تعالت وتيرة الهجمات التي تشنّها مجموعات المهاجرين غير النظاميّين، المتحدرين من دول جنوب الصحراء الكبرى، على السياجات المحيطة بمدينة مليليّة.. يائسون هم من واقع الحال ويعقِبون الكَرّة بنظيرتها لأجل اختراق باب"الحلم الأوربي" المتموقعة على مرمَى حجر من أحراش غابة كُورُوكُو.. أجساد غالبيّتهم شقّتها الأسلاك الشائكَة، وعظام معظمهم تهشّمت تحت هراوات حرس الحدود.. "هسبريس" جابت مساحة واسعة من غابة كُورُوكُو الكائنة ضواحي النّاظور، وحلّت ضيفة على ال"أفريكَانُو"، التسمية التي ينادِي بها لسان أهل المنطقة هؤلاء الوافدين، لتنقل إلى قرّائها صورة عن سكان قرى بدائيَة تأمل في "الرّحيل". شساعة غَابة "كُورُوكُو" وما لغطائها النباتي من كثافة، زيادة على صعوبة الممرات بها، المعيقة للتنقّل السلس بين الجبال، كلّها عوامل تجعل هذا الفضاء الإيكولوجيّ، وخصوصا ما ينتمي منه لبلديّة بني أنصار ويتاخم ثغر مليليّة، ملاذا آمنا للمهاجرين غير النظاميّين القادمين من جنوب الصحراء، بُغية تحيّن الفرصة المناسبة لبلوغ الأراضي التي تبسط فوقها إسبانيا وجودها وسط الرّيف، بأقصى الشمال الشرقي للمغرب.. فيما ولوجها بشكل سهل يقتضي الاستعانة بخدمات "تاكسيات فرخانة"، انطلاقا من النّاظور أو بني أنصار قبل إكمال المشوار على السيقان، وهي الطريقة التي لا يلجأ إليها ال"أفريكَانُو" بتفضيلهم الاختراق الرّاجل للمسالك غير المعبّدة عوضا عن الوقوع بين أيدي الأمنيّين. ذات الفضاء الغابويّ ثبّتت بمداخله العاديّة نقاط مراقبة أمنيّة تعمل بدوام مستمرّ، فيما تشتغل فرق مختلطة من القوات العموميّة على تمشيطه بشكل دوريّ، تتأرجح وتيرته ما بين مرّة إلى ثلاث مرّات في الأسبوع الواحد.. وغير بعيد عن الغابة، تحديدا عند أقدام السياج المثنّى المحيط بمليليّة، تتموقع فرقة عسكريَّة مغربيّة كاملة، من مشاة القوات المسلّحة الملكيّة، حماية لمليليّة من محاولات الاختراق المألوف تفعيله على أيدي المتربّصين من المهاجرين جنوب الصحراويّين، الذين ينتظرون فرصة "الحريك" إلى بلاد "السيد الأبيض". أصوات كُورُوكَو عائشتُو بارِي، الغينيَة المزدادة قبل 33 عاما بمدينة "زِيرِيكُورِي"، كانت أوّل من لاقَى "مجلّة هسبريس" ب "كُورُوكَو" بحكم جلوسها، بمعيّة أبنائها الأربعة عمر ومحمّد وعبدواللاّيْ وخديجَة، جوار طريق قد يجود المارون عبرها بما يمكن أن يسدّ رمق الأفراد الخمسة.. عَائشتُو نفت أن تكون قد أقدمت من قبل على محاولة اقتحام السياج المزدوج الذي يحيط بمدينة مليلية ويعزلها عن بني أنصار وفرخانة.. "لديَّ أطفال صغار لا يمكن أن أزجّ بهم ضمن مغامرة خطرة كهذه" تقول عائشتُو ل"هسبريس" قبل أن تكشف عن وثيقة لا تفارقها سبق وأن سلّمت لها من طرف مكتب المفوضية السامية للأمم المتحدة بالرباط مطلع العام الماضي، انتهت صلاحيتها في أبريل من السنة ذاتها، نظير تقديمها ملفّ لجوء بالعاصمة المغربيّة (ملف عدد 918.12C00023). وتقول السيدة باري ل"هسبريس" إنّ عدم معاودة قصدها لمقر المفوضية يقترن بسببين، "أوّلهما ذاتي يقترن بتحيّن فرصة يسيرة لقصد مليليّة بمعيّة الأطفال الأربعة، والثانيَ موضوعيّ ينبع من الميز الذي يلاقيه طالبو اللجوء المسلمون من طرف المشتغلين بمفوضية الأممالمتحدة بالرباط، وتفضيل هؤلاء تقديم ملفات معتنقي باقي الديانة" وفق تعبير عائشتُو. "أنتم في مملكَة كُورُوكُو" بهذا أجَابنَا عُصْمَان بخصوص مكان تواجدنا بعد أن رصد اقترابنا من مستقر رفاقِه وسط الغابَة.. فالرجل واحد من فريق حراسة اعتلى مرتفعا ليراقب مقدم الغرباء الدّانين من خيام بدائيّة نُصبت تحت ظلال الشجر.. القواعد هنا واضحة: الكاميرات ممنوعة كالغرباء، والوافدون بأياد فارغة لا ترحيب بهم، وأيّ رغبة في تخطّي هذه الضوابط ينبغي أن تلجأ لخوض "ترافع". صمت عصمان وتحدث رفيقه في السفر والمعاناة "تِيجَان بَابَادِي" والذي قال ل"هسبريس" إنّ زيارات الصحفيّين ل"كُورُوكُو"، بحثا عن المهاجرين غير النظاميّين، يدفع القوات العمومية المغربية للتكثيف من حملاتها التمشيطيّة، وبالتالي توقيف أعداد كبيرة من المختبئين وسط الأحراش. "لا نجني من كلّ هذا سوى المزيد من الألم، وبهذا الضغط المفعّل ضدّنا من طرف الأمنيّين نضطرّ بدورنا إلى رفع عدد محاولاتنا لتخطّي سياجات مليليّة حتّى تغدو وتيرتها يوميّة.. فنحن نفضّل، حينها، أن يتمّ توقيفنا بسبب محاولتنا الولوج للمدينة عوضا عن ترحيلنا بداعي افتراشنا لأراضي الغابة" يردف تِيجان. المتحدّث ذاته ل"مجلّة هسبريس" نفَى أن يكون المهاجرون غير النظاميّين يلجؤون للتسلّح قبل التوجّه للسياجات المراد تخطّيها.. وقال: "نحن ننبذ العنف من الأساس، ونلجأ إلى الفرار حين استخدام القوات لهراواتها أو الحجارة ضدّنا.. حتّى حينما نخاطر بمثل هذه المحاولات نعي جيدا أن عددا قليلا هو من سيتمكّن من تحقيق المبتغى بولوج مليليّة وقصد المفوضية الأمميّة للاجئين بها، أمّا الباقي فسيتعرض لمطاردات وتعنيفات تفضي لأعطاب بدنيّة". كهرباء الحرس يمكنكم مناداتِي ب "زين الدّين زيدَان"، بهذا أجابنا مهاجر غير نظاميّ حين سألناه عن اسمه، وقصة هذا الاسم تقترن بماضي هذا المهاجر الذي كان فيه لاعبا لكرة القدم أتى من موريتانيا لتطعيم صفوف مولوديّة مراكش، إلاّ أنّه سقط بين يدي "نصّاب" استنزفه ماليا بوعود وهمية للتهجير صوب الدوريّ القطريّ للرياضة ذاتها.. "أفلحت قبل 6 أسابيع في تخطّي السياج الحامي لمليليّة، وقد نالت من بدني الأسلاك الشائكَة، لكنّ الألم الحقيقيّ كان ينتظرني لدى 4 من عناصر الحرس المدنيّ الإسباني ثبتوا صواعقهم الكهربائية على جسدِي قبل إفراغ الشحنات" يقول "زِيدَان" قبل أن يسترسل: "سلّمت بمعيّة 9 من أصدقائي للقوات المساعدة المغربيّة، عبر معبر مَارِي وَارِي، وقد أفرط الإسبان في تعنيفنا، ونحن شبه فاقدين للوعي، قبل إلقائنا على الجانب المغربي من الحدود". أمّا سَانِي أوبَارِي، وهو الذي كان ضمن المجموعة ذاتها بمعيّة "زيدَان"، فقد حكَى ل"هسبريس" كيف قضوا فترة تطبيب ونقاهة استمرّت لأيّام بالمركز الاستشفائي الإقليمي بالناظور، الذي نقلوا إليه بعربات للقوات العموميّة، وما إن تمكّنوا من السير استناد على عكاكيز حتّى عاودوا قصد غابة "كُورُوكُو" بأعطابهم وبشكل جماعيّ.. "لا رغبة لنا في أن يتمّ ترحيلنا صوب الحدود الجزائريّة كما تمّ مع رفاق لنا، فنحن لم نفقد الأمل بعد رغم ما أصابنا" يورد سَانِي. تتوالى قصص المأساة هنا في هذا الجبل، تنتهي قصة ألم لتبدأ قصص ألم، وهذا "إدرِيسَا مَامَادُو" الذي يعيش داخل هذه الغابة الكثيفة بهواجس يومية حول طريقة تنظيم العيش والحياة في هذا الجبل، قبل أن يسعفهم الحظ في الوصول إلى "الإلدورادو"، وكما يشرح فالكيفيّة التي يتمّ بها تنظيم مهام مجموعات المهاجرين غير النظاميّين من أجل تحدّي حياة الغاب التي ينخرطون ضمنها في انتظار ما يصبون إليه من "رغد".. " أوّلا ينبغي أن تعرفوا بأنّ الأمر يتعلّق بمجموعات لا مجموعة واحدة، فنحن وسط هذا الفضاء الذي تتواجدون به نحاول تدبير حاجيات 147 من الأفراد، من بينهم قلّة هي لنساء وأطفال.. لذلك يشكّل فريق لأجل توفير المال والغذاء والألبسة والأدوية من المدن المجاورة، فهو يقصد المحسنين ويفتّش بحاويات القمامات، زيادة على فريق حراسة ورصد، وفريق آخر للنظافة.. والمنتمون لهذه الفرق يتغيرون تجنبا للإنهاك.. يبقى الإشكَال الحقيقيّ مقترنا بالموارد المائيّة، فرغم أن الغابة التي نستقر بها تتوفر على مضخات يدوية تمكّن من الحصول على الماء، إلاّ أن قصدها يبقى مغامرة بلجوء بعض الأمنيّين إلى التربص بنا عبر مراقبة هذه الآلات" يقول مَامَادُو، ويضيف موضحا أكثر: "غالبيّة المتواجدين حاليا بغابة "كُورُوكُو" لم يتخطّوا السنتين منذ تواجدهم هنا بالمغرب، ومن سبقوهم إمّا أفلحوا في معانقة أوربَا انطلاقا من مليليّة أو اختاروا العودة طوعا لمواجهة المخاطر ببلدانهم الأصلية، عوضا عن البقاء ضمن هذا الوضع المؤلم.. صحيح أنّ غالبيّة المغاربة، بمن فيهم عناصر من القوات العموميّة، تراعي كوننا بشرا مثلهم، لكن البعض يرى فينا غير ذلك ويعتبرنا دونيّين، وهذا أمر مؤلم يؤثر فينا بشكل كبير، على الرغم من قلّة متبنّي هذه الفكرة نحونا" يزيد إدريسَا. مساعدة لتخطّي عطب الGPRS فْرَانْسِيس مَاتُو كَان مرافقا طوعيا ل"هسبريس"، قدّم المساعدة لضمان خروج آمن من أدغال غابة كُورُوكُو.. فْرَانْسِيس قال ساخرا إنّه أضحى "GPRS بشريّا" حين رصد تعطّل جهازنا القادر على نقلنا خارج "حياة الغاب".. "لقد توجّهت صوب مليليّة لمئات المرّات، وهو ما مكّنني من ضبط معالم "كُورُوكُو" بعد أن فقدت البوصلة لأكثر من مرة" يضيف مرافقنا بمزاحه الذي لم يفارقه لكيلومترات من المشي.. إلاّ أنّ أبرز ما قاله تمثل في ما أجاب به عنصر من القوات المساعدة طالبه، مطلع العام الجاري، ب "العودة إلى إفريقيا لأنّها تليق به"، إذ ردّ فرَانسِيس ب "مَا زلتُ في إفريقيَا وأنَا هنَا، وجّه حديثك إليهَا وأخبرهَا أنَّنِي أريدها أن تبقَى دوماً لائقة بِي".. حينها فقط تغَاضَى رجل القوات المساعدة عن توقيف مَاتُو. المساطر القانونية لا تُحترم في ترحيل المهاجرين غير النظاميّين شكيب الخياري، رئيس جمعية الريف لحقوق الإنسان، الإطار الحقوقي الدائب على الاشتغال في تتبع وضعية المهاجرين المتحدرين من بلدان جنوب الصحراء منذ العام 2005، يرى بأنّ الوضعية مازالت مأساوية بالنظر لسوء التعامل مع هذه الفئة الهشة التي تضطر للعيش داخل الفضاءات الغابوية بضواحي الناظور. ويرى الخياري، ضمن تصريح ل"هسبريس"، أنّ التدبير الأمني غير القانوني لهذا الملف يزيد من تفاقم الوضع، إذ يقول: "ما زلنا، داخل جمعية الريف لحقوق الإنسان، نسجل عدم احترام المساطر المتضمنة في القانون 02-03 والتي ينبغي أن تسبق عمليات الترحيل إلى الحدود". "هناك ارتفاع لحدة الاعتداءات الجسدية العمدية وغير المبررة في حق هؤلاء المهاجرين غير النظاميّين، وراءها قوات أمنيّة، كما أن الرأي العام لم يطلّع، لغاية اليوم، على أي من المعلومات المتعلقة بالتحقيقات التي تم فتحها من طرف النيابة العامة بخصوص وفيات سبق وأن رُصدت في صفوف المهاجرين واقترنت بشبهات إجرامية مفضية للقتل، منها شكايات وجهتها جمعية الريف لحقوق الإنسان وأخرى بصمت عليها إطارات اشتغال حقوقيّ أخرى" يزيد الخياري. من جهة أخرى اعتبر الناشط الحقوقي نفسه، المشتغل لسنوات على ملفات الهجرة غير النظامية بالمنطقة أنّ "جمعية الريف لحقوق الإنسان تسجّل ارتياحها البالغ تجاه انتهاء التحكم الأمني في المستشفيات.. إذ أضحى ممكنا لكل مهاجر غير نظامي الولوج إلى المركز الاستشفائي الإقليمي بالناظور والاستفادة من خدماته دون أن يتعرض للاعتقال، عكس ما كان يحدث سابقا". ترتفع حرارة الصيف، ومعها ترتفع حرارة المهرجانات والملتقيات، حمى تنتشر مثل الفطر، في المدن والقرى والأحياء، ترتفع ميزانيات المهرجانات بارتفاع مناصب القائمين عليها.. وبين الدعم الكبير والأظرفة الضخمة، تضيع مبادرات أخرى لا يريد أصحابها سوى لفت الانتباه إلى أن جدلية المركز والهامش تحضر أيضا في العدل بين الأشكال المختلفة للاحتفاء بالثقافة، للصيف مركزه وهامشه.