في مجتمع المعلومات اليوم، غالبا ما يستخدم مصطلح السيادة الرقمية، إذ يشير دائما إلى البعد الرقمي للاستقلالية الاستراتيجية، أي القدرة على اتخاذ القرار والتصرف بشكل مستقل بشأن الجوانب الرقمية الأساسية لمستقبلنا على المدى الطويل في الاقتصاد والمجتمع والديمقراطية، يتعلق هذا باستخدام وهيكلة الأنظمة الرقمية نفسها، والبيانات المنتجة والمخزنة فيها، والعمليات الناتجة. لذلك فإن المصطلح الأفضل من السيادة الرقمية هو الاستقلال الذاتي الاستراتيجي الرقمي، ومع ذلك، في هذه المقالة، سنستمر في استخدام مصطلح السيادة الرقمية، لأنه مصطلح شائع. لذلك، تشير السيادة الرقمية إلى القدرة على التحكم في مصيرك الرقمي، البيانات والأجهزة والبرامج التي تعتمد عليها وتقوم بإنشائها. لقد أصبحت مصدر قلق للعديد من صانعي السياسة الذين يشعرون أن هناك الكثير من السيطرة التي يتم التنازل عنها لأماكن قليلة جدا، وخيارات قليلة جدا في سوق التكنولوجيا، ونفوذ كبير في أيدي عدد صغير من شركات التكنولوجيا الكبيرة. فماذا نعني بمصطلح السيادة الرقمية؟ وما هي أبرز تجلياته وركائزه؟ وإلى أي حد يمكن الحديث عن السيادة الرقمية بالمغرب؟ أولا: في مفهوم السيادة الرقمية لتشريح مفهوم سيادة البيانات أو السيادة الرقمية، يجب علينا أولا أن نتذكر الأهمية التاريخية والسيطرة القوية على الخطاب السياسي لمفهوم السيادة نفسه. ظهرت تدريجيا، خاصة في أوروبا، عبر قرون من الصراعات بين أنظمة السلطة والمناقشات الفلسفية والسياسية المكثفة، كما يتضح من كتابات جان بودان، غروتيوس، توماس هوبز، جون لوك، مونتسكيو أو روسو. وبغض النظر عن استخدامه في السياق الرقمي، فإن مصطلح "السيادة" يشير إلى القدرة على التصرف بطريقة مستقلة، دون هيمنة أجنبية. حيث تأثر المفهوم التقليدي للسيادة بشدة بالمنظر السياسي في القرن السادس عشر، جان بودان، الذي كان يعتقد أن سلطة اتخاذ القرار النهائية والحق الحصري في استخدام القوة في الدولة يجب أن تكون بيد الحاكم، صاحب السيادة. في القرن الثامن عشر، أعلن الفيلسوف التنويري جان جاك روسو عن تغيير جذري في فهم المفهوم، من سيادة الحاكم إلى سيادة الشعب. مع تطور الديمقراطيات الحديثة، سادت فكرة أن الشعب، من وجهة نظره، يمتلك أعلى سلطة في الدولة، ولكن يمكنه أن يعهد بها إلى حكومة ذات سيادة أو منتخبة لممارستها. لذلك، أصبح مصطلح السيادة الرقمية أكثر شيوعا في وسائل الإعلام وله مجموعة متنوعة من المعاني، وفي أحد التفسيرات هو قدرة الدول على التحكم في البنية التحتية الرقمية الخاصة بها وببيانات مواطنيها. ومع ذلك، نرى أن المصطلح يستخدم بشكل متزايد في سياق أوسع. أصبحت التقنيات الرقمية ساحة معركة للمنافسة العالمية القيادة وتؤدي إلى توترات جيوسياسية متزايدة باستمرار بين الولاياتالمتحدةوالصين (المعروفة أيضًا باسم الحرب الباردة التقنية). تدور المعركة بشكل أساسي حول الريادة في مجال الجيل الجديد من الاتصالات، تقنية الرقائق والذكاء الاصطناعي (AI). ترسم كل من الولاياتالمتحدةوالصين بانتظام بطاقة السيادة في هذا السياق. الرئيس السابق للولايات المتحدةالأمريكية ترامب قرر حظر التطبيقات الصينية الشهيرة -مثل TikTok وWeChat-لأنها ستقوض "الأمن القومي، السياسة الخارجية والاقتصاد" للولايات المتحدة. لم يكن مفهوم "سيادة البيانات" على وجه الخصوص موجودا تقريبا قبل عام 2011، بينما أصبح الآن جزءا من الخطاب الأكاديمي والعام. وغالبا ما يشير الخطاب السائد حول "السيادة الرقمية" إلى قدرة الدول القومية -خاصة الصين وروسيا وفرنسا- على تأكيد سيطرتها على البنى التحتية المقيمة داخل أراضيها والبيانات التي ينتجها مواطنوها. ومع ذلك، يتم التأكيد على العديد من المعاني الأخرى عند الحديث عن السيادة. فهناك خمسة أنواع من الخطابات أو وجهات النظر حول مفهوم "السيادة" كما ينطبق على الجانب الرقمي: 1- سيادة الفضاء الإلكتروني (Cyberspace sovereignty): له أهمية تاريخية لأنه يشير في المقام الأول إلى إعلان "استقلال الفضاء السيبراني" من قبل جون بيري بارلو في عام 1996، والذي أكد فيه المؤلف أن "الفضاء الإلكتروني" كان حينها منطقة جديدة لا ينبغي أن تنظمها الحكومات. بطريقة أكثر معاصرة (وأكاديمية)، يقدم ميلتون مولر منظورًا له صدى مع نفس الفكرة في "السيادة الشعبية في الفضاء السيبراني". بالنسبة لمولر، يجب أن تكون مشاركة أصحاب المصلحة المتعددين، كما تتم ممارستها حاليا في مؤسسات حوكمة الإنترنت مثل منتديات حوكمة الإنترنت (IGF) أو مؤسسة الإنترنت للأسماء والأرقام المخصصة (ICANN)، يجب أن تكون أساس السيادة في الفضاء الإلكتروني. 2- السيادة الرقمية للدولة (State Digital Sovereignty): ربما تكون الخطاب السائد اليوم وتشير إلى قدرة وجهود البلدان والدول القومية للتحكم في بياناتها وبنيتها التحتية التكنولوجية. كما يعتبر أيضا خطاب السيادة الرقمية بمثابة مجاز خطابي (ما يسمونه "العلامة التجارية للأمة") لتعزيز رؤية وطنية مميزة لما يجب أن تكون عليه الإنترنت. 3- السيادة الرقمية للشعوب (Indigenous digital sovereignty): مماثلة للمنظور السابق، ولكنها تشير إلى سيطرة الشعوب والأمم على بياناتهم وبنيتهم التحتية ومصيرهم على نطاق أوسع. إلى جانب مفهوم "سيادة الشبكة: network sovereignty" للإصرار على أهمية البنى التحتية التكنولوجية لانبعاث السكان الأصليين، والسيادة، وتقرير المصير. فالتكنولوجيا، من هذا المنظور، هي أداة حاسمة لتعزيز السيادة الأصلية. 5- السيادة الرقمية للحركات الاجتماعية: تشير إلى قدرة الحركات الاجتماعية ومجموعات الناشطين على التحكم في بياناتهم الخاصة باستخدام البرامج والخوادم والتقنيات القائمة على التشفير، وقدرتها على تطوير واستخدام الأدوات الرقمية التي تم تصميمها من قبلهم ومن أجلهم. 4- السيادة الرقمية "الشخصية": على الرغم من أن هذا المنظور بعيد كل البعد عن الهيمنة، إلا أنه يستحق الذكر لأنه يتعلق بالتحكم في تقنياتنا الخاصة. لذلك، يحتاج النشطاء الاجتماعيون إلى ضمان سيادتهم التكنولوجية، على سبيل المثال باستخدام برامج مجانية ومفتوحة المصدر أو أدوات اتصال مشفرة.. ثانيا: السيادة الرقمية في زمن COVID-19 عندما برزت جائحة COVID-19 في وقت سابق من عام 2020، انتقل الكثير من سكان العالم إلى الإنترنت، مما أدى إلى تسريع التحول الرقمي الذي كان جاريا منذ عقود. حيث بدأ الأطفال الذين لديهم إمكانية الوصول إلى الإنترنت من المنزل في أخذ دورات التعليم عن بعد، وبدأ العديد من الموظفين في العمل من المنزل، واعتمدت العديد من الشركات نماذج الأعمال الرقمية للحفاظ على عملياتها ودعم سمعتها. كما اعتمدت العديد من الشركات نماذج أعمال رقمية للحفاظ على العمليات والحفاظ على مصادر دخل معينة. وفي الوقت نفسه، تم تطوير تطبيقات الهاتف المحمول للمساعدة في "تتبع وتعقب" تطور الوباء؛ وقد استخدم الباحثون الذكاء الاصطناعي (AI) لمعرفة المزيد عن الفيروس وتسريع البحث عن لقاح. في بعض البلدان، زادت حركة الإنترنت بنسبة تصل إلى 60٪ بعد فترة وجيزة من انتشار الوباء، مما يؤكد التسارع الرقمي الذي أحدثه الوباء. بينما تُظهر هذه الأنشطة الإمكانات الهائلة للتحول الرقمي، فقد أدى الوباء أيضا إلى إبراز الفجوات المتبقية. في حين أن بعض الفجوات الرقمية قد تطورت بسرعة في السنوات الأخيرة، إلا أن البعض الآخر لم يواكبها، تاركا بعض الأشخاص وراء الركب في التسريع الرقمي الناجم عن COVID. بالإضافة إلى ذلك، أدى الاعتماد المتزايد على الحلول الرقمية إلى زيادة إلحاح المخاوف بشأن الخصوصية والأمن الرقمي وكيفية تحقيق السيادة الرقمية. لقد كشف Covid-19 عن الأهمية الحاسمة للتكنولوجيا في مرونة الاقتصاد والصحة. لذلك، استخدمت الحكومات البيانات في الوقت الفعلي ومتعقبات الأمراض التي تحدد حجم وانتشار وتوزيع فيروس كورونا الجديد (SARS-CoV-2 (COVID-19، الذي ظهر في عام 2019 للإعلام والتأثير في عملية صنع القرار وتطوير السياسات. تأثرت الشعوب بشكل غير متناسب بفيروس كورونا، سواء من خلال العدوى أو الوفيات أو الخسائر الاقتصادية أو التغيرات في التفاعلات الاجتماعية. بينما تحتاج الشعوب إلى بيانات مناسبة وجيدة التوقيت وذات صلة وجيدة لتوجيه استجابتها للوباء، فإن جمع هذه البيانات واستخدامها لا يخلو من المخاطر. ففي الأشهر الأخيرة، أثيرت مخاوف بشأن أضرار البيانات وخصوصية المجموعة، والموافقة، والمراقبة العنصرية، والاستهداف الخوارزمي والمزيد. ثالثا: ممكنات السيادة الرقمية بالمغرب لقد أظهرت أزمة كوفيد -19 الدور الحاسم للرقمنة في استمرارية أنشطة المواطنين والشركات والدولة. وفي العمل عن بعد والتعليم والأنشطة الاقتصادية والخدمات الطبية عالية الجودة ... كلها أنشطة تتطلب اليوم أن تكون متصلا. وبهذا المعنى، يوصي تقرير اللجنة الخاصة المعنية بالنموذج التنموي بفهم التكنولوجيا الرقمية باعتبارها وسيلة للتغيير المستمر، حيث يجب العمل على جعل الرقميات والقدرات التكنولوجية عاملا أساسيا في التنافسية وتحديث المقاولات وتطوير مهن وقطاعات جديدة تتماشى والتحولات العالمية. حيث تعد البنية التحتية الرقمية وقدرات اعتماد التكنولوجيات الرقمية محددات مهمة لتنافسية أي بلد، بالنظر للمكانة المتنامية للتكنولوجيات الجديدة ضمن جميع قطاعات الاقتصاد، وهو ما يتطلب خدمات رقمية موثوقة وذات جودة. ويمر تعزيز تنافسية الاقتصاد المغربي عبر مقاربة إرادية وحثيثة من أجل تعميم الولوج إلى الانترنت ذي الصبيب العالي في جميع جهات المملكة، وإلى الانترنت ذي الصبيب العالي جدا في مناطق الأنشطة الاقتصادية المكثفة. وينبغي أن يكون تأهيل البنية التحتية الرقمية مصحوبا بعملية تحسين سريعة للقدرة على استخدام التكنولوجيات الجديدة، بصفة خاصة، وذلك من خلال تكثيف عروض التكوين في مجال المهارات الرقمية والذكاء الاصطناعي وتسريع الاستراتيجية الوطنية للإدماج المالي عبر المالية الرقمية ومواكبة الرقمنة الداخلية للمقاولات بالإضافة إلى ضرورة مواكبة المقاولات الناشئة. وفي جانب السيادة الرقمية، يوصي تقرير اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي على استكمال الإطار القانوني الهادف إلى ضمان الثقة الرقمية للمستعملين والسيادة الرقمية للمملكة. وفي هذا الصدد، يجب تسريع وتيرة إنتاج النصوص القانونية والمراسيم التطبيقية المتعلقة بالجرائم الإلكترونية والملكية الفكرية وتدبير المعطيات الشخصية، وكذا وضع إطار مؤسساتي يضمن الاعتراف القانوني الكامل بالتفاعلات الرقمية والقيمة القانونية للوثائق الرقمية من خلال التوقيع الإلكتروني والتعريف الرقمي الموحد للمواطن، مع الحرص التام على احترام الضمانات المتعلقة بحماية المعطيات الشخصية. وهنا، لا بد من التطرق لوكالة التنمية الرقمية بالمغرب المعروفة اختصارا ب(l'Agence de développement du digital (ADD))، وهي مؤسسة استراتيجية تتمتع بالشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي، تم إحداثها بموجب القانون رقم1661، الصادر بالجريدة الرسمية رقم 6604 بتاريخ 14 شتنبر2017. تسهر هذه الوكالة، التي تخضع لوصاية السلطة الحكومية المكلفة بالاقتصاد الرقمي، على تنفيذ استراتيجية الدولة في مجال التنمية الرقمية وتشجيع نشر الوسائل الرقمية وتطوير استخدامها بين المواطنين. تتولى وكالة التنمية الرقمية مجموعة من المهام التي تهدف إلى هيكلة المنظومة الرقمية والعمل على خلق فاعلين متميزين في الاقتصاد الرقمي. كما تهدف إلى تشجيع الإدارة الرقمية عبر تقريبها للمرتفقين (المواطنين والمقاولات) مع وضع الأطر المرجعية للمنتوجات والخدمات الرقمية. هذا بالإضافة إلى التقليص من الهوة الرقمية ودعم الثورة الصناعية 4.0، والقيام بإدارة التغيير للمجتمع من خلال التكوين والتحسيس. كما تعمل الوكالة على تشجيع البحث والتطوير والحث على الابتكار الاجتماعي والمقاولاتي وضمان شمول رقمي مسؤول ومستدام. السيادة الرقمية ليست مرادفا للحمائية ولكنها "تصف قدرة الأفراد والمجتمع على تشكيل التحول الرقمي بطريقة يحددونها بأنفسهم". فالابتكار التكنولوجي يجب أن يكون في خدمة الإنسانية، وليس العكس وأن الالتزام بإنترنت عالمي مشترك وحر ومفتوح وآمن هو في الواقع تعبير عن السيادة. تعطي فالسيادة الرقمية يجب أن تكون ذات بعد إنساني، فالإنترنت لا يمكن ولا ينبغي أن تتشكل من قبل الدول والحكومات فقط، لأنها تهمنا جميعا، وبالتالي يجب أن يشارك الناس ويتحكموا في بياناتهم.