضادة" أسميتها ب"الجهل الحديث". هل يقتصر هذا الجهل على المنطقة الإقليمية فقط أم يشمل كذلك البلدان الغربية؟ التحدث عن الجهل هو تأكيد على وجوده، ما يوجب بطبيعة الحال تحديدا واضحا للمصطلح وللمفهوم، كونه أداء يندمج يوما بعد يوم بالسلوك البشري، وكأنه طبيعة أخرى أتى التقدم يعززها، فتفاقمت وانتشرت كظاهرة طبيعية على غرار الظواهر الحديثة الباقية في العالم وليس في منطقة أو في أخرى. أما الجهل الحديث فهو ظاهرة وضع لها مؤرخ العلوم الأمريكي "روبيرت بروكتور" عام 1992 مصطلح"agnotologie" ، ويعني ثقافة إنتاج الجهل لطمس حقيقة أو حكم، كما للدفاع أحيانا عن مصلحة خاصة. أضفى هذا المصطلح رؤية جديدة وموضوع دراسة جعل من الجهل تيارا حديثا دمج بالعلوم الأخرى، وراح ينتشر كما انتشار المعلومة والخبر والوباء في كل بلدان القرية الكبيرة التي جمعتها تحت جناحيها بدعة العولمة. من ناحية أخرى، ما الجهل الحديث سوى سوء استخدام العقل والقوى والإرادة للبقاء على ما يرفع ويرقي الحس المعرفي والوعي الذاتي. رقي الفرد هو رقي المجتمع وترقية العالم؛ إذ إن كل أحد هو جزء من هذا الكون السقيم الذي استهلكه الإنسان، واستنزف بحره وهواءه واستغل أرضه. ربما، وعلى الأرجح، ما يمكن أن ينقذ البشرية والإنسان المعاصر من آفة الجهل المتصاعد في هذا العالم الحديث هو التحكم بتعقيداته وتطوراته الجمة المتسارعة والمتفاقمة، الذي يتطلب فكرا عميقا وثقافة فعلية وتربية صحيحة تؤدي إلى المعرفة المنشودة لبناء القدرات والمجتمعات، كما يقول هرقليطس "التعليم شمس أخرى لمن يتلقونها"، وزيادة التعاون بين الأفراد، والخروج من الافتراض إلى الواقع عبر التفاعل وعدم الانطواء، ومنه تكون الحرية "حيث تبدأ الحرية ينتهي الجهل" على لسان فكتور هوغو. ما زال التفكير التراثي حاضرا بشدة في المنطقة الإقليمية كلها، ذلك أن أصحابه يحتمون بالماضي للهروب من الأسئلة "المحرجة" التي يطرحها الحاضر. ما الذي يعيق عملية التعقل في الثقافة المحلية؟ التفكير التراثي ليس بالضرورة أمرا سيئا أو معيقا للتقدم. كل حضارة بنيت على قديم، وانطلقت من جذوره، وتبلورت في ماضيه، فصاغت حاضرها واكتنزته. الماضي هو التاريخ الذي به خبأ الإنسان القديم قيمه وحكمته، آملًا أن يستنير بها من سيتولى حمل الشعلة بعده. لا بد من الحفاظ على التراث وصونه، فالفكر التراثي والثقافة التراثية التي حرصت عليها شعوب هذه البقعة من الأرض غدت بمثابة كنز لا بد لإنسانها الحديث أن يلجأ إليه. التراث هو العادات والتقاليد والأخلاقيات والمقولات وغيرها، وليس ذاك التحجر والتصلب واستقامة الرأي والثأر والعنف وغيرها من العادات التي عرفتها الشعوب في عهودها الأولى، قبل أن تتحضر وتنشئ المدن وتسن القوانين، وتترسخ المعتقدات في مساراتها. ما يعيق التعقل الثقافي هو تفهم واستيعاب التقدم، ومحاولة ترويض النفس على القيم الجديدة، فكل حداثة حملت في جعبتها سلبيات وإيجابيات. تحدث العديد من الفلاسفة والباحثين في بدايات الجائحة عن إسهام الفيروس التاجي في تكريس "الوعي النقدي" لدى المواطنين، لكن الملاحظ أن نظرية المؤامرة ما زالت حاضرة بالمنطقة العربية إلى حدود الآن في ظل ضعف الجهود الفردية والجماعية الرامية إلى استنهاض الوعي. ما السبيل إلى إزالة الأوهام عن الناس في هذه اللحظة الوبائية؟ الإجابة عن هذا السؤال تتعلق بإجابتي على السؤال الثاني حول دور الفلسفة والفكر في النظر وتناول الجائحة؛ فالتساؤلات الكثيرة الفلسفية والأسئلة التي نشأت مع الوباء، أسهمت في إثارة جنون إعلامي لا نهاية له، والتباسات وخلافات وآراء متعددة رست على نظريات المؤامرة والدراما والمعالجة المثيرة للمعلومات. لذلك، من المفيد والضروري أن يكون هناك تريث ومناقشات واعية وفكر صارم يربط بين نظرية المعرفة والتاريخ والأخلاق في موقف يصعب فيه على المتلقين هذا الكم من المعلومات تكوين رأي سليم، دون الانحراف إلى نظريات المؤامرة. السبيل لإزالة الأوهام في يد وسائل الإعلام أولا، حول كيفية تناولها الموضوع بموضوعية، واستنادا إلى آراء المختصين في المجال الطبي، وليس إلى العرافين وقارئي الحظ. فأيننا من الوعي النقدي؟ وهو الوعي المفقود تقريبا، ففي غياب الناقد كثرت الشائعات واتسعت رقعة الجهل، وصار كل صاحب رأي ناقدا ومحللا وحاكما.