في شهر أغسطس من كل سنة، يحتفل المغاربة بذكرى اسمها ثورة الملك والشعب، وهي احتجاج شعبي عارم قام به المغاربة، ضد قرار الحماية الفرنسية، خلال القرن العشرين، بعد نفي الملك الراحل محمد الخامس خارج البلاد برفقة عائلته، وفي أغسطس الجاري، سجل المغاربة سلوكا احتجاجيا غير مسبوق ضد قرار للعاهل المغربي محمد السادس، حفيد الملك محمد الخامس، بعد عفو صدر بالخطأ، لصالح إسباني محكوم في قضايا اغتصاب للقاصرين المغاربة، أعتقد أنها ثورة جديدة يشارك فيها الملك والشعب. فالمؤسسة الملكية خرجت عن صمت استمر لساعات، مرت طويلة جدا، على كل المغاربة، لما تأكد خبر العفو من قبل العاهل المغربي محمد السادس، عن الإسباني دانييل كالفن، مغتصب أطفال مغاربة بالتسلسل، وهو المجرم الذي أدانه القضاء المغربي، بثلاثة عقود غير منقوصة من السجن، إلا أن خطأ قاتلا من إدارة السجون وإعادة الإدماج في المغرب، كان هو السبب الحقيقي، وهو ما أوصل اسم الوحش الإسباني، إلى لائحة تضم 48 سجينا إسبانيا في المغرب، خطأ كان ثقيلا جدا على كاهل المغرب وكل المغاربة. فالمؤسسة الملكية مارست سلوكا غير مسبوق، في التواصل مباشرة مع الرأي العام المغربي، بدون وساطة لا من المجتمع المدني ولا من الأحزاب ولا من الإعلام الرسمي ولا من الحكومة التي يعتبر الملك رئيسها، ونجحت العملية في توضيح الصورة، وفي الدفع في سابقة أخرى من نوعها، صوب ربط المسؤولية بالمحاسبة، وفق ما ينص عليه الدستور المغربي، وخلفت البلاغات المتتالية من الديوان الملكي ارتياحا بعد ارتفاع حرارة الانتظار، وربحت الملكية نقاطا جديدة من المصداقية. وللأسف الشديد، فإن العشرات من المغاربة، جرى التدخل بعنف مفرط ضدهم، في احتجاج سلمي قبالة البناية التي تحتضن مقر البرلمان، الذي يجسد إرادة المغاربة عبر الصناديق الانتخابية، وهذه تحتاج أيضا لوقفة للتأمل، لأن رئيس الحكومة ووزيره في الداخلية، يتحملان مسؤولية سياسية مباشرة فيها، ولا بد من فتح تحقيق للوقوف على من يقف وراء منع ممارس المغاربة لحقهم السلمي في الترافع عبر الاحتجاج، في القضايا الأساسية، ولعمري إن التفاف كل ألوان المجتمع حول رفض العفو عن مغتصب القاصرات، والخروج للاحتجاج لسابقة أخرى في أسبوع السوابق في التاريخ المغربي المعاصر. فخلال هذه التطورات المتسارعة، مارست الحكومة المغربية صمتا، لم يكن متوقعا، خاصة في أزمة من هذا الحجم، فوزير الإعلام والناطق الرسمي باسم الحكومة، اختار أسلوبه، في الابتعاد عن التعليق على موضوع يعتبره خاصا بالمؤسسة الملكية، وهي جملة كررها مرارا أمام الصحافيين، إلى أن أطل من نشرة الأخبار الرئيسية للقناة الأولى المغربية، ليكسر قاعدته السابقة بأخرى جديدة، تخرجه من خانة الناطق باسم الحكومة، إلى المتحدث الرسمي باسم الدولة المغربية. وبدوره وزير العدل والحريات، شدد على أن لا علاقة لوزارته بهذه القضية، قبل أن يطل من بلاطو نشرة أخبار القناة الثانية المغربية، ليقدم روايته لما جرى، ويبقى الصامت الأكبر في هذا الملف، وصورة المغرب، في الخارج تتأذى، والإعلام العالمي يعلق، هو وزير الخارجية، فيا ترى هل أنا مخطأ في التقدير؟ ومن وجهة نظري. فالوزراء الثلاثة يتحملون مسؤولية مباشرة في الدفاع عن صورة البلد، وفي الدفاع عن المؤسسة الملكية التيذيعتبرها الحزب الذي ينتمي له الوزراء الثلاثة تاجا على رؤوسهم، فتقديم توضيحات للرأي العام المغربي، كان فرضا حكوميا تواصليا واستعجاليا، دون انتظار للإشارات، وأما المسؤولية الكبرى فهي على عاتق رئيس الحكومة المغربية، الذي صمت عن قضية رأي عام، وفضل الهروب للحديث عن حوادث المرور، في بداية اجتماع الحكومة الأسبوعي، وحادثة سير من نوع آخر اسمها دانييل تتفاعل بسرعة كبيرة، وهنا أنوه بأن الحكومة جزء من الدولة، وأتوقع أن يأتي رئيس الحكومة إلى البرلمان، في الدورة الخريفية المقبلة، ليلقي بكل اللائمة على التماسيح والعفاريت التي تنازعه كل مشاريع إصلاح المغرب. هذا وانتقل الصمت من الحكومة، إلى الأحزاب السياسية المغربية، باستثناء بلاغ جريء لحزب الأصالة والمعاصرة اليميني المعارض، وبلاغ ثان يستحق الاحترام لحزب التقدم والاشتراكية اليساري، المشارك في الحكومة، الذي طالب بفتح تحقيق في العفو الملكي، فيما البقية من الأحزاب اختارت الصمت، خاصة حزب العدالة والتنمية الإسلامي، الذي يقود الحكومة، فهو الصامت والزاهد عن التكلم في الموضوع، وكأن القاصرين الأحد عشر ليسوا مغاربة، فيما استمر تضامن الحزب مع منصة رابعة العدوية التي يحتشد فيها أنصار جماعة الإخوان المسلمين، وفي نفس يوم وقفة الرباط قبالة البرلمان للاحتجاج على قرار عفو الملك محمد السادس، عن المجرم الإسباني، خرجت وقفة للذراع الطلابي للحزب الذي يقود الحكومة نصرة للإخوان، فالأفضلية لنصرة مصر عوضا عن الضحايا المغاربة. وبالعودة إلى الوراء قليلا، في الأسابيع الماضية، انقسم المغاربة حول مصر، ما بين مؤيد لميدان التحرير وبين آخرين من المناصر لميدان رابعة العدوية، فيما حصل الإجماع السريع، على قضية الإسباني مغتصب القاصرين، إلا أن الحكومة فشلت في التقاط الإشارات القادمة من الشارع، والتعاطي مع الحدث بتفاعل إيجابي، عوضا عن دفن الرأس في الرمال، ونفس المشهد تكرر مع الأحزاب السياسية المغربية التي اختارت الصمت في انتظار الإشارات، لتسارع بالتهليل لما صدر بكل شجاعة عن الديوان الملكي المغربي ثلاث بلاغات متتالية، قطعت الشك باليقين، وأعلنت انحياز الملك محمد السادس للشارع، وانهيار مؤسسات الوساطة التقليدية، هنا أتحدث عن الأحزاب السياسية. ووفق تقديري، هذا هو الأسلوب الجديد للملك محمد السادس في التفاعل السريع مع قضايا المغاربة، عبر تواصل مباشر، بعيدا عن الانتظارية القاتلة، التي استعملتها ولا تزال تستعملها أنظمة عربية، منها من سقط ومنها من يتهاوى، فالمغرب ليس استثناء ولكن فيه شعب حي يدافع عن قضاياه، ويسمع صوته في الفضاءات الافتراضية للتواصل وفي الساحات وكبريات الشوارع، وفي المغرب ملك بأسلوب تواصلي مباشر وصريح، واختار الطريق الصعب في التنازل للشعب، والتراجع عن القرارات إنصاتا للشعب. فكلما تضررت المصالح العليا للوطن، وهنا اسمه المغرب، يجب أن تتوقف الحسابات السياسوية الضيقة، ليبذل الجميع كل التضحيات، مهما غلت، في سبيل الوطن، خاصة في سياق إقليمي يعيش موجة ثانية من الحركات الشعبية التي تستهدف الأنظمة التي يتواجد على رأسها أحزاب إسلامية. فالصمت الحكومي والحزبي المغربي، كان مسيئا للبلد ولصورته الخارجية، ويحب أن لا يتكرر، لأن الحكومة هي اختيار من الشعب والأحزاب السياسية يجب أن تكون نبضا للمجتمع، فدرس الإسباني مغتصب القاصرين، يجب أن يكون حلقة في الأذن تشد كلما تجمعت رياح أزمة، فيما كان من المغاربة فئة اختارت إسماع الصوت، بكل وطنية، عبر الاحتجاج على قرار العفو في ساحات المغرب، بعد أن حركتهم الوطنية، والدفاع عن الطفولة المغربي. ولا تزال الأحزاب السياسية المغربية تستعمل نفس أساليب التقاط الإشارات القادمة من رأس هرم الدولة المغربية، مفتقدة للمبادرة، فلا فرق بعد أزمة دانيال الإسباني بين حزب العدالة والتنمية الإسلامي، وباقي الأحزاب السياسية التي سبقته لترأس الحكومات، فشخصيا انتظرت أن يتحدث رئيس الحكومة أو على الأقل بيان من حزبه، يعلن التضامن ويطالب بفتح تحقيق فيما جرى، ويكفكف رمزيا دموع عائلات مكلومة في فلذات كبدها للمرة الثانية، بعد أن غادر المجرم السجن صوب بلده إسبانيا، ووحده المجتمع المدني والنشطاء وآل صحافيون قضوا ساعات طويلة أمام شاشات الحواسيب يقلبون القضية من كل جوانبها ويتبادلون الرأي في كيفية التعبير، ليكون الفعل احتجاجا وليكون رد الفعل شجاعا وإنسانيا من الملك محمد السادس، بالتراجع عن قرار العفو، والانتقال صوب تحديد المسؤولية وراء الخطأ.