ليس من الصعب على المرء أن يُدرك، في ظلِّ ما يجري بمصر (وتقريبا بكل بُلدان «الربيع العربيّ»)، أنّ خُصوم "الإسلاميِّين" بمُختلف توجُّهاتهم صارُوا يَعلمون علم اليَقين أنّ الأمر يَتعلّق بأُناس لا سبيل لهزيمتهم - بَلْهَ استبعادَهم- إلّا بتوظيف آلةٍ تضليليّةٍ تستنفر كل ما يَكفُل شيطنتَهم، آلة لا تتوسّلُ فقط الكذبَ كإخفاء أو تشويه للحقائق، بل تعتمد أيضا الافتراء كاختلاق لوقائع لا مُستنَد لها غير الهوى في استبداده والتوهُّم في جُموحه. ولهذا يُراد، بأيِّ ثمن، إظهار "الإسلاميِّين" جميعا كأنّهم "إخوان مُسلمُون" والانتقال، من ثَمّ، إلى اعتبار هؤلاء يَطلُبون مُمارَسةَ السياسة وهُم "إخوانٌ مُسلَّحون"! وهكذا ترى أنّ خُصوم "الإسلاميِّين" يَقُولون إنّ كل مُعارضي "الانقلاب العسكريّ" في مصر ليسوا سوى "إخوان مُسلمون" (يُستعمَل اسم "إخوان مُسلمون" اسما جامدا وَفْق الحكاية فلا يُعرَب: حقّه، هُنا، أن يُجرّ بعد "سِوَى")، وأنّ هؤلاء لم يَعتصموا في ميدانيْ "رابعة العدويّة" و"النّهضة" اعتصاما سِلْميّا ومَدنيّا، وإنّما كانوا "مُسلَّحين" بكل ما وَسعهم من أنواع السلاح ؛ فهم، إذًا، «إخوانٌ مُسلَّحون» بما لا ريب فيه وبما كان يُبيح فضّ اعتصامهم بالقوة ومُلاحَقتهم قضائيّا وعسكريّا لاجتثاث شَأْفتهم بما أنّهم "مُجرمون" و"مُحارِبون"! ولذلك، فإنّ الانتصار ل"الشرعيّة" يَصير انتصارا لحزب "الحريّة والعدالة" الذي أرادت جماعةُ "الإخوان المسلمون" أن تَحكُم من خلاله مصر تمهيدا لتأسيس "الخلافة الإسلاميّة" مُجدّدا في العالم كلّه، فهي تنظيم دينيّ عالميّ لا يعترف بالدولة القُطريّة كدولة مدنيّة ودِمُقراطيّة. وبما أنّه لا مجال لتكرار تجربة "الجُمهوريّة الإسلاميّة" بعد الثورة الإيرانيّة التي أقامت استبداد "ولاية الفقيه" في الإسلام الشيعيّ، فقد كان لا بُدّ من التدخُّل بواسطة انقلاب عسكريّ للحيلولة دون قيام "الإخوان المُسلمون" حكومةً ورئيسا بإعادة إنتاج تلك التّجربة في الإسلام السنّيّ (يُفهَم، من هُنا، شيءٌ عن سرّ مُعاداة الشِّيعة ل"الإخوان المُسلمون" بصفتهم جماعة مُنافِسة على أكثر من مُستوى!). وما يَجدُر الانتباه إليه هو أنّ ترديد خُصوم "الإسلاميِّين" لمثل تلك الأقوال يُعَدّ أبعد عن «الوصف التّقريريّ» وأشدّ دلالةً على الميل إلى «الإنجاز التّدبيريّ» بما يُفيد، مرّة أُخرى، أنّ اللُّغة في واقع المُمارَسة العَمليّة لا تكاد تُستعمَل إلّا على جهةِ طلب الفعل في العالَم تأثيرا وتصريفا (الكلمات والأقوال كتعبير عمّا لا يَسمح به الواقع القائم أو عمّا تعجز عنه الإرادات). ولأنّ خُصوم "الإسلاميّين" يَعلمون أنّهم أمام عدوّ حقيقيّ، فإنّهم يُصرُّون على ذلك التّخْريج حتّى لو كان مَدْعاةً لإشعال حرب أهليّة لن تُحمَّل المسؤوليّةُ فيها، بالتّأكيد، إلّا ل"الإخوان المُسلمون" الذين هُم أنفسهم، وَفْق تصوير خصومهم، "الإخوان المُسلَّحُون"! لا يُريد خصومُ "الإسلاميِّين"، إذًا، أن يروا شيئا آخر غير التّمكين لإجراءات استئصال ذلك العدوّ واستبعاده من الساحة إلى الأبد. فهذا هو الحلّ الوحيد الذي يَتراءى لهم لفسح المَجال أمام كل من يَبتغي غير "الإسلام" دينًا ومرجعًا. ولو أنّ أدعياء الحداثة واللِّبراليّة والعَلْمانيّة في المجتمعات الإسلاميّة أعلنوا نيّاتهم على هذا النّحو، لظهر السّبب وبَطَل العجب! ولكن هيهات أن يُعلنوها صريحةً ويُدافعوا عنها بكل شهامةٍ وبلا مُوارَبة! ولأنّ خصوم "الإسلاميِّين" باتُوا مُوقنين بأنّ دُعاة "الإسلاميّة" خطرٌ مُحدِقٌ بما يُؤمنون هُم به وبأنّهم عدوّ غير قابل للهزيمة بالوسائل الدِّمُقراطيّة، فلا جدوى من السعي لإثبات أنّ "الإسلاميِّين" ليسوا كلُّهم من "الإخوان المُسلمون" وأنّ هؤلاء ليسوا مُتطرِّفين إلى الحدّ الذي يُجيز وصفهم ب"الإخوان المُسلَّحين"، وأنّ الذين قَبِلُوا منهم مُمارَسة التّدافُع السياسيّ وَفْق القواعد المُتعارَفة عالميّا من انتخابات حُرّة ونزيهة وتداوُل سلميّ للسُّلطة لا سبيل أنجع لاختبارهم وبيان حقيقتهم من توريطهم في مُستنقَعات السياسة. لكأنّ خصوم "الإسلاميِّين" لا يُؤمنون بأنه إذَا كان البقاء للأقوى والأصلح، فإنّ الشعب هو الحَكَم عبر صناديق الاقتراع! لكنّ الكيفيّة التي تَعامل بها خُصوم "الإسلاميِّين" مع "الانقلاب العسكريّ" (ومع كل ما نجم عنه من آثار حتّى الآن) تُؤكِّد أنّهم لم يَعُودوا يجدون طريقةً للبقاء في ميدان السياسة سوى التّخلُّص من "الإسلاميِّين" بأيِّ ثمن، ليس لأنّ هؤلاء غير دِمُقراطيِّين أو لأنهم يُمارسون السياسة باسم الدِّين كما تظلّ تُردِّد الدِّعاية التّضليليّة، بل لأنّهم أشدّ تجذُّرا وأوسع تأثيرا في مجتمعات أكثريّتها من المُسلمين. ولا يخفى أنّ هذا هو السبب الذي يَجعلُ خصوم "الإسلاميِّين" لا يَتردّدون عن المُجازَفة بما تبقّى لهم من ذمّة فتَراهُم يُمْعنون في التّحالُف مع كل قُوى الشرّ لضمان ما لا يستطيعون تحقيقه بالطُّرق المشروعة. وإنّ الذين يعملون على إظهار "الإسلاميِّين" في صورة "إخوان مُسلَّحين" ليَنْسَوْنَ أو يَتناسون أنّ هناك، في الواقع، ثلاثة أسباب أساسيّة تَمنع من ذلك: أوّلُها أنّ "الإسلاميِّين" في أكثريّتهم جماعاتٌ سُنّيّةٌ، وأنّ جمهور عُلماء "أهل السنّة" يُجمعون على تحريم الخُروج المُسلَّح ضدّ الحاكم مهما بَلغ فسقُه أو ظُلمه، ممّا يجعل "الجماعات الإسلاميّة" التي تنتهج الخُروج المُسلّح طريقا للوُصول إلى الحُكم أقليّةً تُمثِّلها "السلفيّة المُتطرِّفة" (نموذج "القاعدة" و"طالبان") ؛ وثانيها أنّ "التطرُّف السلفيّ" صناعةٌ سياسيّة يَرجع الفضل فيها إلى أنظمة "الحُكم الاستبداديّ" التي كانت ولا تزال حليفةَ أنظمة "الاستكبار" الغربيّ والتي تفنّنت، على امتداد أكثر من نصف قرن، في تعذيب وتقتيل مُعارضيها من "الإسلاميِّين" إلى أن خَرَّجت منهم أداةً نضاليّةً وتحكُّميّة على المَقاس وتحت الطّلب، أداة استُعملت أوّلا في ضرب "الشيوعيِّين"، ثُمّ وُظّفت أخيرا لضرب "الإسلاميِّين" من طينة "الإخوان المسلمون" و"حماس" و"حركة النّهضة" و"العدل والإحسان" ؛ وثالثها أنّ اللّجوء إلى العنف والاسترهاب من قِبَل "الإسلاميِّين" يَنْزِع عنهم "المشروعيّة" بحيث لا يُعقَل أن يُعطوا لأنظمةِ الحُكم الحبال التي تُساعدها على شَنْقهم (ولو فعلوه، لما جَنَوْا إلّا على أنفسهم فيُلْحَقُون حينئذٍ بمن ذهب قبلهم غير مُتحسَّر عليه!). وفوق هذا كلّه، فإنّه من العجيب جدّا أنّ مُتَّهمِي "الإسلاميِّين" بالتسلّح والاسترهاب لا يَعْدُون طرفين: أنظمة الاستبداد والقمع (وشُركاؤها في العالم مثل دُول أمريكا وأوروبا) والنُّخب والأحزاب التي آلتْ أخيرا إلى حظيرة "الشرعيّة" بعد عُقود من التِّيه في غياهب التاريخ الدمويّ! من يُدافع، إذًا، عن "الشرعيّة" لا يَفعل هذا حُبّا في "الإسلاميِّين" ومُناصَرةً لهم كأنّهم أصحاب أفضليّة فقط بما هُم "إسلاميّون"، وإنّما يُدافع عن الحدّ الأدنى من "المعقوليّة" الذي لا يَستقيم الأمر أبدا إلّا به خصوصا في فترة الانتقال الدِّمُقراطيّ. وإنّ "الشرعيّة" النّاتجة عن الانتخابات الحُرّة والنّزيهة هي المصدر الموضوعيّ الوحيد لبناء السلطة قانونيّا ومُؤسَّسيّا في إطار دولة الحقّ والعدل. ولهذا، فالذين يعرفون أنّهم لن يستطيعوا الفوز على "الإسلاميِّين" في الانتخابات هُم وحدهم الذين يَستميتون في مُسانَدةِ "الانقلاب العسكريّ" ولا يَستنكفون عن شيطنة "الإسلاميِّين" كيفما اتّفق لتبرير استئصالهم. وكونُ حال مصر اليوم ليست بأبعد من مصير سوريا منذ سنتين أو جزائر التسعينيّات يُشير إلى المآل الكارثيّ الذي يدعو إليه، بوعي أو من دونه، كل الذين يَتلكّأُون في استنكار الانقلاب المُفتعَل على "الشرعيّة" بذريعة التّخلُّص من استبداد "الإسلاميِّين" أو الذين يعملون على تسويغ الاستئصال بنشرهم لخُرافة "الإخوان المُسلَّحين". «ولا يَحيقُ المكرُ السيِّء إلّا بأهله!» (فاطر: 43).