لم يكن حزب "البيجيدي" (حزب العدالة والتنمية)، منذ أن بدأ يشارك في الاستحقاقات الانتخابية، ينتظر الإعلان الرسمي عن تاريخ انطلاق الحملة الانتخابية عند اقتراب كل موعد اقتراع. فهذه الحملة، التي يعرّف فيها ببرنامجه السياسي ويدعو إلى دعمه والتصويت عليه، وينتقص فيها من الأحزاب ذات البرامج المخالفة لبرنامجه "الإسلامي"، يمارسها باستمرار وبلا توقّف، وبمدة لا حدود ولا ضوابط لمواقيتها. فبمجرد أن هذا الحزب يرفع شعار "المرجعية الإسلامية"، يكون كل التزام بالتعاليم الإسلامية، من أخلاق وسلوك وعبادات ومعاملات، أي كل إعمال "للمرجعية الإسلامية"، هو تأييد، مباشر أو غير مباشر، لمرجعية الحزب ولبرنامجه السياسي الذي ينطلق من هذه "المرجعية الإسلامية". وبالتالي تكون كل ممارسة للإسلام هي بمثابة حملة انتخابية للتصويت على "المرجعية الإسلامية" التي تختزل برنامج حزب "البيجيدي". وبما أن هذه الممارسة يومية، كما يتجلى ذلك في الصلوات الخمس على الخصوص، فإن الحملة لصالح "البيجيدي" هي يومية ودائمة. كما أن مقرات الدعاية للحزب تعدّ بالآلاف، متمثّلة في عدد المساجد التي تقام بها الصلوات الخمس التزاما ب"المرجية الإسلامية" للمسلمين، والتي جعل منها "البيجيدي" مرجعيته الحزبية والسياسية. ونضيف إلى ذلك أن كل درس في الوعظ ولإرشاد وفي التربية الإسلامية، هو كذلك بمثابة دعوة إلى التصويت على برنامج الحزب، ما دام أن تلك الدروس تدافع عن "المرجعية الإسلامية" وتدعو إلى الالتزام بها. وهكذا، وكنتيجة منطقية لما سبق تبيانه، يمكن تفسير العدد الكبير من المصوّتين، على "البيجيدي" في استحقاقات 2011 و2016، على أنهم اختاروا التصويت لصالح "المرجعية الإسلامية" تماشيا مع قناعاتهم كمسلمين يريدون الفوز والنصر للإسلام. وإذا كان هذا لا يعني بالضرورة أن المصوتين على الأحزاب الأخرى قد صوّتوا على غير "المرجعية الإسلامية" ما دام أن هذه الأخيرة هي مرجعية مُشاعة بين كل المغاربة المسلمين، إلا أن مكر "البيجيديين" يتمثّل في أنهم جعلوا من هذا المُشاع مرجعية تكاد تكون ملكا خاصا بحزبهم، لا يشترك معهم فيها إلا من يتبنّاها من خلال التصويت على هذا الحزب، محوّلين بذلك مرجعيتهم الدينية إلى مرجعية سياسية، مع جعل الأولى في خدمة الثانية. وإذا كان التصويت على غير "البيجيدي" لا ينفي عن المصوّت انتماءه الديني إلى "المرجعية الإسلامية"، كما أشرت، إلا أن التصويت على هذا الحزب بالضبط، يعني التصويت لدعم وتقوية هذه "المرجعية الإسلامية" التي هي مرجعية الحزب. وتبعا لهذا المنطق، يكون المصوتون على الحزب ذي "المرجعية الإسلامية" أكثر إسلاما ودفاعا عن الإسلام ممن صوتوا على غيره من الأحزاب. فمن الدوافع المشجّعة إذن على التصويت لهذا الحزب انتظاراتُ "التنمية الدينية" "للمرجعية الإسلامية"، وقبل التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لأن من شروط هذه التنمية الأخيرة أن تكون في انسجام مع هذه المرجعية... ولهذا لا نتصوّر أن عَلمانيا أو لادينيا يختار التصويت على حزب"للبيجيدي". ومن هنا نفهم أن حصول "البيجيدي" على أكبر عدد من الأصوات شيء طبيعي مادام أن المغاربة مسلمون، ومتمسّكون ب"المرجعية الإسلامية" التي جعل منها الحزب مرجعيته السياسية أيضا، كما قلت. حسب هذا المنطق "للمرجعية الإسلامية" الذي يفسّر لنا الانتصار الكبير "للبيجيدي" في انتخابات 2011 و2016 كانتصار للإسلام بالمغرب، يكون الاندحار المُهول لنفس الحزب في انتخابات 8 شتمبر 2021، هو تراجع للإسلام لدى المغاربة باختيارهم إسقاط الحزب الإسلامي. فهل هذا صحيح؟ هل تراجع الحزب ذي "المرجعية الإسلامية" في هذه الانتخابات هو تراجع للإسلام لدى المغاربة؟ لنبْقَ دائما في منطق "المرجعية الإسلامية" ونواصل استدلالنا واستنتاجاتنا. قلنا إن الذين صوّتوا على الحزب في 2011 و2016، فعلوا لذك، ضمن دوافع أخرى، بدافع "التنمية الدينية" "للمرجعية الإسلامية". فهل الذين صوّتوا ضد نفس الحزب في 8 شتمبر 2021 تخلّوا عن هدف "التنمية الدينية" "للمرجعية الإسلامية" بسبب تراجع ما في إسلامهم؟ في الحقيقية، هؤلاء الذين تخلّوا عن حزب "المرجعية الإسلامية" في انتخابات 8 شتمبر 2021، لم يتخلّوا عن "مرجعيتهم الإسلامية"، ولا أصبحوا أقل إسلاما ممن صوّتوا على نفس الحزب في استحقاقات 2011 و2016. كل ما في الأمر أنهم اكتشفوا واقتنعوا، بعد عشر سنوات من ممارسة الحزب الإسلامي للسلطة الحكومية (وليس لسلطة الحكم)، أنه لم يفعل شيئا من أجل "التنمية الدينية" "للمرجعية الإسلامية" التي يقوم عليها الصرح الإيديولوجي للحزب، وتتحكّم بالتالي في اختياراته السياسية والاقتصادية. بل اكتشفوا واقتنعوا أن هذا الحزب لا يملك، في إطار ما يتبجّح به من "مرجعية إسلامية"، أي مشروع سياسي إسلامي حقيقي حتى يعمل على تحقيقه بوصوله إلى الحكومة. ولهذا فهو لم يبذل أي مجهود من أجل "التنمية الدينية" "لمرجعيته الإسلامية"، ولا من أجل التنمية الاقتصادية للبلاد. فكل مجهوداته، طيلة قيادته للحكومة لولايتين، انصرفت إلى "تنمية" جيوب قادته ومسؤوليه، والزيادة في أرصدتهم البنكية بمراكمتهم لأموال الريع الحكومي والبرلماني والتقاعدي... هذه هي "التنمية" الوحيدة التي أنجزها الحزب بنجاح فاق كل التوقّعات. فالذين صوّتوا ضد الحزب الإسلامي في اقتراع ثامن شتمبر 2021، فعلوا ذلك إذن ليس لأن الحزب أخلف وعوده بخصوص التنمية والتشغيل والتعليم والصحة...، بل لأنهم اكتشفوا واقتنعوا أنه، سلوكا وممارسة، ليس بحزب إسلامي ولا بتنظيم ذي "مرجعية إسلامية". اكتشفوا واقتنعوا أن هذه المرجعية التي يرفعها شعارا له هي من أجل سلوك وممارسة منافييْن للإسلام نفسه، كما يتجلّى ذلك في الفضائح الأخلاقية لأتباع لهذا الحزب، والاغتناء غير المشروع لمسؤوليه من خزينة الدولة، أي من مال الشعب؛ وتشجيعهم، من خلال السكوت على ذلك، على الفساد الذي عرف انتشارا غير مسبوق في عهد تسييرهم للحكومة... هؤلاء الذين صوتوا ضد الحزب المحسوب على الإسلام، فعلوا ذلك إذن بعد أن اكتشفوا واقتنعوا أن أصحاب هذا الحزب هم، كما أثبت ذلك تسييرهم للشأن العام، مجرد انتهازيين ووصوليين وأنانيين، ليس لهم مذهب قارّ ولا مبادئ ثابتة. فهم لا يجدون حرجا في الجمع بين الولاء بلا شرط للمخزن نظرا لما يدرّه عليهم هذا الولاء من امتيازات وريع وتقاعد استثنائي، وبين المعارضة التي يدّعونها لنيل شرفها واستقطاب غير الراضين على السياسة المخزنية حتى يصوّتوا عليهم يوم الاقتراع. ولهذا نجدهم يصادقون، كمسؤولين حكوميين، على قوانين وقرارات واتفاقيات، ثم بعد ذلك يُدلون بتصريحات شعبوية يعلون فيها أنهم ضد تلك القوانين والقرارات والاتفاقيات. والأسوأ في هذه السلوكات السلبية لحزب "البيجيدي"، من انتهازية ووصولية وأنانية...، هو أنه يمارسها باسم الإسلام الذي يُشهره كمرجعية. فالذين أسقطوا يوم ثامن شتمبر 2021 الحزب الإسلامي لم يفعلوا إذن ذلك لتراجع في إسلامهم، بل فعلوا ذلك غيرة ودفاعا على هذا الإسلام، وعقابا لمن كان يدنّسه ويستغلّه ويستخدمه لخدمة مصالحه الشخصية والأنانية. لقد أسقطوا الحزب الإسلامي لينهض الإسلام الحقيقي، ويتخلّص ممن كان يتاجر فيه كدكّان مسجّل باسمه. قلت إن المغاربة اكتشفوا واقتنعوا أن هذا الحزب لا يملك، في إطار ما يتبجّح به من "مرجعية إسلامية"، على أي مشروع سياسي إسلامي حقيقي حتى يعمل على تحقيقه بوصوله إلى الحكومة. لماذا لا يملك الحزب الإسلامي أي مشروع سياسي إسلامي حقيقي؟ لأنه هو أصلا ليس حزبا لإسلاميا بل حزبا تعريبيا يستعمل الإسلام كوسيلة فقط من أجل الغاية التي هي تعريب المغاربة، أي تحويلهم الجنسي من جنسهم الأمازيغي الإفريقي إلى جنس عربي أسيوي. ولهذا فهو بعيد كل البعد عن التنظيمات الإسلامية الحقيقية، كالتي نجدها في تركيا وإيران وباكستان وأفغانستان... وعندما نذكر أفغانستان، يحضر ببالنا التنظيم الإسلامي للطالبان. فرغم أنني أعارض على طول الخط إيديولوجية الإسلام الوهّابي المتطرّف لجماعة الطالبان، إلا أنني أحترمهم وأقدّرهم. لماذا؟ لأنهم يدافعون عن إسلامهم السياسي في إطار هويتهم الأفغانية النابعة من أرضهم الأفغانية، دون استعمال لهذا الإسلام من أجل استبدالها بالهوية العربية، والعمل على التحويل الجنسي للشعب الأفغاني إلى شعب عربي مزوّر، كما يفعل حزب "البيجيدي" بالمغرب بجانب غيره من التيارات التعريبية. فغاية الطالبان هي إقامة شرع الله، حسب فهمهم المتخلّف لهذا الشرع، وليس إقامة شرع العروبة، كما هي غاية حزب "البيجيدي" الذي يدافع عن التعريب أكثر مما يفعل بالنسبة إلى الإسلام، الذي لا يدافع عنه إلا بالقدر الذي يخدم به هذا الإسلام إيديولوجية التعريب المقيتة والمخالفة لتعاليم الإسلام نفسه، الذي يدعو إلى عقيدة التوحيد وليس إلى تعريب الشعوب. هناك من ذهب إلى أن سبب السقوط المدوّي لحزب "المرجعية الإسلامية" في اقتراع 8 شتمبر 2021، هو رغبة السلطة الحاكمة في التخلّص من هذا الحزب. لكن لماذا يريد الحكم التخلّص من "البيجيدي"؟ فيمَ كان يزعجه أو يضرّ بمصالحه؟ على العكس من ذلك، إذا كان هناك من خاسر لسقوط هذا الحزب فهو الحكم. لماذا؟ لأن الخدمات التي قدّمها وكان سيقدّمها لو استمر يقود الحكومة هذا الحزبُ للحكم المخزني، لم يقدّمها أي حزب إداري ومخزني، وحتى في عهد المرحومين الحسن الثاني ووزيره إدريس البصري. وهذا ما سبق أن شرحته في مقال سابق بعنوان: "العدالة والتنمية، هبة من السماء للنظام المخزني" (للاطلاع على الموضوع، انقر هنا). فعبْر هذا الحزب، الذي حملته صناديق الاقتراع بفضل توظيفه "للمرجعية الإسلامية" إلى تسيير الحكومة، مرّر المخزن كل القرارات التي ضربت ما تبقّى من القدرة الشرائية للمغاربة، والتي كان في حاجة إليها لمواجهة عجز الميزانية، لكن دون أن يتحمّل فيها هو المسؤولية التي تتحمّلها الحكومة كما يقضي بذلك اختصاصها الدستوري. سقوط "البيجيدي" لا يعني بالضرورة أن الأحزاب التي ستقود بعده الحكومة ستكون أفضل أو أسوأ منه. فهذا ليس هو موضوع النقاش. وإنما الموضوع هو استعمال "المرجعية الإسلامية" للنصب والانتهازية والوصولية وخدمة المصالح الشخصية وللإثراء غير المشروع... فهذه الأحزاب التي ستقود الحكومة، ومهما ستكون إخفاقاتها وتعثّراتها وعدم الوفاء بوعودها، إلا كل ذلك لن يكون سببه هو كذبة "المرجعية الإسلامية". هذا هو الفرق، وهذا هو موضوع النقاش، كما كتبت. لقد دأبتُ، منذ أزيد من ثلاثين سنة، على التصويت في كل المواعد الاقتراعية، رغم أنني كنت مقتنعا بأن الانتخابات والاقتراع الذي يصاحبها هي عمل عبثي لا جدوى منه نظرا لطبيعة النظام السياسي المغربي. لكن اليوم، وبعد نتائج اقتراع ثامن شتمبر 2021 التي وضعت حدّا لهيمنة "البيجيدي"، الذي ظل لوقت طويل ينصب على المغاربة برفعه لشعار "المرجعية الإسلامية"، اقتنعت أن هذه الانتخابات ذات جدوى لا يمكن إنكارها. وأحمد الله بصدق أنني عشت حتى رأيت، بالملموس والمحسوس، ثمار هذه الجدوى، ولو أن ذلك حدث مرة واحدة في حياتي.