على بعد ثلاثة أسابيع من انتخابات 8 شتنبر، يتجدد تضارب الآراء حول المشاركة والمقاطعة السياسيتين وأسئلة الجدوى بين "الاستمرار في بناء المؤسسات" و"شرعنة صورية الاقتراع"، و"الإصلاح من الداخل" و"المشاركة في عملية لفرز النخب لا تسلم مفاتيح الحكم". وفي ظل ظروف استثنائية مرتبطة بجائحة طبعت سنتي 2020 و2021، من المرتقب أن تتجدد الانتخابات مطلع شهر شتنبر المقبل وسط خفوت في مظاهر الاستعداد لها والنقاش حولها أيضا. في "الصف المثقف" تختلف التقديرات حول جدوى العملية الانتخابية بالمغرب، وهو ما تعكسه آراء استقتها هسبريس من الأكاديمي سعيد بنسعيد العلوي، والشاعر والباحث صلاح بوسريف، والأديب العربي بنجلون. "المشاركة حق وواجب" الأكاديمي سعيد بنسعيد العلوي قال إن المشاركة في العملية الانتخابية، "تدخل في باب الحق والواجب معا"؛ فهي "حق لا ينبغي التفريط فيه، لأن الانتخابات هي الوسيلة التعبيرية الكبيرة عن الخيار السياسي للمرء، وبالتالي هي واجهة الديمقراطية وممارستها الحقة؛ فأن يكون لي الحق في الترشح والانتخاب يعني امتلاكي الحرية السياسية ولي الحق في ممارسة حقي كاملا والاستمتاع به". والمشاركة، يتابع المتحدث، "واجب أخلاقي، إذا لم تكن المحاسبة عليه قانونيا"، لأننا "نعيش في مجتمع هو بطبيعته، كطبيعة المجتمع البشري، ائتلاف مصالح لرغبات متدافعة ومتضاربة؛ وبالتالي للصراع. والائتلاف لا يكون إلا إذا كان هناك تعدد واختلاف، وهذه سمة من سمات الحداثة، ويصاحبها الحق في الاختلاف". وأضاف سعيد بنسعيد، في تصريح لهسبريس، أن هناك "للأسف سمة أجد أنها تلازم مجتمعات العالم الثالث، فنجد عند كثير من المثقفين أحاديث تدور حول السياسة والصراع السياسي وتقرن ميلاد الحداثة في أوروبا بالحزب السياسي، وظهور الصراع السياسي، والشأن العام، وأن المسألة السياسية ليست مقدسة... لكن عند كثير من مثقفينا، وفي وطني المغرب أيضا مع الأسف، تناقض كبير بين هذا الخطاب والممارسة". وتابع شارحا بأنه "في مستوى الخطاب، هذه الزمرة من المثقفين، عبر مقالات وكتب وما يشاركون به من حديث، تتوسع في الحديث عن الليبرالية والحداثة والاقتداء بأوروبا... لكن واقع الأمر أن منهم من لم يسجل نفسه طيلة حياته كلها في اللوائح الانتخابية، فما بالك بأن يصوت، ويسخرون ويضحكون ممن يمارسون عملية التصويت، وهذا تناقض كبير يفقدهم المصداقية". وقريبا من هذه الفئة، تحدث المصرح عن "فئة أخرى" تتسم ب"سمات العالم الثالث"، وتتمثل في "قوة سياسية منظمة تعلن عن نفسها بحزب سياسي معترف به (...) لكن كل خطاباته منذ أن نشأ تدور حول كلمة واحدة: هناك لعب وكذب وتزوير، بالتالي لا معنى للانتخابات، فهي لعبة سخيفة وضحك على الذقون. ويدعون بالتالي إلى المقاطعة". ووصف المصرح هذا الموقف ب"الأمر الغريب"، أي "أن تمارس السياسة وتنتمي إلى حزب، وتدعو بعملية لا تمل منها ولا تكل إلى المقاطعة، وهذا يدخل في باب العبث". وواصل الأكاديمي ذاته قائلا: "توجد أصوات ترتفع داعية إلى المقاطعة، وفي الغالب نجدها عدمية لا تؤمن بشيء في نهاية الأمر، ولا تريد أن تلتزم بشيء. والأخطر من ذلك أنها تقع ضحية سذاجة غريبة؛ فعندما ندعو إلى مقاطعة العملية الانتخابية، وننتقد السلطة التنفيذية، نصوت لصالحها (في حقيقة الأمر) لإفساحنا لها المجال واسعا، خاصة عندما يتعلق الأمر بقوى حزبية منضبطة انضباطا رهيبا، وتضمن مقدما أن كل المنتمين إليها والمتعاطفين معها سيصوتون لها". وبناء عليه، يقول سعيد بنسعيد العلوي: "إذا أردت للوضع أن يبقى على ما كان عليه فيما يتعلق بالسلطة التنفيذية، فالعملية بسيطة: لا تصوت وستزكي الوضع القائم مسبقا ولا يحق لك بعد ذلك أن تنتقد". وخلص الأكاديمي في نهاية تصريحه إلى أن "الديمقراطية ممارسة طويلة النفس وصعبة، والإصلاح لا يكون إلا من الداخل، وليس بسياسة النعامة سيقع التغيير وسيحارَب التزوير والعبث، ولا يمكن حل هذا إلا من داخل الممارسة الانتخابية، أما انتظار تغير الأحوال إلى ما أحلم به وأنا منصرف إلى شأني مستلقٍ على قفاي وعندما تصلح الأمور سأصوت، فهذا إما عبثية أو عدمية وإما سذاجة يستغلها الآخرون، وفي كل الأحوال هذا موقف مناقض للحداثة جوهرا وشكلا". "ديمقراطية متعثرة" ذكر الشاعر والباحث صلاح بوسريف أن الانتخابات "ليست خيار دولة من الدول أو شعب من الشعوب، بل هي الحل الوحيد الممكن لخلق جو من الحوار والنقاش، وهي وليدة الديمقراطية التي جاءتنا من المجتمع الأثيني عند اليونان، وفي تاريخها سنجد مصادرات، لكن في الوقت نفسه كانت المدينة تتراجع عن هذه المصادرات وتترك الديمقراطية تتحرر من كل القيود". وزاد بوسريف، في تصريح لهسبريس، أن "هذا ما نجده مثلا في المسرح الكوميدي عند أريستوفان، الذي كان ينتقد في مسرحياته بشكل لاذع وقاطع السياسيين والحكام والمثقفين، وانتقد سقراطا بدوره في مسرحية السحب، وانتقد سلوكيات الناس في المجتمع، وكل شيء داخل المجتمع (...) مما كان ينعش الديمقراطية، ويجعلها متحررة من كل ما يؤدي بها إلى الاستبداد وإلى النظام الشمولي الذي يكون فيه فرد أو مجموعة من الأفراد هم المتحكمون في المجتمع". وعليه، فالانتخابات بالنسبة لبوسريف، "مفيدة ليس فقط بالنسبة للدولة، بل كذلك للشعب، لكن شريطة أن تكون بجناحيها كاملين، وليس ببعض الريش الذي يجعل التحليق متعثرا ولا يسمح لها بأن تنشر جناحيها على الجميع، وأن تكون خيارا ثقافيا وخيارا تربويا وخيارا شعبيا وخيارا يؤمن به حتى من يشرفون على تدبير شؤون الدولة في أي بلد كان". وتابع المتحدث قائلا: "في المغرب، الديمقراطية اليوم متعثرة، تعرف احتباسات، وتعرف اختناقات نتيجة التأويلات التي يتعرض لها دستور 2011، الذي كان جد متقدم قياسا بالدساتير السابقة، ولكن فيه بنود وأبواب كثيرة مازالت لم تفعَّل ولم تشغل بسبب المنتخبين الذين أصبحوا سلطة وهم الذين كانوا يديرون خلال السنوات العشر السابقة شؤون البلاد، وجعلوا هذا الخيار غير ممكن في إطلاق جناح الديمقراطية بشكل واسع. بالتالي، سيؤدي هذا الوضع إلى تذمر الناخبين والشعب بصورة عامة من النتائج الهزيلة التي تحققت". وزاد بوسريف: "إذا عدنا إلى الواقع السياسي في المغرب، سنجد أن الأحزاب أصبحت ضعيفة جدا، وأصبحنا لا نستطيع التمييز بين اليمين واليسار والوسط، لأن كل الأحزاب أصبحت تتكلم بنفس اللغة، بنفس الخطاب، وحتى في التحالفات الحكومية لم نعد نعرف ما موقف الأحزاب المتحالفة باختلافاتها الإيديولوجية والفكرية، وبرامجها". وقدم المصرح مثالا بحكومتي العثماني وبنكيران، قائلا إنهما كانتا تعملان "بدون برنامج ولا رؤية ولا أفق، وكانتا حكومتين مشتتتين ومختلفتين وليس فيهما تحالف، وهو ما أدى إلى التوترات التي أجلت كثيرا من الأوراش والمشاريع، وإلى اتخاذ قرارات في غير صالح الفئات المعوزة وفئات الشعب العامة، بل على العكس استفاد رجال المال والأعمال كثيرا منهما، لأنهم كانوا يعرفون كيف يصلون إلى تحقيق ما يفرضونه من شروط على الحكومة". وذكر بوسريف أنه "حين نعود إلى ردود الفعل الشعبية حول الانتخابات، سنجد أن هناك ميلا واسعا إلى العزوف عن الانتخاب، خصوصا مع ظهور ما سمي بالقاسم الانتخابي الذي كان بمثابة قُبلَة الحياة بالنسبة للأحزاب السياسية، ولكن كان قبلة الموت بالنسبة للخيار الشعبي الذي ليس تعبيرا عن رفض العملية الانتخابية، بل هو رفض لسلوكات الأحزاب التي لم تتحمل مسؤوليتها تجاه الشعب". هنا، قال المتحدث إنه يجب طرح السؤال: "هل الأحزاب تمثل الدولة أم تمثل الشعب؟"، وأجاب: "الأحزاب تمثل الشعب لأنه هو الذي ينتخبها لتكون في مراكز السلطة، لكن حين ننظر إلى البرلمان بغرفتيه سنجد أن القرارات التي كانتا تتخذانها غير شعبية، وضد الشعب، بمعنى أنها أحزاب كانت تمثل الدولة وليس الشعب، وهو ما جعل الشعب يحس بأن الأحزاب أصبحت جزءا من الدولة، بينما الانتخاب هو أن هذه الأحزاب تدافع بالأساس عن مصالح الفئات المتضررة والفئات الشعبية المختلفة التي هي في حاجة لمن يسند حاجتها، ويحس معها بأن الثروة والثراء داخل البلد يفيد الجميع وليس فقط فئة دون أخرى". وخلص بوسريف إلى أنه "حين تنهار الأحزاب، وتذوب في الدولة، وتصير جزءا منها، وتتكلم لغتها ولغة مؤسساتها، وتتصارع فقط من أجل المناصب والمسؤوليات ومن أجل الريع السياسي، فهذا يجعل الشعب عازفا". وأضاف: "شخصيا، أرى أن العزوف سيكون كبيرا، رغم أن القاسم الانتخابي سيحل مشكلته. لكن على الدولة أن تنتبه إلى أن قوتها موجودة في أحزاب معارضة ويسارية لها خطابها الخاص بها في منأى عن الدولة، لأن الأحزاب حين تصير جزءا من الدولة ومعادية للشارع، يؤدي هذا إلى تسيب الشارع، مما يؤدي إلى ظهور اضطرابات واحتجاجات وإضرابات غير مؤطَّرة وغير منظَّمة وليس لها وعي سياسي وثقافي وفكري". وأجمل صلاح بوسريف القول في متم تصريحه، بأن "العزوف شيء مؤكد بصورة واسعة، بدليل أن التسجيل في اللوائح الانتخابية ضعيف. كما أننا نحس بنوع من اليأس، رغم أننا ما زلنا متشبثين بالأمل، وربما الأمل عندنا نقطة مضيئة في نفق مظلم ما نزال نسير فيه، نتلمس طريقنا نحو ديمقراطية حقيقية تكون فيها الأحزاب مساندة للشعب، وتكون فيها الدولة أيضا تخدم مصالح الجميع، وليس فئة معينة تمثل القلة داخل هذه الكثرة المتضررة". "لا جدوى للانتخابات" قال الأديب العربي بنجلون ب"لا جدوى للانتخابات"، لأن "كل حكومة جديدة لا تحكم وليس بيدها ذلك، فلا داعي بالتالي للمشاركة في العملية الانتخابية". وأضاف بنجلون في تصريح لهسبريس أن هذا رأيه ورأي فئة عريضة من الشعب المغربي، مشددا على أن "الانتخابات تمثيل في تمثيل، بالمفهوم المسرحي، وصعود للكرسي دون حكم". وتابع قائلا: "لم نصل بعد، حقيقة، إلى العملية الديمقراطية، ولا يمكن أن نكذب على الناس ونقول إننا نتوسم خيرا، فالحكومة المقبلة ستكون مثل سابقاتها، لأنه لا يوجد من يمكنه تمثيلنا تمثيلا حقيقيا، وليس في يد أي أن يفعل شيئا. وأنا من مواليد سنة 1948 وأرى منذ عقود نفس الحكومات ونفس البرلمانات. وبالتالي، فلا جدوى من هذه العملية". وأجمل بنجلون بالقول: "أنا بعيد عن العملية الانتخابية لأنني أعرف نتائجها مسبقا، وما قيل-خلالها وبعدها-منذ سنوات، سيقال مرة أخرى".