أصدر الديوان الملكي بلاغا للرأي العام يوضح فيه موقفه من قضية العفو عن مغتصب الأطفال الاسباني، ثم، ربما، تبين للديوان الملكي أن هذا البلاغ لا يفي بالغرض، سيما مع حجم التعليقات التي انصبت عليه في مواقع التواصل الاجتماعي، فقام بإصدار بلاغ ثان في أقل من 24 ساعة، وضمّنه إجراءا عمليا تمثل في "سحب العفو الملكي الذي سبق وأن استفاد منه المسمى دانييل ". وبالقراءة المتأنية لمضمون البلاغين، يتضح أنهما كانا صادمين بكل المقاييس، وصدمتهما أكثر وقعا من صدمة قرار العفو. لقد كنا خلصنا في مقال حول قرار العفو عن البيدوفليين إلى نتيجة مفادها أن واقعة العفو عن مغتصب الأطفال ستتكرر مالم يتوفر المغرب والمغاربة على نظام سياسي ديمقراطي، نظام ترتبط فيه المسؤولية بالمحاسبة القضائية والانتخابية، ولا يفلت فيه مانح العفو من عقاب المنتخبين. وعلى الذين صوتوا لدستور يكرس الحكم المطلق ويجعل حق العفو في يد حاكم غير منتخب أن يصمتوا اليوم وأن يصفقوا لقرار العفو، بل ويجتهدوا في تبريره أو يكفروا عن خطئهم بالانضمام للذين يطالبون بدستور ديمقراطي. أما الذين رفضوا هذا الدستور وقاطعوا الاستفتاء عليه، وقاطعوا نتائجه الانتخابية، فمطالبون بالاستمرار في النضال من أجل التأسيس للمغرب الديمقراطي، مغرب لا يفلت فيه مغتصبي الأطفال دون محاسبة من يُسهم في هذا الافلات، مع الابتعاد عن الأيديولوجيات الضيقة، وتطوير أساليب الكفاح، فضلا عن وضع مصلحة الوطن نصب أعينهم أولا وأخيرا. وهو الأمر الذي يزداد تأكيدا بعد هذين البلاغين، وتبيان ذلك في النقاط التالية: أولا: لقد كرَّس البلاغ الأول الطقس التقليدي للنظام السياسي المغربي منذ عقود، والمتمثل في عدم الاعتذار المباشر من ملوك المغرب عن أخطاء قاموا بها، حيث لا يسجل الأرشيف،حسب علمنا، أي مبادرة للإعتذار يمكن أن تكون قد صدرت عن ملوك المغرب سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. وهذه الرؤيا ناتجة عن تصور ملوك المغرب عمّن يحكمونهم، فالنظر إلى المغاربة على أساس"الرعية" لا على أساس المواطنة، هو ما يمنع الحاكم من الاعتذار لمن هو دونه في المرتبة والصفة، وهذا على عكس ما تسير عليه الامور في الانظمة الديمقراطية، التي ترى في الحاكم مجرد مواطن أجير لدى الشعب، وعليه أن يعتذر عن الأخطاء الصادرة عنه. ولذلك لم يأتي بلاغ الديوان الملكي على ذكر كلمة "اعتذار"، وإنما أورد عبارة تُستعمل في العلاقات الدبلوماسية، والمتمثلة في أن "يتم فتح تحقيق معمق من أجل تحديد المسؤوليات ونقط الخلل التي قد تكون أفضت لإطلاق السراح هذا الذي يبعث على الأسف". فالبلاغ لم يعتذر عن قرار العفو عن مجرم خطير، وإنما يرى فقط أن ما أسماه كاتب البلاغ "إطلاق السراح" يبعث على الأسف، وكأن التأسف هو ما سيرد لأولياء الأطفال وللشعب المغربي كرامتهم؛ ثانيا: لقد جاء في نفس البلاغ أن الملك لم يكن على علم بمضمون الأحكام الصادرة في حق البيدوفيلي، وهذا الأمر يستدعي التوقف عنده، لأن من المفروض أن يكون الملك على إطلاع بكامل تفاصيل الملفات التي يوقع عليها، فهو من يتحمل مسؤولية التوقيع، وهو من يواجه الشعب. فحتى في حالة خطئية الموظفين المحيطين به، فذلك لا يمنع مسؤولية الملك المباشرة، لأن أولائك الموظفين لم يخترهم الشعب ولم يعرفهم، وإنما الشعب يعرف الملك بصفته حاكم البلاد. ولهذا ناضلت الشعوب قديما وحديثا بأن ترتبط المسؤولية بالمحاسبة، وأن تحدد المسؤوليات، حتى لا تضيع حقوق الناس بين تعدد المسؤولين وتنوعهم؛ ثالثا: رغم أن البيدوفيلي الاسباني استفاد من قرار عفو صادر عن الملك وموقع من قبله، إلا أن البلاغ الأول خلى من أي ذكر لهذا الأمر، بل إن البيان يستعمل لغة غير قانونية وغير مفهومة؛ فالبلاغ يتحدث عن "على إثر إطلاق سراح ، المسمى دانييل" و" إنهاء إكمال دانيل لعقوبته" و عن " إطلاق السراح هذا الذي يبعث على الأسف"، وهي تعبيرات مقصودة طبعا، لأن إطلاق السراح أو إنهاء العقوبة من الناحية القانوينة يختلفان عن قرار العفو، فهذا الأخير يصدره الملك لدواع إنسانية وفي مناسبات دينية ووطنية، بينما إطلاق السراح وإنهاء العقوبة ينتجان عن حيثيات قانوينة صرفة. وهذا التغييب لذكر واقعة العفو لم يكن مجرد سهو عن الأمر، بل إن البلاغ يدرك جيدا أن الأمر يتعلق باستفادة مجرم خطير من قرار عفو ملكي وليس من خلال إطلاق السراح أو انهاء العقوبة، بدليل أن البلاغ نفسه تحدث عن العفو لما "أعطى التعليمات لوزارة العدل من أجل اقتراح إجراءات من شأنها تقنين شروط منح العفو في مختلف مراحله". فلماذا يعطي البلاغ التعليمات لوزارة العدل من أجل تقنين شروط منح العفو إذا كان البلاغ يتحدث عن إطلاق السراح؟ ولماذا كلمة العفو تُستحضر لما تُذكر وزارة العدل، في الوقت الذي تغيب فيه لما يتم الحديث عن المؤسسة الملكية؟؛ رابعا: جاء في البلاغ أيضا، أن الملك طالب بفتح تحقيق في الموضوع. ولكن السؤال هو من هي الجهة التي ستفتح هذا التحقيق؟ ومع من ستحقق هذه الجهة؟ فإذا كانت النيابة العامة هي من ستتولى التحقيق، فهل سيُتاح لها أن تحقق مع موظفي الملك؟ وإذا كان الديوان الملكي هو من سيُحقق في الواقعة، فهذا يعني أن نفس الجهة التي أصدرت قرار العفو هي من ستحقق مع نفسها. وهذا أمر معيب، ويفقد التحقيق استقلاليته، فماذا لو كشفت التحقيقات أن الموظفين لم يخطئوا، فمن سيتحمل مسؤولية إهدار كرامة أطفال مغاربة ومن خلفهم الشعب المغربي؟ خامسا: أما البلاغ الثاني، فلقد تضمن إجراءا عمليا، وذلك بتنصيصه على سحب وهنا سيتحدث البيان عن العفو وليس عن إطلاق السراح قرار العفو عن من أسماه البيان "دانييل" دون أن يصفه بالمجرم أو شيء من ذلك القبيل، كما أصدر الملك "أوامره المطاعة لوزير العدل قصد التدارس مع نظيره الإسباني بخصوص الإجراءات التي يجب اتخاذها عقب قرار سحب هذا العفو". لكن ما الذي يمكن أن تقوم به وزارة العدل بعد أن أصبح المجرم خارج البلاد؟ ألا يعرف الديوان الملكي أن القوانين تضمن الحقوق المكتسبة حتى ولو صدرت عن طريق الخطأ الإداري؟ لماذا لم يعمل الديوان الملكي على إعادة محاكمة هذا المجرم أمام القضاء الاسباني، وهو القضاء الذي يُسمح له أن يبث في قضايا ذات طابع دولي؟ سادسا: إن قرار سحب العفو عن هذا البيدوفلي لن يغير من الواقع شيئا، فلقد اكتسب حقا ولا يمكن الادعاء عليه بالخطأ، كان من الممكن أن يكون لهذا القرار مفعوله لو كان المجرم لا يزال على أرض المغرب، من خلال إعادة المحاكمة وليس من خلال إلغاء القرار، لأن القانون المغربي نفسه يعترف بالحقوق المكتسبة الناتجة عن قرارات إدارية ( لا نريد أن نتعمق أكثر في التفاصيل، ولكن تكفينا الاشارة إلى واقعة الطالبة التي أُعلن عن نجاحها بالخطأ، ومع ذلك ربحت حقها عندما سحبت منها إدارة الكلية نتيجة النجاح، وذلك عندما لجألت إلى القضاء الاداري، وهذه القضية معروفة في القانون الإداري إلى جانب قضايا أخرى). والأمر الذي يثير الاسغراب هنا حقّا، هو لماذا تم ترحيل هذا المجرم في نفس اليوم الذي نال فيه العفو رغم أن صلاحية جواز سفره منتهية؟ يجب على أولياء الأطفال ومعهم الشعب المغربي، ألا يعولوا على مثل هكذا قرار لأن نتيجته معروفة، ولن تتجاوز إستكمالا شكليا لمدة محكومية هذا المجرم داخل "السجون" الاسبانية، في ظل شروط متميزة. بل إن هذا الأمر قد يكون متعذرا في حالة اعتراض المنظمات الحقوقية الاسبانية التي تتبع لليمين الاسباني المعروف بعداوته لكل ما هو مغربي. وهو ما ستستجيب له الحكومة الاسبانية، التي تهتم بشعبيتها أكثر من اهتمامها بكرامة أطفال مغاربة؛ سابعا: بعد أن تأسف الملك لإطلاق السراح في البلاغ الأول، وبعد أن ألغى قرار العفو في البلاغ الثاني، فمن سيتأسف ويعتذر للذين تم قمعهم في الشوارع المغربية لما خرجوا احتجاجا على قرارات الملك؟ أليست تلك الاحتجاجات هي ما نبّه القصر الملكي على خطورة ما أقدم عليه؟ فهل هذا هو التقدير والشكر الواجب تقيدمهما للذين يهدون إليه عيوبه كما كان يقول "أمراء المؤمنون" الأولون؟ أوردنا هذا التعقيب لأننا على وعي تام بأن الكثير من المناسباتيين "سيتطوعون" للدفاع عن هذه المبادرة "الملكية السامية" وما تحمله من "قيم النبل ونكران الذات"، وهناك ما سيقول بأن "الملك يعتذر للشعب المغربي لأول مرة" بل سنجد من سيزايد على الأمم الديمقراطية بقوله "إن الملك هو أول عاهل يعتذر لشعبه عن قرار لم يعلم كامل تفاصيله"، وهناك من الأذكياء من سيقترح على الملك "جمع أولياء أمور الأطفال الذين اغتصبهم البيدوفيلي وتقديمهم الشكر الجزيل للملك على هذا التأسُّف"، أما الإعلام فتلك قصة أخرى. ولهذا يناضل البعض من أجل إقامة ملكية برلمانية يتحمل فيها رئيس الحكومة مسؤوليته الكاملة ويمكن ان تُسحب منه الثقة أو يسقط شعبيا إذا ما أقدم على مثل هذه القرارت، ولهذا أيضا يناضل البعض بما هو أكبر من ذلك. ملحوظة: إن الملك الاسباني الذي ألحَّ على أن يكون "البيدوفيلي" من ضمن لائحة الاسبان المعفى عنهم من قبل ملك المغرب، هو نفسه من اعتذر لشعبه عن رحلته لإفريقيا من أجل صيد الفيلة بينما كانت دولته تعيش أزمة اقتصادية، رغم أن تكاليف الرحلة لم تكن من أموال الشعب، ورغم أنه ليس من أغنياء البلد، ورغم أنها كانت رحلة قصيرة وليس رحلة تدوم لأكثر من 57 يوما. إن الفرق بين الاعتذار والتأسُّف هو ذاته الفرق بين نظام سياسي يسود فيه الملك ولا يحكم و بين نظام سياسي يكرس الملكية المطلقة. * باحث في القانون الدستوري وعلم السياسة