قوة ودلالات الألعاب الأولمبية يكثر الحديث عن عدم تفوق المغرب في المنافسات القارية كلما تعلق الأمر بالرياضة. يزداد النقاش وتعلو الأصوات أكثر، كلما تعلق الأمر بالفشل في المنافسات الدولية الكبرى، انطلاقا من كأس العالم لكرة القدم وبطولاتها المختلفة، وصولا إلى المنافسات ذات القيمة العالمية حضاريا وثقافيا واقتصاديا وإعلاميا، بنغمة سياسية قوية: نقصد بالذات الألعاب الأولمبية. نذكر في هذا السياق بأن شرف تنظيم هذه المنافسات العالمية الشاملة لكل الرياضات لا ينال إلا بالتوفر على بنيات تحتية رياضية وإعلامية وصحية، وفي ميداني المواصلات والنقل بأنواعه... غير خاف كذلك بأن فرصة تنظيم هذه الألعاب تعادل سنوات من التطور الشامل كما هو الأمر في تنظيم كأس العالم لكرة القدم بمعنى ما، حيث يربح البلد المنظم بنيات وحنكة وتجربة وأرباحا اقتصادية ودبلوماسية وسياسية وإعلامية، كما يكسب اعترافا عالميا قد يستغرق كسبه عشرات السنين في الأحوال العادية. لعل الجميع يلاحظ في هذا السياق القفزة النوعية التي حققتها إسبانيا نهاية القرن الماضي عند فوزها، بدعم أوروبي قوي، بتنظيم كأس العالم لكرة القدم ثم الألعاب الأولمبية. حصاد على قدر الحرث لا يمكن للمرء أن يحصد أكثر وأفضل مما يزرع، فالطبيعة لا ريع ولا حظ ولا يانصيب فيها، والله مع المثابرين المجتهدين المقتدرين. النخبة زبدة هرم عظيم هرم هو من المدارس والنوادي والجمعيات والبطولات والمعاهد والمكتبات والتواصل والبيداغوجيات والتعلُّمات والبرامج، تلتقي كلها تحت سقف استراتيجيات متوسطة وبعيدة المدى، هدفها ومركزها بدن وعقل ونفسية وسلوك أجيال قادمة قبل الأجيال القائمة. شبكة رياضات أحياء ورياضات مدرسية مُحكَمة التأطير ورياضة جامعية عالية المستوى ومندمجة في صلب التكوين الجامعي. كل ينبغي أن يكون مسنودا ومكتملا بشبكة ثقافة وفنون متساوية التوزيع عبر التراب الوطني: ليست التنمية تنمية للكائن البيولوجي فقط، فهي موجهة أيضا وبالضرورة إلى الكائن المفكر الضاحك المبدع والمتكلم والراغب. لن تحصل على بطل وأنت لم تمنح الفرصة لآلاف الممارسين في كل حقول الإنتاج والإبداع البشري في وطنك. هذا هو معنى الهرم المنتج للنخب. ماذا وراء الأكمة ما أسباب الفضل والاعتماد على الألق الفردي وعبقريات فريدة؟ تتعدد وتشتعل المآخذ والانتقادات أكثر مع تراجع فرص رفع العلم وعزف النشيد الوطنيين بين الأمم. نسجل في هذا السياق أن اللوم والعتاب والنقد متعدد المستويات، الذي تتعرض له مؤسسات وهيئات التخطيط والتأطير والتدريب والرعاية (نعني بالتحديد الوزارات المعنية والجامعات الملكية واللجان الأولمبية والمجالس العليا والمندوبيات وكل الجهات المتدخلة وفي التدبير والتسيير) يتكرر كُلما تعلق الأمر بالمنافسات دوليا، في ميادين أخرى بعيدة عن الرياضة، لكنها تحمل نفس الدلالات ونفس القيم. نقصد هنا بالذات ميادين التنافس الدولي في الثقافة والبحث العلمي والابتكار التكنولوجي والصناعي. في هذا السياق نشير إلى أن لا مجال للحديث عن الابتكار والإبداع في ميدان النظريات والمفاهيم والمناهج المُؤسِّسة للمعرفة العلمية والفلسفية الجوهرية والأساسية، فنحن خارج هذا المستوى كليا، حيث لا تتوفر الدولة على استراتيجية ولا على بُنًى لاحتضان هذا النوع من البحث العلمي والفكري والفني الرفيع والقاعدي لكل التطبيقات التكنولوجية للنظري. يدخل في نفس السياق مجال الإبداع الفني في الرواية والفيلم والتلفزيون والمسرح وغيرها. يتفاقم ويشتد النقد أكثر أمام الوضع الضعيف لقدراتنا التنافسية دوليا في الميادين المذكورة، لأن هذه المنافسات والمشاركة، الضرورية والإلزامية فيها، ذات فوائد جمة وطنيا. إنها منافسات تستدعي المشاركة فيها وتوقظ وتحرك الشعور الوطني والإحساس بالذات الجماعية، في سياق عالَمٍ يتَّسِم بدمقرطةِ وآنيَّةِ الخبر والمعلومة، وبهشاشة صيانتها من التزييف والتضليل والتطويع. لا يكفي في هذا السياق التعويل على حب الوطن الفطري والطبيعي وحتى المترسخ عبر السنين، فالمحبة غير الواعية والمسلحة بالحداثة الثقافية والتربوية، مثل اللطف في الشخصية وحسن النية الذي لا يكفي للإبداع والابتكار في ميادين المعرفة والمثابرة والذكاء والتفوق. كيف للمُعَطل الثانوي أن يُحقِّق انتصارات؟ والواقع أن المواطن المغربي المتتبع للسياسات العمومية ومنحاها الاستراتيجي يجد نفسه أمام تخطيطين أو لنقل رهانين يعمل المغرب عليهما ويسير في تنفيذهما بسرعتين مختلفتين قصد بناء وطن المستقبل. يتمثل الرهان الأول في تربية وتأهيل جيل جديد من الأطر والمقاولين والمُسيرين (قد يظهر بينهم استراتيجيون جُدد، فالمسألة تتجاوز التكوين إلى الموهبة والقدرة على الإبداع والذكاء وما هو غير تلقيني). نتحدث هنا عن جيل براغماتي وعقلاني وتكنوقراطي حتى النخاع. إنه رهان للانخراط في المنافسة الدولية، والقدرة على خوض غمارها إفريقيا على الخصوص (المجال الحيوي والمنطلق الإجباري والمنطقي جيو-استراتيجي لمغرب قوي صاعد). يتعلق الأمر هنا بمراهنة على قدرات منافسة في ميادين التقنية المالية والتجارية والدبلوماسية والهندسية العلمية المحدودة والمستجيبة لآليات المغرب اليوم في توسعه الإفريقي كالفلاحة والبنك والتجارة والفوسفاط والطرق والسكك الحديدية. لا وجود للرياضة والثقافة والفنون والإعلام هنا إلا بصيغة التابع والثانوي والتكميلي في أحسن الحالات! يحمل هذا الرهان وعودا كبيرة وإمكانيات هائلة، لتجاوز عجز النخب التقليدية في الوسط السياسي وفي دوائر الحكومة والأحزاب والمنتخبين، فيما يتعلق بالتخطيط والتدبير والتسيير التنفيذي وتنزيل التخطيطات الاستراتيجيات الكبرى. على هذا التنزيل للتخطيطات الكبرى أن يتم في سياق جدلية التنمية الداخلية والامتداد السياسي والدبلوماسي والاقتصادي الخارجي الضروري لهذه التنمية. لكن هذا الرهان يحمل أيضا تكريسا لمنظور تكنوقراطي سيكون ثمن تطوره وتكريس رؤاه واختياراته هو الثمن الذي كلفته وتكلفه الليبرالية الجديدة وما أفرزته لأوروبا وأمريكا والعالم الليبرالي. سيكون ثمن مراهنتنا على هذا الاختيار التكنوقراطي كبيرا، وهو الرهان الخاضع لوجود فارق كبير جدا بيننا وبين الليبراليين الكبار. يتمثل الفارق الذي نتحدث عنه هنا في انحسار بنيات الصناعات والإنتاج والإبداع الفني والثقافي لدينا، سواء في البنيات التحتية أو في شبكات الترويج والتداول والتواصل لكل ما هو ثقافة وفنون وإعلام تنويري مواطن (دور ثقافة وسينما ومكتبات ومتاحف ودور نشر ومطابع وأروقة عروض ومعهد تكوين في كل الفنون وتقنيات الاتصال والتواصل...). الثقافة والاتصال والشبيبة والرياضة! عند الجمع بين الثقافة والرياضة والشباب والاتصال والإعلام في التعديل الحكومي الأخير ظهر الأمر عبقريا في البداية عند الجمع بين هذه القطاعات الاستراتيجية الثلاثة لبناء صورة رائعة لبلادنا، ونخب قوية لها تنافس عالمي. لكن تعيين من يشرف عليها، والمسار الذي اتخذته لاحقا في سياساتها التنسيقية شكلا ومضمونا، أظهر أن الأمر كان صدفة قصيرة النظر لا تتجاوز تجميعا كميا لأغراض سياسية حزبية يصر على وضع كل ما يتعلق بالمواطن المغربي المفكر والمبدع والضاحك والمتكلم والكاتب والحر في آخر سلم السياسات الحكومية الرسمية. هكذا يصبح الفرق بين المغرب والدول المتقدمة ليبراليا مخيفا أكثر، من حيث تفاقم ضعف التحصين من تهديد انهيار القيم وضعف أدوار الأسرة والمدرسة وتنظيماتها الموازية في التنشئة الاجتماعية (إضافة إلى مستوى التعليم وفي كل مستوياته وجفافه من بعدي الرياضة والفنون والثقافة وتنمية القدرات على أجرأة المعرفة في الواقع). نقصد أن التكنوقراطي لا يحمل في هذا الرهان عليه، بطبيعة تكوينه الحاد على النجاعة والعقلانية والبراغماتية الرأسمالية، لا يحمل أي هم ثقافي أو قيمي أو إبداعي، ولا مزايدة على مواطنته بالطبع فهي ليست موضع تساؤل مطلقا. إن التكنوقراطي لا يدمج ولا يسمح له تكوينه بذلك، الثقافة والفكر والفنون عموما في صُلب رؤيته السياسية التقنية العملية- التطبيقية والإجرائية. خطة التكنوقراطي مُحددة الأهداف بمعايير كمية اقتصادية ومالية (لربما الأمني أقرب إليه لارتباطه بالنجاعة وبالمردودية من خلال انعكاسه عليهما. ماذا بعد إن تحديث البنيات التحتية من طرق وموانئ ومطارات وشبكات الهاتف والإنترنت وشبكات الماء والكهرباء إلخ، وتحديث الإدارة العمومية وإصلاح النظام الضريبي والجمركي وتنجيع الجهاز الدبلوماسي والقوانين الانتخابية وإصلاح القضاء ودعم استقلاليته وتحديث التربية والتعليم والرفع من مستوى دعم البحث العلمي، بل إنشاء مؤسسات للبحث العلمي وللإبداع الفني الأساسيين والجوهريين تحت حماية الدولة، كل هذا وغيره لن تكون له أي نجاعة وإنتاجية ومردودية على المستويين المتوسط والبعيد، إذا لم يكن ذلك متوازيا مع سن استراتيجيات جديدة، لعل النموذج التنموي آت بها عند تنزيله، تضع الحياة الثقافية بالمعنى العام للكلمة في صلب الحياة اليومية والسياسية والاقتصادية للدولة وللمجتمع معا، تنهل منها القيم النبيلة، وتحصن أخلاقياتها، وتغرس فيها معايير العقلانية والمسؤولية والواجب والتفتح واحترام الغير والفصل بين الخاص والعام والخصوصي والعمومي. عندما يصبح الكتاب (رمز كل ما سبق والحاضر الدائم رغم كل التقدم التكنولوجي في أقوى الدول حضاريا)، مرئيا، وهو اليوم غائب ومغيَّبٌ وخفِي بمعنى الكلمة، في المقهى والباص والقطار والحديقة والحي ..... وفي كل بيت مغربي، سنشرع في تحقيق انتصارات في المنافسات الدولية بالعمل وبانتظام وبتسارع، وليس بالصدفة.